عودة ذي الوجه الكئيب!
أ.د. حلمي محمد القاعود
هذا عنوان قصيدة شهيرة للشاعر الراحل صلاح عبد الصبور كتبها عقب أحداث مارس عام 1954م ، التي انتهت بسيطرة عسكر 52 على مقاليد الحكم ، واستيلاء البكباشي جمال عبد الناصر على مفاصل الدولة ، ومصادرته حرية الشعب ، وإدخال المواطنين زنزانة كبيرة بحجم الوطن . صور صلاح في هذه القصيدة صاحب الوجه الكئيب ، كما صور مصر في ظل عرسه الدموي . يقول في مطلعها :
[ هل عاد ذو الوجه الكئيب؟ / ذو النظرة البكماء والأنف المقوس والندوب / هل عاد ذو الظفر الخضيب؟ / ذو المشية التياهة الخيلاء / تنقر في الدروب! / لحنًا من الإذلال والكذب المرقش والنعيب / ومدينتي معقودة الزناد/ عمياء ترقص في الظلام / ويصفر الدجال والقواد والقرّاد والحاوي الطروب / في عرس ذي الوجه الكئيب!..] .
كان اللواء محمد نجيب قائد حركة الضباط الأحرار رجلا طيبا ومخلصا ، وكانت لديه الرغبة في تحقيق آمال الشعب المصري وأمنياته التي عبر عنها عبر عقود مضت ، وتتلخص في الاستقلال والحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وبناء جيش قوي ، وكان محمد نجيب الرجل البسيط راغبا بصدق في تحقيق هذه الآمال والأمنيات ، فقام بعد شهرين من الانقلاب العسكري بتوزيع الأراضي على الفلاحين ، وأخذ في تطهير جهاز الدولة من الفاسدين والمرتشين ، وراح يستعد لبناء ديمقراطية حقيقية في البلاد ، وأحبه الشعب المصري حبا جما .. ولكن الضباط الشبان بعد أن ذاقوا حلاوة السلطة غدروا بالرجل الطيب المخلص الذي تحمل المسئولية الأولى في الانقلاب ، وأقالوه من منصب رئيس الجمهورية ، واعتقلوه في فيلا زينب الوكيل بالمرج حتى ذهب من اعتقله وأذله وحرمه من تشييع جنازة ولديه حين ماتا ، وأهان الابن الثالث الذي اضطر للعمل سائق تاكسي كي يعيش ، ويتذلل للمسئولين الصغار من أجل الحصول على شقة في المساكن الشعبية !
الضابط جمال عبد الناصر سيطر على كل شيء في الوطن بعد أن نكل بالقوى السياسية جميعا ، ودفع الجيش المصري للقتال في حروب كارثية عبثية ، كانت نتائجها هزائم قاصمة للظهر ( سيناء 56 – اليمن 62 – يونية 67 ) مازلنا نعاني من آثارها حتى اليوم ، بالإضافة إلى تحويل مجموعات من المصريين المتسلقين إلى جواسيس (جستابو ) على أهليهم وذويهم ومواطنيهم ( منظمة الشباب الاشتراكي – التنظيم الطليعي - تنظيمات سرية أخرى غير معروفة تماما ..) ، كما حول الصحافة والثقافة والإعلام والتعليم والعدل لخدمة ديكتاتوريته وطغيانه وتسويغ جرائمه ! وصار الدجال والقواد والقرّاد والحاوي الطروب يغني في عرس ذي الوجه الكئيب كما يشير صلاح عبد الصبور.
لقد ترك سلالة من أتباعه ولابسي قميصه وصلت إلى أيامنا ؛ يلبسون الحق بالباطل ، ويدلسون ويضللون ، من عينة صبري عكاشة حامل الإعدادية الصناعية وكل " العكايشة " الذين باعوا دينهم بدنياهم ، وبعضهم لا يتورع عن لعق البيادة العسكرية أو البوليسية من أجل تحقيق مآربه الرخيصة وأغراضه الخسيسة ..
وها هو أحدهم لا يجد غضاضة في دعوة الجيش إلى الانقلاب على الثورة والقضاء على الإسلام ، باسم الدفاع عن الدولة المدنية ، ويقول بلا خجل : " لأننا في لحظة يتهدد فيها الخطر الدولة المصرية كما لم يحدث من قبل، هنا علي الجيش أن يدافع عن مدنيتها وطابعها والأسس التي قامت عليها الدولة من تأسيسها .." عكاشة الذي خدم نظام مبارك وسعى إلى الفتات الذي يلقى إلى أمثاله يريد عودة ذي الوجه الكئيب مرة أخرى ، لأن من يتبعهم لم ينجحوا في الانتخابات التشريعية والرئاسية ، وأن من كان يخدمهم في عهد المخلوع لم يظفروا بالاستيلاء على مصر الثورة والهيمنة عليها.
إن هذا التعيس وأمثاله من خدام البيادة يظنون جهلا وقصورا وغباء أن الدولة الإسلامية هي الدولة الدينية التي أقامها الكاثوليك في العصور الوسطى ، ونسي التعيس أن الإسلام ليس فيه رجال دين ، ولا يعرف ما يسمى بالحق الإلهي الذي يملكه رجال الكنيسة ، وليس في الإسلام صكوك غفران أو حرمان ، وقد سجل التاريخ أن الإسلام هو الذي حرر أوربة من الدولة الدينية التي تحالفت مع الإقطاع في الأيام المظلمة !
المفارقة أن أحد أصدقاء التعيس نبهه إلى خطورة دعوته الفجة إلى الانقلاب العسكري ، فراح يتناقض في كلامه ويحاول التراجع ، ويشرق ويغرب ، ويتكلم عن الجيش الذي سيسقطه الإخوان ، وهوية مصر التي يتهددها الخطر ، ويذكر الفراعنة والبطالمة والغزاة حتى عصر محمد على ، دون أن يشير بكلمة واحدة إلى الإسلام الذي صنع هوية مصر ، وهضم الحضارات الماضية والمعاصرة جميعا ، وجعلها قائدة العالم الإسلامي رغم أنف الشيوعيين الحكوميين وخصوم الإسلام من كل الاتجاهات ، وكأن الجيش فرقة كشافة مدرسية ، وكأن مصر لعبة أطفال يحركها الأطفال كما يريدون .
لقد قال له صديقه الذي عده من تحويشة العمر وفقا لتسمية صديق آخر سمى مبارك المخلوع بالنسر الأعظم :
" إنني يا صديق العمر أشاركك رؤيتك لتاريخ جماعة الإخوان المسلمين، بل قد أزيدك من الشعر بيتا، ولكن أرجو أن تتفق معي أن الجماعة قد خاضت الانتخابات حاسرة الوجه دون محاولة للتخفي خلف راية أخري كما حدث حين تخفت خلف حزب الوفد أو حزب العمل الاشتراكي أو بالتنسيق مع الحزب الوطني. هذه المرة برح الخفاء ولم يعد هناك مجال للاحتجاج بأن الناخبين المصريين لا يعرفون جماعة عمرها ثمانون عاما ظلت محظورة قانونا لحقبة طويلة وظلت مستهدفة من غالبية الأصوات الحكومية والليبرالية لكشف عوراتها.
حين تختار الغالبية النسبية للناخبين المصريين الذين أدلوا بأصواتهم مرشح هذه الجماعة، فواجبنا أن نراجع أنفسنا ومواقفنا. علينا أن نحافظ علي احترامنا للشعب المصري الذي أشدنا طويلا بحكمته وتاريخه الحضاري. ليس مطلوبا أن نتخلى عن رؤانا السابقة ولكن علينا أن نفهم لماذا لم يقتنع الشعب المصري بتلك الرأي رغم إيماننا بصوابها؟ ...".
صبري عكاشة حامل الإعدادية الصناعية مشغول بالمماليك والشيخ محمد أحمد ابن إياس الحنفي مؤرخ مصر الإسلامية في نهاية العصر المملوكي وبداية العصر العثماني ، ليسلخ منه مالا يحق له ، وليدلل على غزو الإسلام لمصر ، وليصنع من نفسه شهيدا ، ويزعم أنه لا يخاف إلا الخالق جل وعلا ، بينما يحارب دينه ووحيه ونبيه - صلى الله عليه وسلم - باسم الحداثة والتقدمية والدولة المدنية و" طشة الملوخية " التي أشار إليها زميل له من أبواق مبارك المخلوع !
ترى متى يكف العكايشة عن تلميع البيادة العسكرية ، وينحازون إلى الشعب المصري المسلم؟