النصارى العرب.. مواطنون لا ذميون

المستشار سالم البهنساوي

النصارى العرب.. مواطنون لا ذميون

المستشار سالم البهنساوي

إنه من نكد الدنيا على العرب والمسلمين أن يسخر منهم الساخرون فيتساءلون عن حكم الجزية للنصارى من المواطنين في البلاد العربية، ولا يخفى على السائل أن المسلمين في أكثر البلاد العربية أو بعضها يتمنون أن تعاملهم حكوماتهم بما تعامل به النصارى واليهود، وهذا ليس دعوة لتهميش حقوق وحريات غير المسلمين ليتساووا مع المسلمين في المسغبة والمتربة، إنما هو دعوة ليتساوى المسلمون في هذه البلاد بغير المسلمين، فأين الجزية إذن؟ لقد تناولت بعض الصحف في أكثر من دولة موضوع الجزية بكثير من التصحيف.

فلم تكن الجزية اختراعاً إسلامياً، فهي نظام سابق على الإسلام ودولته، فنظمها الإسلام وهذبها وجعلها اختياراً للشعب الذي أصرت قيادته على الحرب ثم هزمت، فليس صحيحاً أن الجزية ضريبة على كل مواطن غير مسلم، وليس صحيحاً أنها نظام إجباري.

فالجزية ترتبط بالمعركة الحربية ولهذا لم يعامل يهود المدينة بنظام الجزية فقد تضمنت وثيقة المدينة أنهم أمة مع المؤمنين وينفقون معهم، فالجزية ترتبط بالحرب والقتال، والإسلام لم يبدأ بالحرب، قال تعالى: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين؟ (البقرة 109)، فلا قتال مع قوم لم يقاتلوا ولا مع قوم بينهم وبين المسلمين عهد ولا مع قوم لا عهد لهم ولكنهم يقفون على الحياد، وفي هذا قال الله تعالى: "فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً) (النساء: 90).

فإذا كان هذا هو حال الجزية في الإسلام وهي أنها من آثار الحرب ونتيجة للقتال من جانب المحاربين، فلا مجال للحديث عن الجزية للنصارى المواطنين من أهل البلاد الذين يخضعون للقوانين التي يخضع لها المسلمون، فما كان الكفر والخلاف في الدين سبباً للقتال، فمناط القتال لدى الإسلام والمسلمين هو الاعتداء من جانب خصوم الإسلام (انظر بداية المجتهد لابن رشد 1/371 ورسالة القتال لابن تيمية ص 116).

إن بعض الكتاب لم يفهم معنى آية الجزية، وأخذ منها حكماً عاماً يسري على غير المسلمين جميعاً، بينما هي تخص فئة خاصة جداً من أهل الكتاب فيهم نزل قول الله تعالى: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" (التوبة: 39)، عند نزول هذه الآية كانت الجزيرة العربية قد دانت بالإسلام، وكان نصارى الروم قد تجمعوا في نحو مائة ألف مقاتل لغزو المدينة، ومن ثم كانت غزوة مؤتة في مواجهة هذا الحشد.

فالجزية في النص القرآني خاصة بهذه الفئة من أهل الكتاب الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ونكثوا العهود فلا يدينون دين الحق، ومن ثم اختاروا القتال، ولهذا فإن قبولهم الجزية ليس إلا سبيلاً لإنهاء حالة الحرب وحقن الدماء، ومع هذا فلا تفرض الجزية عليهم فرضاً فهي عقد رضائي وليست من النظام العام يفرض فرضاً، فالصغار هم قبول حكم الإسلام وقانونه والرضا به، لهذا قبل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب اعتراض نصارى تغلب على الجزية ووافقهم على طلبهم التعامل بنظام الزكاة، كما أن الإمام الشافعي في كتابه "الأم" يقرر أنه من كان صغيراً ودخل في عقد الجزية تبعاً لوالديه فإن له الخيار عند رشده بقبول هذا العقد أو رفضه.

ومن الإصلاح الذي أدخله الإسلام على الجزية أن جعلها عقداً رضائياً على النحو سالف الذكر وأنه أعفى منها غير القادرين فلا تدفع إلا عن يد أي عن قدرة، ولهذا يعفى منها النساء والصبيان وكبار السن والرهبان ورجال الدين، بينما كانت الجزية عند الفرس والرومان واليونان ضريبة باهظة على الجميع تفرض وتحصل جبراً.

ومن الإصلاح في نظام الجزية أيضاً أن جعلها الإسلام مقابل إعفائهم من القتال مع المسلمين فإن اشتركوا مع الجيوش فلا جزية عليهم كما أنها نوع من الكفالة الاجتماعية، فالقانون الذي نفذه عمر بن الخطاب في ذلك (أيما شيخ من أهل الكتاب ضعف عن العمل أو أصابته آفة أو كان غنياً فافتقر طرحت جزيته وعيل من بيت مال المسلمين هو وعياله) الخراج لأبي يوسف ص 126.

إذا كان ذلك كذلك فإنه لا مجال للحديث عن الجزية بين المسلمين وغيرهم لسببين: الأول: أن غير المسلمين في البلاد العربية هم مواطنون لا ذميون، فلا يطبق عليهم نظام الجزية والقاعدة أن لهم ما لنا وعليهم ما علينا، والثاني: أن ارتباط الدول العربية والإسلامية بمواثيق ومعاهدات مع غيرها من الدول وانضمامها إلى ميثاق الأمم المتحدة ينهي تماماً مصطلح دار الحرب ودار الإسلام وينهي معه مصطلح الجزية.

لهذا أورد الإمام حسن البنا أن الجزية كانت امتيازاً لغير المسلمين بإعفائهم من التجنيد فإذا دخلوا الجيش سقطت عنهم الجزية فقد جرى العمل على هذا في كثير من بلاد المسلمين وهي لا تفرض عليهم بل يجب أن يطلبوها ويشترطوا لأنفسهم، من كتاب (نظرات في كتاب الله ج1 ص 175).

والخلاصة أن الجزية ليست ضريبة عامة على غير المسلمين، بل هي أثر من آثار القتال ومع هذا لا تفرض، فالرضا شرط في قبولها ولا يخضع لها غير القادرين، على الرغم من أن النبي صلى الله عليه وسلم حدد قيمتها أنذاك بدينار فقط كما هو صريح حديث معاذ (رواه أبو داود ج2 ص 149).

وقد كان يطلق على أهل الجزية أهل الذمة لأنه بتصالحهم أصبحوا في ذمة الله ورسوله، لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "احفظوني في ذمتي" (1)، وقيمة الجزية تظللهم مع هذا كفالة الدولة الإسلامية، وفي هذا لا يقول الإمام الكاساني: "إن أهل الكتاب إنما تركوا بالذمة وقبول الجزية لا لرغبة فيما يؤخذ منهم أو طمع في ذلك بل للدعوة إلى الإسلام، ليخالطوا المسلمين فيتأملوا في محاسن الإسلام وشرائعه وينظروا فيها.. فكان عقد الذمة لرجاء الإسلام(2).

وفيما يلي بعض صور من عقود الذمة والتي تؤكد هذا كله:

1- عقد الذمة المبرم بين النبي صلى الله عليه وسلم ونصارى نجران جاء فيه "ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أموالهم وأنفسهم وأرضهم وصلبهم.. وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، لا يغير أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا كاهن من كهانته، وليس عليه دية ولا دم جاهلية ولا يخسرون ولا يعسرون ولا يطأ أرضهم جيش"(3).

2- قام خالد بن الوليد قائد جيوش المسلمين في فتح فارس، بالتصالح مع أهل الحيرة ويمثلهم لصلوبا بن نسطونا، وقد جاء في هذا الصلح: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا وقومه، وإن قومك رضوا بك وقبلت ومن معي من المسلمين ورضيت، ورضى قومك، فلك الذمة والمنعة، فإن منعناكم فلنا الجزية وإلا فلا حتى نمنعكم" (4)، أي إن حاربنا عنكم لنا الجزية، وختم الكتاب أو العهد بعبارة: "فإن طلبوا عوناً من المسلمين أعينوا به ومؤمنة العون من بيت مال المسلمين"(5)، كما ورد به أيضاً: "وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات أو كان غنياً فافتقر، وصار أهل دينه يتصدقون عليه طرحت جزيته وعيل هو وعياله من بيت المسلمين".

3- عهد النعمان بن مقرن إلى أهل ماه شهرزان قد ورد به "ولهم المنعة ما أدوا الجزية كل سنة"(7).

4- كتاب حذيفة بن اليمان إلى أهل دينار إذ قد ورد به نفس المضمون(8).

5- كتاب حبيب بن مسلمة إلى أهل تفليس قد جاء به نفس المضمون.(9).

المراجع

1- الأحكام السلطانية للماوردي ص 143

2- بدائع الصنائع للكاساني 9/4329.

3- الخراج لأبي يوسف ص 144.

6,5,4 – تاريخ الطبري 4/16، الخراج لأبي يوسف 144.

9,8,7 – تاريخ الأمم والملوك للطبري جـ 4 ص 136، والأموال أبو عبيد ص 268.