أمَّة تعيش بين القبور
أمَّة تعيش بين القبور
فائز سالم بن عمرو
الحياة هي المستقبل وبمقدار ما ينظر لها الإنسان ترسم سلوكه وممارسته " كن جميلا ترى الوجود جميلا " ، فالحياة في أبعادها الثلاثة : الماضي والحاضر والمستقبل تستوجب قراءة الماضي ، وجعله رافعه تدفع نحو المستقبل والتطور والحياة . وتختل المعادلة ، وتتقاطع وتتصادم طاقات الشعوب مع العصر والحداثة ، إذا ساد الأمة حالة نكوص وعبادة للماضي . تموت الأمة إذا اختارت العيش بين القبور ، وأصرت على معاداة التطور ، واستجرت ماضيها وقدَّسته ليكون وثنا يعبد يمنعها أن ترى المستقبل ، ويغمض عينيها عن القراءة السلمية ، والتعاطي مع وقائع ومستجدات العصر ، والقبول بالواقعية العصرية ، والمشي مع قواعد اللعبة العالمية .
ما يروج له دعاة التغريب من القطيعة النهائية بالماضي ، وجرَّ الأمة العربية الإسلامية للمشاريع الحداثية عنوة ، وجعلها مختبر فئران تفرض عليها النظريات ، والتجارب الغربية والشرقية المنافية لثقافتها وتاريخها وجذورها الفكرية والعربية والإسلامية دون مراعاة لهذه المرجعيات الفكرية والثقافية ، والتي تشكلت عبر الآلاف والمئات من السنين وتوارثتها الأجيال ، ورسمت ثقافتها ، وطبعت شخصيتها ، فالاستنساخ الحرفي والثوري للتجارب الاشتراكية والأممية والقومية والرأسمالية وغيرها من النظريات والأفكار لإصلاح الأمة ، ووضعها على خط الحضارة والتطور ، ما تلبث أن تفشل ، وينتج عنها نكوص مخيف ورجوع للماضي ، والتعصب له ، وخاصة إذا ما فرضت هذه النظريات بالقوة ، وباستعلائية فوقية تسلطية .
ويبدو أن حالة النكوص والعيش في الماضي استحالة حالة مرضية مزمنة عند العرب ، وتترسخ أكثر في الخطاب الإعلامي والديني والمجتمعي ، خاصة مع تزايد الهزات الاجتماعية ، وكثرة المتغيرات الدولية والعالمية . فالأمة ونخبها يواجهون تحديات العولمة والتنافسية العالمية ، والمتغيرات الدولية بالهروب إلى الماضي ، والتمسك بالتاريخ ، واعتزال الجغرافيا ؛ مبررين فشلهم بان الماضي كان مشرقا وجميلا ومثاليا ، بينما الحاضر والمستقبل تنعدم فيه الأخلاق ، وتموت فيه المبادئ ، ولا تستطيع الأمة العيش فيه، أو التنافس من خلال مبادئه وقوانينه الظالمة ، فلا يمكن العيش في المستقبل إلا بإحلال الماضي مكان الحاضر ، بل ذهب البعض بعيدا ، فهو لا يرى في المستقبل أي علامة خير ، أو إشارة حياة ؛ لأنه مكان الفتن والزلازل والفوضى ، ويعبِّرون عنه بآخر الزمان ، و من علامات الساعة .
للأسف تتكثف هذه النظرة السوداوية في الخطاب الديني والمسجدي الذي يمشى بغير هدى ، ويتخلّى عن قيم التسامح والمحبة والرحمة والوسطية ، يلتزم خطابا حزبيا وسياسيا متشنجا ، يستبدل التسامح بالتشدد ، والوسطية بالتطرف ، ويدفع الأمة إلى الصراع ، ويستقوي بفردية استعلائية حصرية للحق ، ويرفض الحوار والنقاش ، وقبول النقد والتوجيه ، فهو لا يتألّف الناس ، ولا يخاطب عقولهم وقلوبهم ، بل يأمرهم وينهاهم ، ويوظِّف النصوص الدينية ويطوّعها لتحقيق أغراضه ، فقوَّة المنبر وفوقية الخطاب ، وثقافة التابع والمتبوع لن تخلق خطابا دينيا ومجتمعيا متوازنا وسليما في ظله تنتشر العدالة وتقوى ثقافة الحوار ، وكسب العقول والقلوب . أعجبني خطاب الشيخ بن لادن مخاطبا الزرقاوي رافضا ما يقوم به بعض الشباب من سلوك وقتل وتصفية لكل من يخالفهم قائلا : " يجب التفريق بين الجهاد كغاية وهدف أسمى ، وبين أفعال المجاهدين كبشر ينطبق عليها الخطأ والصواب " ، فليس كل من احتلَّ المنبر ، وأكثر من الاستدلال بالنصوص الدينية هو على الحق ، وعلى الآخرين الانصياع ، وهز الرؤوس ، وترديد كلمة آمين على كل ما يقول ويفعل .
في استطلاع عشوائي بسيط انطباعي عمل أحد الأشخاص على التسلح بورقة صغيرة مقسما إياه إلى شطرين كاتبا في الشطر الأول الألفاظ والكلمات الدالة على الماضي ، وخصص في الشطر الثاني دلالات وألفاظ المستقبل ، وشرع يرصد ما يقوله خطيب الجمعة من ألفاظ تدل على البعدين الكبيرين " الماضي والمستقبل " . النتيجة كانت منحازة للماضي ومتقاطعة مع المستقبل ، فطرفا المعادلة دلت على ثمانية وسبعين لفظا ماضويا مقابل ثلاثة ألفاظ دالة على المستقبل ، وللأسف فان ألفاظ المستقبل أُتَيِ بها في مجال التحذير من المستقبل ، والفتن في آخر الزمان .
متى نتصالح مع المستقبل ؟! ، ونجعل الماضي ومآثره دافعا للتجديد والتغيير والتطور ، ونحتفظ بقيمنا وأصولنا الثقافية والفكرية ، فكثير من الأمم ذات الفكر المتواضع استطاعت المنافسة في عصر الحداثة والعولمة ؛ محافظة على قيمها المتخلفة والوثنية ، فمن يؤمن بثقافة الهدم والبناء مخطئ ، أي لا يتم بناء المستقبل إلا بهدم الحاضر والرجوع إلى الماضي . يكذب هذا الزعم التجارب الإنسانية ، والواقع المعاش فيما يسمى بالدول الناشئة التي ترسم لها مكانا تحت شمس الحضارة والحداثة مستمدين قوتهم من الموائمة بين جذورهم الفكرية ، وواقعية الحداثة والعولمة وقوانينها .