حقن دماء السوريين
ما يحفظه السوريون لأديب الشيشكلي
زهير سالم*
يتحدث الكثيرون اليوم عن ضرورة ( حقن دماء السوريين ) ويستعملون تعابير بلاغية مؤثرة لتوظيفها في الدعوة المتعددة الأهداف لمشروع من عناوينه ( الوقف الفوري للقتل ) . ( وقف شلال الدماء ) (الاحتكام إلى العقل ) و( الحل السياسي ) ..
تبدو هذه العناوين دائما منحازة إلى خيمة الحكمة والتفكير العملي والنزوع السلمي ، والشفقة الأخلاقية الإنسانية المنزع . ولا يغفل أصحاب هذه العناوين عن الحديث عن معادلة ( الشاطر والمشطور والكامخ بينهما ) . أي الحديث عن قوتين متصارعتين هي قوة النظام التي تمثل الشرعية – في رأيهم - وقوى المعارضة المسلحة التي يناط بها خطاب التعقل ليصيروا إلى البكاء أوالتباكي أخيرا على الشعب السوري الذي يسحق باصطكاك الحجرين ..
لا يخفى على عاقل أن أكثر العازفين على هذا الوتر هم من شركاء النظام في الباطن ، الذين لا يجرؤون على إعلان تأييده المباشر ، فيختبئون دائما وراء عناوين الخوف على السيادة السورية ، وبناء الدولة ، ومخاطر التدخل الخارجي ، وتفويت المصلحة الصهيونية ، حيث يخلصون إلى أن المستفيد الوحيد من الصراع الدائر هو العدو الصهيوني ويزيد هؤلاء في كثير من الأحيان النشيج المفتعل على الدم السوري ...
لا أحد يدري لماذا تثار هذه العناوين في وجه شعب يطالب بحقوقه الأولية : حريته وكرامته وحقه بالشمس والهواء ولا تثار في وجه ظالم مستبد ويطالب على أساسها بالرحيل عن سورية خوفا على سيادتها ، وتفويتا للفرصة على الأعداء الخارجيين المتربصين ، وحفاظا على بناء الدولة ، وانحيازا إلى جانب المشروع الوطني ضد المشروع الصهيوني وحقنا لدماء المواطنين السوريين . لماذا يعتقد أو يعتبر هؤلاء المراوغون أن من حق بشار الأسد من أجل الحفاظ على سلطة اغتصبها أن يهدد كل هذا الذي يتظاهرون بالخوف عليه وهو الظالم المستبد ؟! ولماذا يجب على الشعب السوري أن يضحي بركائز كينونته الأساسية لكي يوفر للمستبد فرصة أطول للاستمتاع باستعبادهم على مقعد نمرود ينادي فوق رؤوسهم ( أنا أحيي وأميت ...) . ودون أن ننسى اللعبة الخبيثة لهؤلاء وهم يحاولون أن يصوروا الصراع بين ( معارضة ونظام ) وليس كما هو على حقيقته صراع بين شعب أراد الحياة وبين ظالم مستبد وعصاباته من القتلة والمغتصبين .
والحق الحق نقول كل السوريين حريصون على سيادة الدولة ، متخوفون على بنيانها ومؤسساتها ومتحسبون من نتائج التدخل الخارجي في شؤونها ، وحريصون على حقن كل قطرة دم من جميع أبنائها على السواء . ولكن حين حوصر السوريون بين أن يدفعوا ثمن هذا من دمائهم أو من كرامتهم ، فقد استسهلوا أن يدفعوا الثمن الأول على الرغم من قداسته لديهم . حماية هذه الاستحقاقات جميعا يجب أن ترفع في وجه بشار الأسد وعصابته فهم وحدهم المسئولون عن كل ما يمكن أن يجري وهم وحدهم القادرون على اختصار طريق الآلام على سورية وشعبها .
القبول بالانكسار المعتبر
كنت في السادسة من عمري عندما رحل أديب الشيشكلي عن سورية . ما زالت ذاكرتي تحتفظ بالعبارات القاسية التي ودع بها السوريون الضابط الانقلابي . الذي وصف كثيرا في ذاكرة السوريين كرئيس مستبد ومزاجي . صادر الحياة السياسية . ولاحق السياسيين . وسبق إلى تجربة الجبهة الواحدة . ولكن عندما واجه إمكانية الخوض في حمام الدم السوري آثر أن يقبل بما أدعوه اليوم الانكسار المعتبر . الانكسار الذي حسب لصاحبه بعد سنين طوال .بعد أن هدأت بلابل الناس وأعاد الناس الحسابات . انسحب أديب الشيشكلي من المشهد السوري وهو يملك الكثير من أوراق القوة . لم يقاتل من أجل السلطة حتى الدبابة الأخيرة او الطلقة الأخيرة أو قطرة الدم الأخيرة. ما يزال السوريون يحتفظون لرئيسهم ذاك بتلك النقطة المضيئة . رغم ما زعمت أن ذاكرة ابن الست سنوات ما زالت تحتفظ بما ردده السوريون وقتها في وداع الرجل .
هل هناك فرصة اليوم لرجل ما أن يعلن انكساره هذا ، فيتجنب على الصعيد الشخصي مصير القذافي ؟! ويجنب ما تعودنا أن نسميه ( سورية الوطن ) الكثير من الويلات ؟! ربما .. وربما يقال إن الفرصة أضيق بعد عشرين ألف شهيد ولكن أن ترحل متأخرا جدا جدا أقل شرا من أن تبقى حتى آخر رصاصة أو آخر قطرة دم في شرايين السوريين . السفير الروسي في باريس عاد للحديث عن خروج حضاري !!!! يهمنا أن نعصم دم طفل سوري آخر يمكن أن يسقط قبل أن ننشر مقالنا هذا.
* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية