ماذا تريد الأمة من علمائها؟
د. عبد المجيد البيانوني
اتّصل بي والغضب يبدو من نبرة صوته ، ويهزّ كلّ حرف ينطق به ، وكأنّ كلماته حمم بركان يغلي في داخله ، ورجوم شهب تقذف ولا ترحم .. ورمى إليّ بهذه الكلمات بدون تحفّظ ولا مقدّمات : ( علّة الأمّة هؤلاء المشايخ المنافقون ، الذين يمالئون الظالم ، ويسكتون عن جرائمه ، ويثبّطون الناس عن التظاهر والجهر بالحقّ .. أيّ ذلّ وهوان بلغته الأمّة إذا كان علماؤها بهذه الصورة المهينة .؟! كيف لنا أن نثق بهؤلاء المشايخ ، وهم يقفون مع الظالم ، ولا يقولون كلمة الحقّ لنصرة المظلوم .؟! ) فقلت له : هوّن عليك .. فلن أدافع عن أحد بغير حقّ .. ولكن دعني أسألك هذا السؤال : ماذا تصنّف سلوك هؤلاء المشايخ .؟! وهل هو حدث طارئ في هذا العصر .؟! أم له أمثال وأمثال .؟! فقال : وماذا تعني بتصنيف سلوكهم .. إنّهم مجرمون بحقّ دينهم وشعبهم .. قلت : لا أعني ذلك .. ولكن أليس هو نوعاً من الابتلاء ، الذي أمرنا بالصبر عليه ومغالبته ، ومعالجة أسبابه .؟! فلماذا نضيق به ذرعاً ، ونضجر أمامه ونتأفّف ، ونتقبّل ابتلاءات أخرى ونعالجها .؟! وأجيب عنك على ذلك ، لأنّنا نفاجأ به ، ولا نتوقّعه ، ونتصوّر المشايخ كالملائكة المطهّرين ، أو الأنبياء المعصومين .. وهذا في الحقيقة خطؤنا .. لأنّ هذا الأمر ليس بجديد ، وإنّما هو قديم قدم هذه الأمّة ، كما أنّه مُستشر في الأمم الأخرى ، بل هو سرّ انحرافها ، وفساد دينها ، وتحريفها لكتاب ربّها .. وقد ندّد القرآن الكريم بهؤلاء في مناسبات عديدة ، وضرب لهم أسوأ الأمثال ، وفي ذلك تحذير لهذه الأمّة أن تحذو حذو تلك الأمم ، فيصيبها من غضب الله ونكاله ما أصابها ..
قف معي متدبّراً هذه الآيات ، التي تتحدّث عن أنواع من فساد أولئك الذين أؤتمنوا على دين الله ، فخانوا الأمانة ، واشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً ، ليتبيّن لك خطر علماء السوء على دين الأمّة ومنهج حياتها : من كتاب الله تعالى
{فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُون}[البقرة:79]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيم}[التوبة:34]
{وَإِذَ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُون}[آل عمران:187]
فهذه الآيات تحدّثت عن صنف من هؤلاء ، وهم الذين يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً ، ويأكلون أموال الناس بالباطل ، وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله .. فأحوال هؤلاء كلّها دارت في فلك إيثار الفانية على الباقية ، والطمع في الدنيا ، واللهاث وراء شهواتها ، واتّخاذ الدين مطيّة للدنيا .. فهذا الصنف لا يعنيهم الحقّ شيئاً ، يدورون في فلك شهواتهم ، وهم غارقون في مستنقعها ، إلاّ أن تتداركهم رحمة الله فيتوبوا إليه قبل موتهم ..
كما حذّر سلف الأمّة الأخيار ، وعلماؤها الأبرار من شرّ هؤلاء على دين الناس وأخلاقهم ، يقول الإمام الغزاليّ رحمه الله : " واحترز عن الاغترار بتلبيسات علماء السوء فإنّ شرّهم على الدين أعظم من شرّ الشياطين ، إذ الشيطان بواسطتهم يتدرّج إلى انتزاع الدين من قلوب الخلق " ([1]) .
وقال الحسن رحمه الله : " عقوبة العلماء موت القلب وموت القلب طلب الدنيا بعمل الآخرة " .
وقال يحيى بن معاذ : " إنما يذهب بهاء العلم والحكمة إذا طلب بهما الدنيا " .
وقال سعيد بن المسيب رحمه الله : " إذا رأيتم العالم يغشى الأمراء فهو لص " .
وقال الآخر :
يا معشر القراء يا ملح البلد ... ما يصلح الملح إذا الملح فسد ([2]) .
وقال حاتم الأصم رحمه الله : " ليس في القيامة أشدّ حسرة من رجل علم الناس علما فعملوا به ، ولم يعمل هو به ففازوا بسببه وهلك هو " .
وقال مالك بن دينار : " إنّ العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما يزل القطر عن الصفا " ، وأنشدوا :
يا واعظ الناس قد أصبحت متهما ... إذ عبت منهم أمورا أنت تأتيها
أصبحت تنصحهم بالوعظ مجتهدا ... فالموبقات لعمري أنت جانيها
تعيب دنيا وناسا راغبين لها ... وأنت أكثر منهم رغبة فيها
وقال آخر :
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله : " مررت بحجر بمكة مكتوب عليه : اقلبني تعتبر ، فقلبته فإذا عليه مكتوب : " أنت بما تعلم لا تعمل فكيف تطلب علم ما لم تعلم " .
وقال ابن السماك رحمه الله : " كم من مذكر بالله ناس لله ! وكم من مخوف بالله جريء على الله ! وكم من مقرب إلى الله بعيد من الله ! وكم من داع إلى الله فارّ من الله ! ّوكم من تال كتاب الله منسلخ عن آيات الله ! " .
وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله : " لقد أعربنا في كلامنا فلم نلحن ، ولحنّا في أعمالنا فلم نعرب " ([3]) .
وقال الحارث المحاسبيّ رحمه الله : " علماء السوء شياطين الإنس ، وفتنة على الناس ، رغبوا في عرض الدنيا ورفعتها ، وآثروها على الآخرة ، وأوّلوا الدين للدنيا ، فهم في العاجل عار وشين ، وفي الآخرة هم الخاسرون ، أو يعفو الكريم بفضله " .
وقَالَ الجرجانيّ في أبياته المشهورة :
ولو أنّ أهل العلم صانوه صانهم ولو عظّموه في النفوس لعُظّما
ولكن أهانوه فهان ودنّسُوا مُحيّاه بالأطماع حتّى تجهّما
كما حثّ سلف هذه الأمّة طالب العلم أن يبتغي بعلمه وجه الله تعالى ، ويكون من علماء الآخرة ، يقول الإمام الغزاليّ رحمه الله : " إنّ الفائزين المقربين هم علماء الآخرة ، ولهم علامات ؛ فمنها : أن لا يطلب الدنيا بعلمه ، فإنّ أقلّ درجات العالم أن يدرك حقارة الدنيا وخستها وكدورتها وانصرامها ، وعظم الآخرة ودوامها وصفاء نعيمها وجلالة ملكها ، ويعلم أنّهما متضادتان ، وأنّهما كالضرتين مهما أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى ، وأنّهما ككفتي الميزان مهما رجحت إحداهما خفت الأخرى ، وأنّهما كالمشرق والمغرب مهما قربت من أحدهما بعدت عن الآخر ، وأنّهما كقدحين أحدهما مملوء والآخر فارغ ، فبقدر ما تصب منه في الآخر حتّى يمتلىء يفرغ الآخر، فإنّ من لا يعرف حقارة الدنيا وكدورتها ، وامتزاج لذّاتها بألمها ، ثمّ انصرام ما يصفو منها فهو فاسد العقل مَفتون ..
وقيل : خمس من الأخلاق هي من علامات علماء الآخرة ، مفهومة من خمس آيات من كتاب الله عزّ و جلّ : الخشية ، والخشوع ، والتواضع ، وحسن الخلق ، وإيثار الآخرة على الدنيا ، وهو الزهد . فأمّا الخشية فمن قوله تعالى : ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) . وأمّا الخشوع فمن قوله تعالى : ( خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلاً ) . وأمّا التواضع فمن قوله تعالى : ( واخفض جناحك للمؤمنين ) . وأمّا حسن الخلق فمن قوله تعالى : ( فبما رحمة من الله لنت لهم ) . وأمّا الزهد فمن قوله تعالى : ( وقال الذين أوتوا العلم : ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ) .
وكان من سمت علماء الآخرة وهديهم أنّهم لا يدخلون على ولاة الأمر والأمراء إلاّ ناصحين مذكّرين ، بالحكمة والموعظة الحسنة ، من قلوب لا تعرف إلاّ شرع الله عزّ وجلّ ، ولا تبتغي إلاّ مرضاته ، والنصح لعباده ؛
روي أنّ أبا بكرة دخل على معاوية رضي الله عنهما فقال : اتق الله يا معاوية ، واعلم أنّك في كلّ يوم يخرج عنك ، وفي كلّ ليلة تأتي عليك ، لا تزداد من الدنيا إلاّ بعداً ، ومن الآخرة إلاّ قرباً ، وعلى أثرك طالب لا تفوته ، وقد نصب لك علماً لا تجوزه ، فما أسرع ما تبلغ العلم ، وما أوشك ما يلحق بك الطالب ، وإنّا وما نحن فيه زائل ، وفي الذي نحن إليه صائرون باق ، إن خيراً فخير ، وإن شرّاً فشرّ .
وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله لأبي حازم : عظني ، فقال : اضطجع ، ثمّ اجعل الموت عند رأسك ، ثمّ أنظر إلى ما تحبّ أن يكون فيك تلك الساعة فخذ به الآن ، وما تكره أن يكون فيك تلك الساعة فدعه الآن ، فلعلّ تلك الساعة قريبة .
ودخل أعرابيّ على سليمان بن عبد الملك فقال له : تكلم يا أعرابيّ ، فقال : يا أمير المؤمنين إنّي مكلمك بكلام فاحتمله ، وإن كرهته فإن وراءه ما تحبّ إن قبلته ، فقال : يا أعرابيّ ! إنّا لنجود بسعة الاحتمال على من لا نرجو نصحه ، ولا نأمن غشّه ، فكيف بمن نأمن غشّه ، ونرجو نصحه .؟ فقال الأعرابي : يا أمير المؤمنين إنّه قد تكنّفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم ، وابتاعوا دنياهم بدينهم ، ورضاك بسخط ربهم ، خافوك في الله تعالى ، ولم يخافوا الله فيك ، حرب الآخرة ، سلم الدنيا ، فلا تأتمنهم على ما ائتمنك الله تعالى عليه ، فإنّهم لم يألوا في الأمانة تضييعاً ، وفي الأمّة خسفاً وعسفاً ، وأنت مسؤول عمّا اجترحوا ، وليسوا بمسؤولين عمّا اجترحت ، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك ، فإن أعظم الناس غبناً من باع آخرته بدنيا غيره ، فقال له سليمان : يا أعرابيّ أما إنك قد سللت لسانك ، وهو أقطع سيفيك . قال : أجل يا أمير المؤمنين ، ولكن لك لا عليك .
ويصوّر الأديب الرافعيّ أهمّيّة العلماء في كيان الأمّة ، وأثرهم في تقويم الراعي والرعيّة ، وخطر انزلاقهم إلى الدنيا ، وتفريطهم بأمانة العلم والدين فيقول :
" .. ما يحسن بحامل الشريعة أن ينطق بكلام يردّه الشرع عليه ؛ ولو نافق الدين لبطل أن يكون ديناً ، ولو نافق العالم الدينيّ لكان كلّ منافق أشرف منه ؛ فلطخة في الثوب الأبيض ليست كلطخة في الثوب الأسود ، والمنافق رجل مغطّى في حياته ، ولكن عالم الدين رجل مكشوف في حياته لا مغطّى ؛ فهو للهداية لا للتلبيس ، وفيه معاني النور لا معاني الظلمة ؛ وذاك يتّصل بالدين من ناحية العمل ، فإذا نافق فقد كذب ؛ والعالم يتصل بالدين من ناحية العمل وناحية التبيين ، فإذا نافق فقد كذب وغشّ وخان .
وما معنى العلماء بالشرع إلاّ أنّهم امتداد لعمل النبوّة في الناس دهراً بعد دهر ، ينطقون بكلمتها ، ويقومون بحجّتها ، ويأخذون من أخلاقها ، كما تأخذ المرآة النور ، تحويه في نفسها ، وتلقيه على غيرها ، فهي أداةٌ لإظهاره وإظهار جماله معاً .
أتدري يا ولدي ما الفرق بين علماء الحقّ وعلماء السوء ، وكلّهم آخذ من نور واحد لا يختلف ؟ إنّ أولئك في أخلاقهم كاللوح من البلّور ؛ يظهر النور نفسه فيه ، ويظهر حقيقته البلّوريّة ؛ وهؤلاء بأخلاقهم كاللوح من الخشب ، يظهر النور حقيقته الخشبية لا غير !
وعالم السوء يفكّر في كتب الشريعة وحدها ؛ فيسهل عليه أن يتأوّل ويحتال ، ويغيّر ويبدّل ، ويظهر ويخفي ؛ ولكنّ العالم الحقّ يفكّر مع كتب الشريعة في صاحب الشريعة ، فهو معه في كلّ حالة ، يسأله : ماذا تفعل .؟ وماذا تقول ؟
والرجل الدينيّ لا تتحوّل أخلاقه ولا تتفاوت ، ولا يجيء كلّ يوم من حوادث اليوم ، فهو بأخلاقه كلّها ، لا يكون مرّة ببعضها ، ومرة ببعضها ، ولن تراه مع ذوي السلطان وأهل الحكم والنعمة كعالم السوء هذا الذي لو نطقت أفعاله لقالت لله بلسانه : هم يعطوني الدراهم والدنانير فأين دراهمك أنت ودنانيرك ؟
إنّ الدينار يا ولدي إذا كان صحيحاً في أحد وجهيه دون الآخر ، أو في بعضه دون بعضه ، فهو زائف كلّه ؛ وأهل الحكم والجاه حين يتعاملون مع هؤلاء يتعاملون مع قوّة الهضم فيهم .. فينزلون بذلك منزلة البهائم ؛ تقدم أعمالها لتأخذ بطونها ، والبطن الآكل في العالم السوء يأكل دين العالم فيما يأكله ..
فإذا رأيت لعلماء السوء وقاراً فهو البلادة ، أو رقّة فسمّها الضعف ، أو محاسنة فقل : إنّها النفاق ، أو سكوتاً عن الظلم فتلك رشوة يأكلون بها !
نحن يا ولدي مع هؤلاء كالمعنى الذي يصحّح معنى آخر ، فإذا أمرناهم ، فالذي يأمرهم فينا هو الشرع لا الإنسان ، وهم قوم يرون لأنفسهم الحق في إسكات الكلمة الصحيحة أو طمسها أو تحريفها ؛ فما بدّ أن يُقابَلوا من العلماء والصالحين بمن يرون لأنفسهم الحقّ في إنطاق هذه الكلمة وبيانها وتوضيحها ؛ فإذا كان ذلك فههنا المعنى بإزاء المعنى ؛ فلا خوف ولا مبالاة ، ولا شأن للحياة والموت .
وإنما الشرّ كلّ الشرّ أن يتقدّم إليهم العالم لحظوظ نفسه ومنافعها ، فيكون باطلًا مزوّراً في صورة الحقّ ؛ وههنا تكون الذات مع الذات ، فيخشع الضعف أمام القوّة ، ويذلّ الفقر بين يدي الغنى ، وترجو الحياة لنفسها ، وتخشى على نفسها ؛ فإذا العالم من السلطان كالخشبة البالية النخرة تحاول أن تقارع السيف !
إنّ السلطان والحكّام أدوات يجب تعيين عملها قبل إقامتها ، فإذا تفكّكت واحتاجت إلى مسامير دقّت فيها المسامير ؛ وإذا انفتق الثوب فمن أين للإبرة أن تسلك بالخيط الذي فيها إذا هي لم تخُزّه ؟ .. إنّ العالم الحقّ كالمسمار ؛ له عمله ومهمّـه ، فإذا أوجد المسمار لذاته دون عمله كفرت به كلّ خشبة .. ([4]) .
لقد جعل الله قيم الحقّ والعدل ميزاناً بأيدي العلماء الربّانيّين ، والأئمّة المهديّين ، الذين ائتمنهم على دينه ، وما سواها أهواء متناحرة ، وظلمات مدلهمّة ، وظلم وعدوان ، وبغي وبهتان .. فأوّل مسؤوليّاتهم أن يعلنوا قيم الحقّ والعدل للناس ، ويعلّموهم إيّاها ، وينشروا حقائقها ويشيعوها ، ويبشّروا بها بكلّ وسيلة ، ويدعوا الناس للالتزام بها ، وإيثارها على ما سواها.. وهم في ذلك يقفون على صراط الله المستقيم ، وهديه القويم ، يبشّرون به ، ويدعون إليه ، فإن عجزوا عن ذلك أو ضعفوا فلا أقلّ من أن يلزموا الصمت ، ويعتزلوا الناس ، ولا يعينوا الظالم على ظلمه ، والباغي على بغيه ..
وإنّ الأئمّة المهديّين ، والعلماء الربّانيّين في كلّ عصر ومصر لا يقفون بين الأمّة والحاكم على مسافة واحدة ، بل هم في صف الأمّة وأقرب إليها ، لا استرضاءً للعامّة وإيثاراً للأهواء ، ولكن لأنّ الأمّة ـ والتاريخ شاهد صدق على ذلك ـ تنتقص حقوقها في أغلب الأحوال ، ويعتدى على حرماتها ، وتصوّب إليها سهام المظالم من كلّ باغ متنفّذ ، ويضعف أكثر أفرادها عن المطالبة بحقوقهم ، فينامون على الضيم ، ويستكينون للظلم ، ممّا يجرّهم إلى ألوان من الفساد لا تقف عند حدّ .. ويتطلّعون إلى العلماء ، وهم الفئة الرائدة الراشدة ، وينتظرون منهم أن ينتصروا لهم ، ويطالبوا بحقوقهم .. فهل من المسؤوليّة أن يخذل العلماء الأمّة التي وثقت بهم ، وعلّقت آمالها عليهم .؟!
إنّ الأمّة تريد من علمائها أن يكونوا لسانها الناطق بالحقّ ، وقلبها النابض بالإيمان والهدى ، وعقلها المفكّر ، الذي يفقه دين الله ، ويعي الواقع ، بكلّ ملابساته وتعقيداته ، ويُعلّم ويُبصّر ، وأن يكونوا يدها المغيثة في كلّ نازلة ، ورائدها القدوة في كلّ ميدان من ميادين الخير .. ولا نقول هذا الكلام من نسج الخيال ، ففي التاريخ الإسلاميّ وفي الحاضر نماذج مشرقة عن ذلك كلّه ..
ولك أن تقارن تلك الآيات التي وصفت حال علماء السوء ، وما فيها من التهديد المخيف ، والوعيد الشديد بحال العلماء بالله ، أهل الخشية والتعظيم لأمر الله ، الذين يؤثرون مرضاة الله تعالى على كلّ شيء ، وقد امتدحهم الله تعالى بقوله : ( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ العُلَماءُ ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ) [فاطر : 28] ، فقد دلّت هذه الآية الكريمة على أنّ الخشية لا تكون إلاّ بالمعرفة ، فالعُلَماءُ هنا هم العلماء به سبحانه ، كما دلت على أنّ الخشية ملاك الخيرات ، لأنّ من خشي الله أتى منه كلّ خير ، ومن أمِنَ اغترّ بالله ، واجترأ على كلّ شرّ ، ومنه قوله عليه السلام « من خاف أدلج ، ومن أدلج بلغ المنزل » ([5]) ..
وشرط الخشية معرفة المخشيّ والعلم بصفاته وأفعاله ، فمن كان أعلم به سبحانه كان أخشى منه ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : ( إني أخشاكم لله وأتقاكم له ) ([6]) .
قال الإمام الرازيّ : قوله تعالى : ( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) [فاطر : 28] فإنّ الله تعالى وصف العلماء في كتابه بخمس مناقب ، أحدها : الإيمان : وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [آل عمران : 7] وثانيها : التوحيد والشهادة : شَهِدَ اللَّهُ إلى قوله : وَأُولُوا الْعِلْمِ [آل عمران : 18] وثالثها : البكاء : وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ [الإسراء : 109]. ورابعها : الخشوع : إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ [الإسراء : 107] الآية. وخامسها : الخشية : إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ([7]) .
فالخشية بقدر معرفة المخشيّ ، والعالم يعرف الله فيخافه ويرجوه. وهذا دليل على أن العالم أعلى درجة من العابد ، لأن اللّه تعالى قال : إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات : 13] فبيّن أن الكرامة بقدر التقوى ، والتقوى بقدر العلم. فالكرامة بقدر العلم لا بقدر العمل ، نعم العالم إذا ترك العمل قدح ذلك في علمه ، فإن من يراه يقول : لو علم لعمل. ثمّ قال تعالى : إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ذكر ما يوجب الخوف والرجاء ، فكونه عزيزاً ذا انتقام يوجب الخوف التامّ ، وكونه غفوراً لما دون ذلك يوجب الرجاء البالغ ([8]) .
والتقوى ثمرة العلم قال اللّه تعالى : { إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ } [فاطر : 28] فلا تقوى إلاّ للعالم فالمتقي العالم أتمّ علمه ، والعالم الذي لا يتّقي كشجرة لا ثمرة لها ، لكن الشجرة المثمرة أشرف من الشجرة التي لا تثمر بل هو حطب ، وكذلك العالم الذي لا يتقي حصب جهنم ([9]) .
وقوله تعالى : { ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ } إذا ضُمّ إليها قوله تعالى : ( إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ } [فاطر : 28] صار المجموع دليلا على فضل العلم والعلماء ، وذلك لأنه تعالى بيّن أنّ العالم هو صاحب الخشية ، وهذه الآية وهي قوله : { ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ } تدلّ على أن صاحب الخشية تكون له الجنة فيتولد من مجموع الآيتين أنّ الجنة حقّ العلماء ([10]) .
والمراد بالعلماء : العلماء بالله وبالشريعة ، وعلى حسب مقدار العلم في ذلك تقوى الخشية ، فأمّا العلماء بعلوم لا تتعلق بمعرفة الله وثوابه وعقابه معرفة على وجهها فليست علومهم بمقرّبة لهم من خشية الله ، ذلك لأنّ العالم بالشريعة لا تلتبس عليه حقائق الأسماء الشرعيّة ، فهو يفهم مواقعها حقّ الفهم ، ويرعاها في مواقعها ، ويعلم عواقبها من خير أو شرّ ، فهو يأتي ويدع من الأعمال ما فيه مراد الله ومقصد شرعه ، فإن هو خالف ما دعت إليه الشريعة في بعض الأحوال أو في بعض الأوقات لداعي شهوة أو هوى أو تعجل نفع دنيوي كان في حال المخالفة موقناً أنّه مُورّط فيما لا تحمد عقباه ، فذلك الإيقان لا يلبث أن ينصرف به عن الاسترسال في المخالفة بالإقلاع أو الإقلال . وغير العالم إن اهتدى بالعلماء فسعيه مثل سعي العلماء وخشيته متولدة عن خشية العلماء . قال الشيخ أبو محمد بن أبي زيد " والعلم دليل على الخيرات وقائد إليها ، وأقرب العلماء إلى الله أولاهم به ، وأكثرهم له خشية وفيما عنده رغبة " ([11]) .
وخشية الله تعالى هي امتلاء القلب بالله ، وخشية عقابه ، ورجاء ثوابه ، وأن يكون ذاكراً لله ، شكوراً لنعمه ، راجياً قبول طاعته ، والعلماء بالله هم أعلم الناس به ذاتاً وصفاتٍ ، وقدراً وإكباراً ([12]) .
قال الحسن البصريّ : العالم : من خشي الرحمن بالغيب، ورغب فيما رغّب الله فيه ، وزهد فيما سخط الله فيه ، ثمّ تلا الآية : إِنَّما يَخْشَى الله مِنْ عِبادِهِ العُلَماءُ ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ .
وعن ابن مسعود : " كفى بخشية الله تعالى علماً ، وبالاغترار جهلاً " ([13]) .
وقال سعيد بن جبير : الخشية : هي التي تحول بينك وبين معصية الله عزّ وجلّ .
وقال مالك : إن العلم ليس بكثرة الرواية ، وإنما العلم نور يجعله الله في القلب .
وبعد ؛ فإنّ فيصل التفرقة بين علماء السوء وعلماء الآخرة إخلاص القلب لله عزّ وجلّ ، وابتغاء مرضاته ، وأن تكون الآخرة نصب عين طالب العلم فيما يأتي ويذر ، ومنتهى سعيه في علمه وعمله .. ومن ثمّ فقد جاء التهديد المخيف ، والوعيد الشديد لطالب العلم إذا كان سعيه للدنيا وحطامها ، وقصده الرياء والسمعة ، ومنافسة الخلق على الجاه والمكاسب ، وأوهام المناصب ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ : تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنْه فَقَالَ لَهُ نَاتِلُ أَهْلِ الشَّامِ ([14]) : أَيُّهَا الشَّيْخُ حَدِّثْنَا حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ : نَعَمْ ، سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : « إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ . قَالَ : كَذَبْتَ ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ : جَرِىءٌ . فَقَدْ قِيلَ . ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِىَ فِى النَّارِ .
وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ العِلْمَ وَعَلَّمَهُ ، وَقَرَأَ القُرْآنَ ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا ، قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : تَعَلَّمْتُ العِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ : وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ . قَالَ : كَذَبْتَ ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ العِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ . وَقَرَأْتَ القُرْآنَ لِيُقَالَ : هُوَ قَارِئٌ . فَقَدْ قِيلَ ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلقِيَ فِى النَّارِ . وَرَجُلٌ وَسَّعَ الله عَلَيْهِ ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ المَالِ كُلِّهِ ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا ، قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلاَّ أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ . قَالَ : كَذَبْتَ ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ : هُوَ جَوَادٌ . فَقَدْ قِيلَ ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِىَ فِى النَّارِ » ([15]) .