بقية الشهادة

بقية الشهادة

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

يكمل الكاتب الشيوعي المصري " عبده جبير" شهادته على التنظيم السري التي نشرها في جريدة أخبار الأدب المصرية الشيوعية العدد939 في 24/7/2011م ، فيقول :

" .. أسقط في يدي ( ورجلي أيضا )  وبدأت أحس بالأرض تميد بي، لكن الرجل فاجأني بمعرفته بأنني صعيدي وأن من شيم الصعايدة إكرام الضيف ، وطلب قهوة علي الريحة، كنت أعيش وحدي فذهبت للمطبخ وصنعت له قهوة، وعدت، لكنني فوجئت بأنه دخل للموضوع مباشرة ورشف رشفة واحدة من القهوة ولم يقترب منها بعد ذلك ( اكتشفت بعدها بأنني وضعت الملح بدلا من السكر دون قصد وهو ما عكس ارتباكي ). المهم أن الرجل بدأ بدغدغة،  بأن هنأني بأنني من الأسماء المرشحة للقيادة في الإعلام !! والمهم أن الحوار دام أكثر من ساعتين ( وأنا أحسستهما وكأنهما أطول من قرن ) . بدأ بسلسلة من الإغراءات أخذ يسرب الواحدة بعد الأخرى ، من شقة تليق بك ولم لا تكون علي النيل ، بدلا من سكناك في حارة في السيدة، وسيارة فاخرة بدلا من السيارة 128 المهكعة، ولمح لي كمزيد من الضغط بأن أغلب زملائي الصحفيين من جيلي يعملون معهم، وكثير منهم في دار الهلال وروز اليوسف والأهرام، وأن المسألة لن تتعدي لقاء كل فترة علي فنجان شاي، وأنه وأنه.

بالقطع كنت مرتبكا وغاضبا إلي أقصي حدود الغضب، ولكنني تماسكت وحاولت أن أشرح بكل هدوء :

ـ أولا أنا رجل صعيدي، تربيت علي الشرف الذي رضعته مع لبن أمي، ثم رسخته بالقراءة، ما يعني أنني لا أحتقر إنسانا بقدر احتقاري لمن يعمل مع مثل هذه  الأجهزة مهما كانت، وهذا موقف لا يستطيع شيء أو أحد أن يزحزحني عنه، وأن حقيبتي جاهزة للمعتقل إن كان يريد اعتقالي.

إنه أخطأ العنوان لأنني أبدا لم يكن من ضمن طموحاتي أن أصبح رئيسا لتحرير أي مجلة أو صحيفة حتى لو كانت الأهرام ( لأن عملي في الصحافة، أصلا، هو شيء أنا مجبر عليه لأن كتابة الروايات لا تكفي لأكل العيش ) ولم اعتبر نفسي يوما صحفيا محترفا، وإنني إن وجدت نفسي في هذا الموقع، فإن أول شيء سأفعله أنني سأقوم بهدم هذه المؤسسة علي رءوس من فيها والأسباب يطول شرحها.

إن الشيء الوحيد الذي أنا متأكد من أنني خبير فيه وأستطيع إبداء الرأي  فيه بكل ثقة،هو القصة القصيرة والرواية، ولا أظن أنه قادم ليسمع رأيي في القصة أو الرواية.

أنه وحتي إذا كان لي رأي في السياسة فإنني في هذا المجال أعتمد علي ضميري الوطني ، لكنني أبدا لم أحسب نفسي خبيرا في الِشأن العام، حتي أقول رأيا ولو كان استشاريا، لأن رأيي في السياسة يقترب من أن يكون رأيا فوضويا، فأنا أتمني أن تنتهي مرحلة الدولة في تاريخ البشرية، فأنا في حقيقتي فوضوي إلي أقصي درجات الفوضوية، أما رأيي في الاقتصاد فأنا أتمني أن لا يكون هناك اقتصاد أصلا، وأن تعود البشرية لمرحلة المشاع ،حيث يعود الناس للغابة، ويأكلون الثمار الساقطة عليهم من الأشجار وهم ممددين وسط النساء لا يفعلون شيئا سوي ممارسة الحب والأكل وليذهب العمل للجحيم، فهو سر شقاء البشرية.

ـ وفي النهاية قلت له إنه إذا كانت نية جهازكم صادقة ـ كما تقول ـ  فعليه أن يفهم دوره كما يفهم دور المثقفين، فدوركم هو الحفاظ علي النظام القائم، ودورنا هو التبشير بالمستقبل، والنظام الذكي( منين يا حسرة )  هو الذي يعترف بدور المثقفين، ويتركهم في حالهم يبدعون، فإبداعهم هو أهم قيمة لهذا الوطن ، ولأي وطن.

طبعا كان الرجل فاغرا فمه طوال الوقت، ولا أظن أنه فهم شيئا  مما قلت، وفي النهاية طلبت منه مشكورا أن يتركني في حالي، وأن تكون زيارته هذه هي الأخيرة، أو أن يحضر في المرة القادمة ليقبض عليّ، وإلا فسأضطر لترك البلد إن كان ولا بد.

وأظن أنني نقلت إليه حالة الارتباك، فليس هناك شيء مما قلته يبعث علي الطمأنينة بأن هذه الأقوال يمكن أن تصدر عن إنسان عاقل.

أخيرا وقف الرجل الذي كان طوال الوقت قد بدا في غاية اللطف وقد تحول إلي ضابط شرس، وأصدر إلي أمرا بطريقة غاية في الجلافة والخشونة بأنه من الممنوع عليّ أن أتحدث مع أي كان عن هذه المقابلة، لكنني وقد كنت أحسست بالزهو وأنا أري بأنه لم يفهم شيئا، ولم يحصل علي شيء، قلت :

ـ لا. الأستاذ مكرم ، ودا رئيس تحريري، لازم يعرف وحأقوله.

وقف صامتا للحظات وقال بصوت متحشرج :

ـ في الحدود دي مفيش مشكلة.

لا هو ولا أنا استطاع أن يمد يده للآخر، وما أن خرج من ضلفة الباب حتي تصرفت بكل ما أوتيت من حماقة، وأغلقت الباب بكل ما أوتيت من قوة، لكننني وللأمانة وقفت ساكنا وقتا أظنه قد طال متوقعا أن يرد بأن يحطم الباب عائدا بالكلبشات، ولكن هذا لم يحدث ،وما حدث أنني بدلا من أن أدخل من باب الغرفة دخلت في المرآة المعلقة في الصالة، ورأيت من بين شروخها الدماء تسيل من جبهتي.

     ما إن استرددت أنفاسي وعالجت جرحي، حتي أمسكت بسماعة التليفون وأنا متأكد بأنه مراقب، وطلبت مكرم محمد أحمد في بيته ( وهو شيء لا يقدم عليه أحد من العاملين معه إلا في الطوارئ  ) وبدا أنه انزعج من هذه المكالمة المتأخرة ظانا بأنني أتصل به من المجلة، وبأن حدثا جللا قد جري، لكنني سألته : 

  ـ حضرتك جاي بكرة أمتي الجرنال ؟

ـ فيه إيه ؟

ـ أنا منزعج جدا من مقابلة جرت للتو مع ضابط يدعي أنه من شيء اسمه جهاز الأمن الوطني، وأن عليّ أن أراك بمجرد حضورك في الغد.

ما إن وضعت سماعة التليفون،حتي عدت و تجرأت ( وليكن ما يكون )  وطلبت الأستاذ بهاء وأنا أعرف انه ينام مبكرا، فردت علي السيدة الفاضلة أم زياد، فقلت لها إنني مضطر للحديث للحظة مع الأستاذ، فإذا به يرد من السماعة الأخرى :

ـ إيه يا جبير فيه إيه ؟

قلت له عن المقابلة المزعجة، فطلب مني أن أحضر لتناول الإفطار معه في السابعة من صباح اليوم التالي.

طبعا لم أنم هذه الليلة، وهي تكاد تكون أسود ليلة في حياتي، بل هي أشد سوادا من الليلة التي تم فيها القبض عليّ في القضية المذكورة ، وشحنت إلي سجن القلعة غير المأسوف عليه، وفي السابعة بالضبط كنت في بيت الأستاذ، وفوجئت بالدكتور علي الدين هلال جالسا علي مائدة الإفطار، وقد لاحظ الأستاذ أنني لم أتناول لقمة واحدة فاستأذن من الدكتور هلال وذهب بي إلي صالون منعزل.

حكيت له حكاية المقابلة المشئومة فبدا في غاية التأثر، وكان مجرد إخباره بالموضوع يعني أنني أطلب منه أن يجد لي حلا، وكان تعليقه الذي لا أنساه أبدا :

ـ الناس دول معندهمشي تمييز ؟ وطيب خاطري وأكد لي بأنه بمجرد أن يصل للأهرام سيتصل بأسامة الباز.

ولأنني لم أكن قابلا للحديث في أي شيء آخر، استأذنت وتركت منزل الأستاذ بهاء، وأذكر أنني مشيت من الدقي حتي دار الهلال، وأنا أحس بشيء ما غير طبيعي يجري خلفي، وتذكرت الصديق الكاتب المبدع  يحيي الطاهر عبد الله الذي كان يتلفت خلفه طوال الوقت " لأنه مراقب " وكنت علي كل أحس بنفس المشاعر التي تقترب من البارانويا.

وصلت إلي دار الهلال وانتظرت مكرم محمد أحمد حتي جاء وشرحت له ما جري، وللحقيقة كان الرجل في غاية الرقة، وحاول أن يطيّب خاطري بل مازحني بقوله :

ـ طول عمرك حتبقي صعيدي، يا أهبل دول بيتمنوهم وانتا بترفض ؟

أذكر أنه، وللأمانة، احتضنني بكل قوة، بل إنني رأيت الدموع تترقرق في عينيه، وقال انه سيتصل بمصطفي الفقي ويطلب منه أن ينهي الموضوع، لكن الأقدار شاءت أن لا يعود ملفي من هناك، حتي يومنا هذا، ولم تتم إجراءات تعييني أبدا، مع أنني أمام الزملاء ـ بل وفي الوسط الصحفي كله ـ كنت أقوم بدور رجل الدسك المفدى ، أرفض وأقر وأعيد الصياغة، بل وأقوم بمراجعة مقالة رئيس التحرير نفسه، بل وسافرت مبعوثا رسميا من المصور لتغطية فيضانات السودان في نفس العام،  وأنا أتولي مسئولية تنفيذ عدد كل ثلاثة أعداد بالتناوب مع الزميلين احمد أبو كف  ويوسف القعيد، حتي جاءت أول فرصة لترك دار الهلال فلم أتردد.

لا أعرف ما إذا كان الأستاذ مكرم يذكر ذلك، لكنني بعد أن خرجت من عنده ذهبت إلي الصديق مصطفي نبيل رئيس تحرير مجلة الهلال آنذاك، وحكيت له ما جري، والرجل لا يزال يذكر ما جري حتي الآن (بل انه أكد لي في حينه  انه سيتصل بأسامة الباز  ليرفعوا أيديهم عني )  لأنني وأنا أخط هذه الكلمات، سألته فأكد أنه لا يمكنه أن ينسي، بل إنه لا يمكن أن ينكر شهادته علي ما جري.

إذن كان هناك هذا التنظيم السري الحديدي، المسمي جهاز الأمن الوطني، وأعتقد انه لا يزال هناك.. يقود الثورة المضادة. والله المستعان " .

وبعد هذه الشهادة من الكاتب الشيوعي ، هناك سؤال يتحرك في صدري : لماذا دائما كان الشيوعيون في صدارة المشهد على مدي ستين عاما؟ولماذا كثير منهم ترضى عنه السلطة المستبدة الغشوم ؟