محكمة عمان الشرعية
الكاتب صالح خريسات
لست خصما للدين كما صورني بعضهم..!
صالح خريسات
فاستجابة لقرار محكمة عمان الشرعية، الذي أصدره فضيلة القاضي الشرعي، زيد إبراهيم الكيلاني، في القضية رقم 6018/2012، المتضمن إلزامي نشر مقال، أوضح فيه ملابسات ما حصل، وأعلن موقفي الصريح من الدين. وأود أن أبين، بأن الخلاف الذي أوصلني إلى المحكمة، يرجع إلى سوء فهم، أو سوء تحليل لتصوراتي الخاصة. وهي مشكلة وهمية زائفة، تتولد نتيجة لما تمتاز به كتاباتي، من غموض شديد، وصعوبة في الفهم. فلم يفقه كل الناس، ما أتحدث عنه، أو أوافق عليه.
وإنني أن أكرر هنا، ما سبق لي أن قلته مرارا، فأنا لست شيوعيا، ولست ماسونيا، ولست خصما عنيفا للدين كما صورني بعضهم. لكن طاعة العقل السليم، موعظة تدعو إلى العصيان العلني، وتجلب المتاعب لصاحبها.
إنني لست خطيبا شعبيا مصقعا، ولا أستطيع أن أجذب الناس، بشخصيتي الرقيقة، وليس لي صوتا كأصوات الخطباء له رنين يذهل الأسماع، وتقشعر له الأبدان. فأنا رجل فقير، لم أكسب قط مالا كثيرا، وعلي دين كثير. إلا أنني أتمتع بمزاج متفائل، واعتقد بسهولة في أوجه الخير من كل شيء، وقد أدخل السور على نفسي طوال حياتي، إيماني العميق بان واجبي هو أن أدخل البهجة في النفوس، وأن أسمو بالناس، وأرشدهم.
فمن واجبنا الآن، أن نرشد الناس، ونبرز المشكلة في الانحراف عن الدين، وينبغي ألا نخشى الخطأ والقصور، وألا نخشى الحوار والنقاش، ولا نحسب أن اختلاف الآراء مما يذهب بروعة الدين. ولا يجب أن تكون هناك محاكمات، واتهامات بالردة والكفر. فكيف نفكر في ظل هذا الخوف؟ إن الرجل المفكر، الذي يعيش الآن في العاصمة، قد يجد أروح لذهنه أن يعيش في أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد، لما كان يجد فيها من روح التسامح وحرية الفكر، التي لا نجدها نحن الآن. فهل يحسن بنا أن نتمنى لو كنا نعيش في عصور ما قبل الميلاد؟ أولسنا نعيش حياتنا العلمية والفكرية، على ما وصل إلينا من تلك العصور الحرة؟
وينبغي التنويه إلى أن كل دراسة تقصد إلى البحث في حقيقة الكون، واستقصاء علته، لا بد أن تنتهي إلى مرحلة يقف حيالها العقل عاجزا، لا يستطيع أن يدرك عندها من الحق شيئا، سواء سلك إلى ذلك سبيل الدين أو العلم، أو ما شاء له من السبل. ولكن المحاولة في هذا المجال، تبدو كافية، لتوجيه النظر إلى شطر من الثقافة الدينية، أهمله أهله، وتغافل عنه ذووه، واعني بهذا الشطر، الدراسة العقلية، والبحث والنظر في ماهية الدين، وعلاقة الإنسان به، والصراعات الدينية، وطرائق التفكير، وغيرها.
إن عصرنا رجعي، لأنه يعيش على الماضي، وأنا رجل أنزع إلى الحرية والتحرر، وأتطلع وراء التفصيلات، إلى الحقائق الطبيعية والبشرية الأساسية، واعتقد أن الإبداع يمكن أن يكون الآن، وفي هذا المكان. فلا رياء في العادات، ولا انقيادا أعمى، ولا تشبثا بثبات الرأي خوفا وفزعا. فلماذا لا تكون لنا علاقة أصيلة بالعالم؟ ولماذا لا يكون لنا فكر وثقافة يتميزان بنفاذ البصيرة لا بالتقاليد؟
إنه لا بد لكل عصر من أن يكتب كتبه، أو قل إن كل جيل يكتب للجيل التالي، فكتب العصور السابقة القديمة، لا تلائم هذا العصر، إذ سرعان ما يصبح الكتاب شرا وبيلا، ويصبح الكاتب مستبدا. إن فكر الجماهير العامة، خامل معوج، ولا يغزوه العقل في يسر. ولا أقول الإنسان المفكر الواعي، وإنما أقصد ذوي المواهب الذين يبدأون بداية خاطئة، وينطلقون من المذاهب الثابتة، وليس من رأيهم الخاص. فيقولون هذا حسن، دعنا نتمسك به، إنهم بذلك يخنقونني، لأنهم يتطلعون إلى الوراء وليس إلى الأمام. والوضع الطبيعي أن ننظر إلى الأمام، فإن عيني الإنسان في مقدمة رأسه وليست في مؤخرته.
إن أولئك الذين أرهقت نظم التراث ثقافتهم، لا يظهر من بينهم ذلك المفكر الذي يعين على بناء الجديد. إن لدينا مؤلفون عديدون، ولكنهم استنفدوا قدرتهم على الكتابة، فلماذا لا يقلعون عنها، ويتوقفون عن تكرار خطاباتهم السابق.
إنني لا أستطيع أن أتخلى عن عقيدتي، فالبندقية الفارغة لا تعدو أن تكون بندقية فارغة، حتى وإن أكد لنا القدامى والأشراف بأنها تنطلق فتقضي على الدنيا. ولسوف أصبر على إهمال الناس لي، وعلى لومهم إياي، وعلى محاكمتي، وأترقب الوقت لنفسي، ويكفيني سعادة أنني أستطيع أن أقنع نفسي وحدي، بأنني في يوم محاكمتي، قد شاهدت شيئا على حقيقته.
إنني أدرك بأن مقالاتي ينقصها الشرح، فأتألم من أجل ذلك. لكني اعجز عن الجدل، وأتحاشى ما أستطيع ذلك، الكلام في الموضوعات ذات الأهمية الشائعة، كالدين مثلا، لأنني اعتقد أن واجبي يقف عند حدود تنوير العقل، ولكن الناس، يقابلون هذا الواجب، بالنقد، والاستنكار، والسخط، ويتهمونني بالضلال والردة. وقد تبين لي، أن الناس يستمعون بالترحاب يوم السبت، إلى الأمور التي تبدو لهم كفرا يوم الجمعة.
إن الناس يتبع بعضهم بعضا، ولا يفكرون تفكيرا حرا مستقلا، وكل شيء يظهر عندهم بمظهر خاطئ، والطريق الذي يسيرون فيه، لا يدرون إلى أين ينتهي. ومن هنا كان الناس يقولون بالوجدان، بوصفة العضو الحقيقي القادر على المعرفة عند الإنسان، وفيه طمأنينة القلب. وأناس آخرون لا يعلمون ما يفعلون وهم يقظى، تماما كما ينسون ما يفعلون وهم نيام .
وعلى وجه العموم، معتقدات الناس وآراؤهم العامة، كلها خاطئة، بل والقلة القليلة من المفكرين، ليسوا بأحسن حظا كثيرا من عامة الناس. ولذلك نجد من كان يطلب الحرية الأخلاقية، وان يسير الإنسان على العقل في أفعاله، وبالا يتبع العامة والمجموع.
فكان يجب على الناس أن ينظروا للأشياء كما هي، لا كما رآها أسلافهم، ولا كما رآها من حولهم، ولا كما يرونها بمنظار ميولهم، وعواطفهم، ومصالحهم، وكان عليهم إن يصطنعوا الجرأة، في ذلك. فالشك معذب، ولكنة منج مطهر.
أما موقفي من الدين، فإنه هداية اختياريه للناس، تعرض عليهم مؤيدة بالأدلة والبراهين، والرسل مبشرون ومنذرون، ولا سلطان لهم إلا سلطان التذكير، والدعوة إلى الله بالحكمة، والموعظة الحسنة.
وقد هدى الله الناس بالأنبياء والصحف المقدسة، كصحف إبراهيم وموسى، ومع أن الاعتقاد بآله مختلفة لشعوب مختلفة، كان موجودا في عصر ما، إلا أن الاقتناع بأن الله واحد، حدث بمجيء الإسلام، وأكدته الصيغة في جملة "لا اله إلا الله". وكان النبي محمد صلى الله عليه وسلم، آخر الأنبياء، دعا إلى الإسلام، وأيده الله بالمعجزة العلمية، والحجة العقلية، وهو القران الكريم
وغاية القران الأساسية، هداية الناس إلى دين الحق، والعدل، والحرية، فثار على الخرافات والانحرافات، التي عطلت حرية الفكر واستقلال الإرادة، واستبدل بها الحقائق التي تهدي إلى العقل، وتبين للإنسان علاقته بربه " وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا، ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان، ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا " الشورى52
إن كل الأنبياء والمصلحين، كانوا أحرار الذهن، معتقي الفكر، وكل الأنبياء كانوا من أعداء القديم البالي، وكل الأنبياء والمصلحين، تمردوا على النظم السارية، والآراء الشائعة، وكل الأنبياء كانوا أعداء لأنفسهم، وقد كان أسهل عليهم، أن لا ينددوا، ولا يبشروا، لو إنهم خافوا التحقير والاضطهاد، وارتضوا مسايرة الناس.
وتدرك شعوب الأرض كلها، أنه لا أمل في استقرار السلام، أو طمأنينة الإنسان، إلا بالاستناد إلى الدين. فالدين هو خير عامل، تتوحد به مشاعر الإنسان، ومنافعه، وأفكاره.
إن هذه النزعة الدينية، والحاجة إلى التدين، أمران فطريان في الإنسان، يولد وهو مزود بهما، وينبعان من أصل طبيعته، ولا يقلان في فطريتهما عن سائر الأحاسيس، والمشاعر الإنسانية الأخرى، وسيبقيان معه ما بقيت الحياة.
ومن الممكن أن يضمحل ويتلاشى كل شيء نحبه، وكل شيء نعدوه من ملاذ الحياة ونعيمها، ومن الممكن أن تبطل حرية استعمال القوة العقلية، والعلم، والصناعة، ولكن يستحيل أن ينمحي التدين، أو يتلاشى، بل سيبقى ابد الآبدين، حجة ناطقة على بطلان المذهب المادي، الذي يود أن يحصر الفكر الإنساني، في المضائق الدنيئة للحياة الطينية.
إن هذا الإيمان المطلق، الذي يشكل الله فيه نقطة الارتكاز، بما يتمتع به من قوى عليا، هو الدين، الذي تعددت صوره وأشكاله، وكانت غايته في كل مراحل التاريخ البشري، واحدة، وهي إرضاء الله، وطلب العون منه، في حياة لم يستطع الإنسان أن يحيط بكل ما فيها من غموض والتباس .
أن الأديان فتحت باب التغيير، حين عرفت الإنسان أن له روح مستقلا بحسابه. وتلك هي أول خطوة خطاها الإنسان، في إظهار الفرد وتميزه، من غمار الخلق كله. فقد أصبح الإنسان فردا معزولا في حكم الدين، لا اختلاط بين حسناته وسيئاته، وبين حسنات الآخرين وسيئاتهم، ولا اقتباس بين ثوابه وثوابهم، وعقابه وعقابهم, هنالك أصبحت كل نفس بما اكتسبت رهينة، وأصبحت كل نفس حقيقة بالمحاسبة، والإحصاء، والمراقبة.
بيد أن اخطر كارثة يوجهها العالم اليوم، عدم قدرته على استيعاب ماهية الدين. إن الطريقة التي عالجت بها البشرية، الفراغ الديني، كانت خاطئة إلى حد بعيد. وفي تصوري أن الإيديولوجيات لا تكاد تفترق عن الأديان البدائية، من حيث وثنيتها، وتقبل الناس لها، دون بحث أو تعليل، وان تسترت تحت ستار المصطلحات السياسية، والاجتماعية، المنتشرة بين الجماعات البشرية، بأسماء مختلفة.
ونحن نجد في الكتاب المقدس ما يشير إلى هذه الفئة المغفلة، فنقرا "لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها "فليس ينتفعون بشيء من هذه الجوارح التي جعلها الخالق سببا لمعرفة الحقيقة التي تتمثل بوجود الله "أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون".
ويقع الذنب في القصور عن معرفة الحقيقة على الإنسان نفسه، عندما لا يكون السبب فيه هو الافتقار إلى العقل. بل إلى العزم والشجاعة، اللذين يحفزانه على استخدام العقل، ورفع الغطاء عن عينيه، ليرى الأشياء على حقيقتها.
وإذا لم يتجرا الإنسان على رفع الغطاء عن عينيه، فان الأمور تختلط عليه، فلا يستطيع تمييز الحق من الباطل. غير أن قابلية الإنسان للفساد أعظم درجة من قابليته للكمال. وهذا ما يتطلب جهدا واسعا من المفكرين في سبيل الإقناع، وصبرا عزيزا من الراغبين في المعرفة.
وإذا كانت عقول الأفراد والجماعات متفاوتة وطرائق تفكيرهم مختلفة، فان الحاجة تكون ملحة للمفكرين والعلماء، من اجل مساعدة الناس على تطوير أنفسهم، ومنحهم دورا متفوقا في التاريخ البشري.
ولسوف يتبين لنا، أن النجاح في التاريخ، كان ولا يزال يرتكز على احترام العقل، وتمرين الإرادة على قبول قيادته لها، مع رقابة صارمة على الغرائز والأهواء والجنوح.
وإذا كانت الحقيقة ليست واحدة، فان الكسل والجبن، هما علة رضا طائفة كبيرة من الناس، بان يبقوا طوال حياتهم، قاصرين عن استخدام عقولهم، منتظرين من يفكر نيابة عنهم، بعد أن وهبهم الله نعمة العقل والأفئدة والبصائر، وبعد أن خلصتهم الطبيعة منذ أمد بعيد، من كل وصاية غريبة عليهم. والكسل والجبن، هما كذلك علة تطوع الآخرين بفرض الوصاية على القاصرين من الناس، ووضع الغطاء على أعينهم ليسهل انقيادهم.
فيبدو الأمر وكأن كل واحد منهم يقول لنفسه: إن الوصاية علي لمريحة ! وما دمت أجد الكاتب الذي يفكر لي، والرجل الروحي أو الداعية الذي يغني ضميره عن ضميري، فما حاجتي لان أجهد نفسي؟ فليست هناك ضرورة تدعوني للتفكير، ولسوف يتكفل غيري بتحمل مشقة هذه المهمة الثقيلة .
هذه اكبر مشكلة تواجه أتباع الديانات المختلفة، إذ تركوا نعمة التدبر والتفكير، واتخذوا أوصياء عليهم ،يفكرون نيابة عنهم، ويقررون لهم ما يأكلون، وما يشربون، وما يلبسون، وكيف ينامون، ويقررون مكانهم في الجنة، أو في النار، وكأنهم يصوغون للناس دينا جديدا، لم يأت به نبي من قبل، وتلك رهبانية ما كتبها الله عليهم.
إن ما أثبتته التجربة، وأكده الواقع، أن الدين لا يضطهد المفكرين، ولا يأمر بالفساد، وسفك الدماء، وتدمير الحياة، كما أنه لا يمتلك عقاقير سحرية، يعالج مشكلات الإنسان الفكرية، والاقتصادية، والسياسية، وما شأن الدين بها