الملحدون في ديارنا
الملحدون في ديارنا
أ.د. عماد الدين خليل(*)
الملحدون في ديارنا يتغابون مرتين!! بعدم إدراكهم، أو محاولة إدراكهم للحقيقة الكونية، ومرة بعدم حمايتهم لمصالحهم! فها هي ذي الحقيقة الكونية تخالفهم تماماً، تشهد بإحكام بنائها، وانضباطها المدهش، ودقة صنعها، وتسييرها المعجز لملايين السنين، دون أن يصيبها الخلل، بأن وراء هذا كلّه إله واحد، صانع، مدبر، قدير، مهيمن، لا تأخذه سنة ولا نوم.
وتتهاوى إزاء هذه الحقيقة كل الاحتمالات والفلسفات والمبادئ والدعاوى، التي رفضت الوجود الإلهي الحاكم على الكون، ثم دخلت في جملة متاهات تصل أحياناً حدّ السخف الفج الذي لا يقبله عقل ولا منطق ولا علم جادّ..
ولعل الماديّة الديالكتيكية التي قالت بها الماركسية يوماً تقدم وسيلة إيضاح لهذا.. فهي تقول: إن التطوّر الكوني إنما يقوم في أساسه على تنامي الكميات التي سرعان ما تتحول (ولا يدري المرء من الذي يقوم بتحويلها) إلى متغيّرات نوعية تمضي بالبنية الكونية إلى أهدافها!!
ويتذكر المرء، إزاء هذا الذي يسميه "سوليفان" في "حدود العلم": "السخف الطائش"، ما سبق وأن قاله المفكر الإنجليزي "ألكساندر جري" في تعليقه على هذا التغيّر الفجائي من الكم إلى النوع، من أننا لو جئنا بجذع شجرة، وتركناه في الغابة بانتظار أن يتحول نوعياً إلى منضدة ذات قوائم أربعة، ومجرّات لتخزين الأوراق، وسطح أملس صالح للكتابة، ألف سنة، بل آلاف السنين، فإننا سوف لا نجد الجذع قد حقق - بذاته ودون تدخل من أحد - هذه القفزة النوعية لكي يصبح منضدة صالحة للكتابة.. فكيف - إذن - يبرّر الديالكتيكيون كل المعطيات الكونية المحكمة، والماضية إلى أهدافها الغائية المرسومة بذلك القدر من الضبط والدقة، كما يبرّرون تحوّل جذع الشجرة إلى منضدة صالحة للكتابة؟!
ويتغابى الملحدون في ديارنا مرة أخرى بعدم حمايتهم لمصالحهم!! ذلك أنه ما من عقيدة أو دين أو مذهب في العالم تتحقق في شبكة تعاليمه مصلحة الإنسان كهذا الدين.. والحديث في هذه المسألة يطول، ويتطلب مئات الصفحات وألوفها لتأكيد ذلك التوافق المدهش في بنية الإسلام، بينه وبين مصلحة الإنسان.. ولكننا سنقف في هذا المقال الموجز لحظات عند دور الإيمان الإسلامي في حماية ظهر الإنسان، وكم أن الذين يرفضون هذا الدين إنما يتخلون عن حماية مصالحهم النفسية والاجتماعية والاقتصادية..
ذلك أن هذا الدين هو الوحيد الذي يعلن الحرب على "الغيبة"، ويعتبر الطعن على المنتمين إليه، من هذا الطرف أو ذاك، كأكل لحم الأخ، الميّت، تنديداً وتنفيراً من هذه الممارسة السافلة التي استشرت بين الناس، وأصبحت قدراً لابد من ممارسته في أي مجلس أو مناسبة أو اجتماع أن يطعنوا ظهور أولئك الذين كانوا إلى جوارهم قبل لحظات، ويشنعوا عليهم، وقد يتهمونهم بأبشع المواصفات، ويرمونهم بأقبح الأفعال.
إن بمقدور أي واحد منا أن يتصوّر مدى الغلّ والحقد والأذى الذي سيتناوشه ضد أولئك الذين اغتابوه، بمجرد أن يعلم ذلك، وكيف أن هذا سيقود إلى واحدة من أشد صيغ التمزق الاجتماعي ضراوة وعنفاً...
ها هو هذا الدين يتقدم لحماية الإنسان الفرد والجماعة المسلمة من مصير كالح كهذا، فيعلن حربه على الظاهرة، ويدعو إلى استئصالها من جيوب حياتنا الاجتماعية من أجل أن تغدو هذه الحياة جميلة وضيئة، متحابة منسجمة متجانسة، كما أراد لها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أن تكون، وهو الدين الوحيد الذي يحمي شرف الإنسان من الاختراق والعدوان، بشبكة من التشريعات والعقوبات التي تجعل الإنسان يغادر داره وهو مطمئن أشد الاطمئنان إلى إخلاص زوجته له، وإلى أنها لا تخونه أو تخدعه، وإلى سلامة انتماء الأبناء والذراري إلى صلب آبائهم الحقيقيين!!
على العكس تماماً مما تشهده الساحات الغربية من خيانة الزوج لزوجته، وهذه لزوجها، واختراق شرف العائلة، والتلبيس على الذريّة..
ولقد أتيح لي أن أقرأ عبر الأشهر الأخيرة العديد من الكتب عن كبار أدباء وفناّني ومفكري الغرب، فلم أكد أجد واحداً منهم لم يتخذ عشيقة، بل عشيقات من وراء زوجته، بل على مرأى ومسمع منها، وهذه - ربما - من وراء زوجها.. بل على مرأى ومسمع منه! كأن الأمر مسألة طبيعية في تراثهم وتقاليدهم.. ويجيء الأبناء وهم لا يدرون - تحديداً - من هم الآباء، وتختلط الأمور، ويدخل الحابل بالنابل.
الملحدون في ديارنا يتغابون مرتين.. مرة بعدم إدراكهم للحقيقة الكونية.. ومرة بعدم حمايتهم لشرفهم ومصالحهم.. وبين الاثنتين عشرات من المواقف والتصوّرات التي تميل بهم عن جادة الصواب.. وجادة الصواب هو هذا الدين: "وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون" (الأنعام: 153).
(*) مفكر إسلامي – أكاديمي عراقي