جدلية الوعظ الديني

وتسفيه العقل المسلم

علي الكاش

كاتب ومفكر عراقي

[email protected]

يدعي وعاظ السلاطين العلم والمعرفة بشئون الدين، لذا فهم يحتكرون الفتاوى ويتاجرون بالوعظ كمصدر للإرتزاق، والويل كل الويل لمن يُكسد تجارتهم أو يهدد مصالحهم وينافسهم على امتيازاتهم. حيث سيقع في أفخاخ قاتلة ومخاطر في غنى عنها، منها فخ التكفير والردة والارهاب! ومن توافه وعاظ السلاطين إنشغالهم وإشغال الناس بمواضيع هامشية لا تقدم بل تؤخر، وتعكس تخلفهم وجهلهم وسخافة عقولهم وعقول من يتبع خطاهم. توافه تجعلهم إضحوكة عند بقية الشعوب مثل إطالة اللحى وحلق الشارب ولبس النقاب والخمار وإرضاع الكبير وفتاوى هزيلة تصلح كنكات وليس كفتاوى فقهية.

يعتبر وعاظ المنابر الحسينية والصوفية من أشد الأسلحة فتكا بالمواطنين ومن المؤسف ان لاتكون هناك ضوابط لتحديد مواضيع خطب أيام الجمع والمناسبات الدينية فكل يدلو بدلوه كما يشاء. لا حسيب ولا رقيب في ظل موت الضمائر وتغييب العقول. انطوى الوعاظ تحت أبط السياسيين و ظل ديمقراطية الفوضى الخلاقة التي حلقت لنا النهب والسلب والقتل والفقر والفساد المالي والاداري وملايين الأميين والايتام والأرامل والعاطلين، ليغطوا على فضائحهم وفضائح اقرانهم السياسيين. بدلا من ان يكونوا لنا العون والرجاء ضاعفوا علينا البلاء والشقاء. سحبوا يد العون منا ومدوها للخونة والمفسدين. لم تشغلهم معاناتنا ومصائبنا وكيف تشغلهم وهم أحد أسبابها والمستفيدين من نتائجها. إنشغلوا وأشغلونا معهم بصغار الأمور تركوا عظائمها. فويلهم من غضب الله وعذابه.

لم نجد تدخلا من زعماء  الأحزاب الدينية الحاكمة حماة الدين والدنيا في هذا المشكل بحكم طائفيتهم المعلنة، ولأنهم مستفيدون أيضا من قيام الوعاظ بتوجيه الناس الى مواضيع هامشية تشغلهم عن فساد الحكومة. لذا ليس من الغرائب أن نشهد تصعيد طائفي من قبل الوعاظ مع أية أزمة سياسية يمٌر بها البلد فينشغل الناس بها. كما لايوجد إعلام وطني شريف داخل العراق يمارس دوره الرقابي على الحكومة والمؤسسات الدينية أو دورا رقابيا على الوعي الجماهيري، فيستنهض الهمم والطاقات الإبداعية ويستحدث قيم إيجابية تعبر عن واقع الحال ويحد من ظواهر التخلف وتغييب العقل الجمعي.

لذلك ليس من العجب أن يتظاهر الناس لتقليل مستوى الفساد بدلا من  قطع دابره من الجذرو! وهذا يفسر أيضا سكوت المؤسسات الدينية والمرجعيات أزاء ما يحدث من فساد حكومي. ويفسر أيضا سكوتهم عن إالخطب التحريضية التي تزرع الكراهية والبغضاء بين أبناء الوطن الواحد والدين الواحد. صحيح هناك منابر حسينية وسنية تُشدد على روح التآلف والتآخي والمودة بين العراقيين ولكنها غير فاعلة على الساحة أمام عنف  الموجة الطائفية التي تكتسح كل القيم النبيلة من أمامها وتجرفها إلى مستنقعها الآسن.

لقد شوه وعاظ المنابر صورة الإسلام النقية ومسخوا الدين الإسلامي السمح بالمذاهب الشاذة البعيدة عن روح الإسلام وجوهره، وعبثوا بقيم السماء لتتناغم مع أهوائهم. سيما أن معظم أتباعهم من العوام والأميين والجهلة الذي يعتبرون ما يتحدث به الواعظ هو الدين  نفسه حتى لو كان حديثهم مناقضا بل كفرا بالدين نفسه! لذا فإن جهل وأمية الرعيه هو درع رجال الدين الذي يحمي مصالحهم. فهؤلاء هم يد الطغاة والمستبدين على رعيتهم، صدق خير الدين التونسي بقوله" إن حكم الطغاة لا يولد إلا في البيئة الفاسدة، ولا يستمر إلا في المجتمع الجاهل، الذي يفقد وعيه وإحساسه بالحرية ". كتاب أقوم المسالك. فهم الذين كسروا بيضة الإسلام بأقدامهم، وجرده من لبٌه الطيب وحشوه بالكذب والتحريف والتدليس والتخريف فأمسى دينا لا علاقة له بالإسلام، بل نسخة مشوهة تثير التقزز والإستهزاء وتناقض العلم والمعرفة والوعي والنضوج العقلي.

لايمكن ان نجرد وعاظ المنابر من العلم والمعرفة لأن الجهل يبرأ ساحتهم من بعض المسئولية وليس كلها. ولايمكن ان نجردهم من إسلامهم او تَلقنهم بعض من علوم الدين سواء عن طريق الدراسة الدينية أو التلقين او الجهود الذاتية. ولا يمكن أن نجردهم من رضا الحكومة ومرجعياتهم الدينية وإلا كيف اعتلوا المنابر ليتقيئوا بسمومهم على الجهلة والسذج. لكن هذه الصفات لا توفر لهم الغطاء الكافي للوعظ والإرشاد. ولا تمنعنا من وصفهم بتجار الدين وتحميلهم الجزء الأكبر من مصيبتنا. فهم من دفع الناس لإنتخاب الفاسدين، وهم من زكى الضالين، وهم من بارك العملاء و يحميهم لحد الآن رغم كشف الحجاب عنهم. فهل هناك صفاقة اكثر من هذه؟ وهل هناك حماقة اكثر من التفاف البعض حولهم؟

من يرى الحشد الكبير من المصلين الذين تكتظ بهم باحات المساجد والحسينيات ويسمع رفع الآذان مع نغمة الإيمان الرائعة" اللهم صلي على محمد وآل محمد" تردد صداها الأرض والسماء معا، سيفرح للوهلة الأولى ويظن ان الإسلام بخير، والمسلمون معتصمون بحبل الله، ولكم ما ان يبدأ الواعظ بالخطبة ويسمعه يتحدث بكلام ما أنزل الله به من سلطان حتى يدرك بأن الإسلام في أزمة حقيقية. وعندما يستمع الى جمهور المصلين وهو معجبون أشد الإعجاب بأحاديث المعجزات والخوارق والتدليس والتخريف ويقاطعون هراء الخطيب بهتافهم" اللهم صلي على محمد وآل محمد" سيدرك إن الإسلام في محنته الكبرى، وإن رجال الدين هم أعداء الله ورسوله الذين أدغموا الباطل بالحق، والحق بالباطل قصدا أو جهلا، ولم يقفوا عند حد العبث بالمعاملات بل إجترءوا وتجرأوا على العبادات أيضا.

إنهم يُخرجون بعض تعاليم الإسلام من باب ويدخلون من باب آخر تعاليم أديان ومذاهب أخرى كاليهودية والنصرانية والمجوسية والهندوسية والزرادشتية بالإضافة إلى فلسفات أجنبية تتعارض مع مقاصد الشريعة وتقوضها. ويدعون بكل وقاحة انهم يمثلون مذهب آل البيت بمعنى الإسلام الصحيح. يُخرجون رموز اسلامية كبيرة كالخلفاء والصحابة والسلف الصالح من باب الصلاح والإصلاح ويدخلون قتلة وكفار وخونة محلهم.

يُخرجون العفة والزواج من باب الطهارة ويدخلون محلهما الزنا والمتعة والنكاح من الدبر. يُخرجون الصدق والاخلاص والنوايا الحسنة من باب البر ويدخلون محلها التقية اي النفاق والتزلف والمداهنة. يُخرجون الذات المقدسة من باب الحكمة والعلم ويفتحون باب البداء للشيطان. يطردون الرسل والأنبياء من مجالسهم العلية ويجلسون الأئمة والأولياء محلهم. يُخرجون الجهاد من بابه الفرائض ويُدخلون بدلا عنه الخنوع والمذلة وانتظار المنقذ.

واحد من نماذج مهرجي المنابر الحسينية هو عبد الحميد المهاجر الذي يسيء دائما لآل البيت عليهم السلام من خلال الأساطير التي يفبركها هو أو من سبقه ويسهل بها فمه الجاحد أمام جمهرة من الجهلة والسذج والأميين المبهورين بمعجزات الأئمة واساطيرهم والتخاريف المنسوبة لهم كذبا، وليس سِيرهم النقية، وطهارتهم من الرجس، وأخلاقهم الحميدة وإخلاصهم العميق للإسلام. صدق القول الإيمان ترجمان العقل، وسلوكيات الناس ترجمان عقولهم. لقد تحولت بيوت الله التنويرية الى أوكار لشياطين الظلام. واصبحت منابر الوعاظ باحة للكذب وتشويه معالم الدين الحنيف والطعن بالسلف الصالح. طفيليات حقيرة قبيحة تبث الأباطيل والأضاليل في بيوت الله! لا تخافه ولا تخشى سوء العاقبة.

هذا الواعظ الحسيني العاق لايجد حرجا من تطريز خطبته الواهنة بطن من الحلوى(حلوى قضاء الحوائج) يوزعها على المصلين بعد إنتهاء خطبته، منوها بأن كل من يتذوقها ستقضى حاجته، حلوى عجيبة أقوى من كل المخترعات التي توصل إليها العلم الحديث. حلوى تحل كل طلاسم الكون وتفسر كنه ألغازه. حلوى أطعم من ثمار الجنة بل افضل منها لأنها لا تقتصر على تحلية اللسان فحسب بل تحل مشاكل الناس على إختلافها. حتى في الطب الحديث لا يوجد دواء واحد لكل الأمراض ولكن حلوى المهاجر تعالج كل الأمراض حتى التي لم يتوصل لها العلم الحديث.

كل الامراض علاجها حلوى المهاجر فأحفظ اموالك من عبث الأطباء وجشعهم، الحلوى المعجزة تزوج الباكر والعانس والأرملة، وتحل مشكلة العقم للزوجين، وتصلح بين العمة والزوجة، وتحل مشكلة الورث، وتطيل العمر، وتجلب الخير، وتوسع الرزق، وتكبح الظلم، وتعجل قدوم الغائب، وتحل مشلة السكن، وتساعد الرجل على فض بكارة زوجته، وتخلق فرص العمل للعاطلين، وتنجح الطلاب في الإمتحانات، وترضي عنك ربٌ عملك، وتضمن هزيمة الأعداء، وتحل مشاكل السحر وتبطل فعله. وتحل مشكلة الكهرباء والماء والوقود. حلوى عجيبة تنافس الرحمن جل جلاله على قدرته.

بهذه الإستهانة والحماقة يستغفلون الناس ويحطون من قدرة الله. وبهذه الدعاوى الباطلة يجترأون على سيد شباب أهل الجنة ويلوثون منبره الشريف بكنيف أفواههم الكريهة. بهذه التخاريف يصنعون دينا جديدا بعيدا كل البعد عن الإسلام، يخدرون الناس بأفيون المعجزات فيصيحون من بلاهتهم وتحشيشهم" اللهم صلي على محمد وآل محمد" وماحاجة الله إلى دعاء قوم يؤمنون بحلوى لقضاء حوائجهم، حلوى من صناعة البشر تنافس عظمته وقدرته، وهو على كل شيء قدير!

لو استبدلنا جمهور الغافلين ممن يحضرون ترهات خطيب المنبر الحسيني عبد الحميد المهاجر بجمهور من العقلاء والمثقفين العرب ولا نقول من الغرب كي لا ننشر غسيلنا القذر عليهم. ووزع عليهم المهاجر هذه الحلوى السحرية كيف سيكون الموقف؟ حسنا لنترك هذا الجمهور ونفترض ان الحضور هم من عرب العصر الجاهلي قبل البعثة المحمدية الشريفة. كيف سيكون موقف المهاجر؟ لا محالة سيُغرق ببصاقهم أو يختفي تحت تل من مداساتهم. وستصب عليه اللعنات من كل صوب. لماذا ستكون النتيجة مأساوية؟ الجواب: لأنه لا يوجد قوم يرضون بواعظ يضحك عليهم، ويسخر من عقولهم ولا يحترم فكرهم. لأنه لا يرتضي بشر أن يخطب فيهم ناهق.

إذا حافظ رجل الدين على بيضة الإسلام فإنما يؤدي أمانة فرضتها عليه تعاليم السماء، فهذا واجبه لا منة منه على المسلمين. وإذا تقاعس رجل الدين عن قول الحق وخاف السلطان أكثر من الله فحري به أن يترك وعظه ويبحث عن عمل آخر، فيرضينا بذلك ويرضي نفسه أما مرضاة الله فهذا ليس شأننا فهو العليم بالنيات. أما إذا نشر الواعظ الدجل والإفتراء والباطل بين الناس فإنه بذلك يكون عدوا لرب العزة يدخل وكر الشيطان.

بلا شك نحن نفهم بواعث تهجم الفرس واليهود وبعض النصاري والغربيين على الإسلام. ولكن يصعب علينا فهم بواعث تهجم المسلمين أنفسهم على دينهم وتعاضدهم مع الحاقدين عليه! هل الأسلام أمسى بين فكي المسلمين وغير المسلمين؟ وهل هناك وحدة هدف بين مؤامرة الخارج ومؤامرة الداخل؟

إن وعاظ السلاطين يعملون وفق آليات تغيب العقل والارادة عند الناس بإعتبارالعقل هو حجة الله على عباده؟ لذا فإنهم يتفنون في إستغفال الناس وتغييب وعيهم وتحفيزهم للخروج عن طاعة الله ونبيه المصطفى ورسالته الخالدة. وبالتلي ضرب الإسلام في عقر داره، ورمية بالعنف والإرهاب والتخلف والتفاهة والإبتذال والضعف والهوان وتهافت البنية الثقافية وهذا ما أفصح عنه السفير الألماني هوفمان بقوله" ما يحصل في إيران من مساوئ في ظل الحكم الإسلامي الحالي يحد كثيرا من فرص إنتشار الإسلام في الغرب". يوميات ألماني أسلَمَ/ مراد هوفمان.

إذن هناك أصابع ليست خفية تقف وراء هدم البنيان المرصوص للإسلام وتفريغه من عظمته وحرمان المسلمين من إقامة كيان إسلامي قوي وموحد قادر على مواجهة الأعداء. تلك خطة شعوبية مبنية على تنسيق وثيق وتفاهم عميق بين رجال الدين والسياسة، فلكل من الطرفين حصته من سلة الشيطان.

بلا شك إن السكوت عن الخطب المشوهة لوعاظ السلاطين من قبل الحكومة يؤمن لهم الغطاء الرسمي. كما إن سكوت المؤسسات الدينية عنهم يضفي عليهم الغطاء الشرعي. ويبقى الناس العوام والجهلة بهائم  للوعاظ يضحون بهم كقرابين للشيطان. وكفى الله المسلمين شر الوعاظ.

سنكمل الموضوع مع وعاظ السلاطين من الدراويش والمتصوفين تحت عنوان( جدلية الوعظ الصوفي وتسفيه العقل المسلم)

وعلى الله تعالى قصد السبيل .