الحماية من الاختراق

مجاهد مأمون ديرانية

رسائل الثورة السورية المباركة (81)

العمل المسلّح: الوَحدة أو إجهاض الثورة

مجاهد مأمون ديرانية

ثالث ما يهدد العمل العسكري من أخطار -لو بقي مفرّقاً- هو إمكانية الاختراق. والاختراق الذي نَحْذره ونخشاه نوعان: اختراق الأجهزة الأمنية، واختراق العصابات الإجرامية.

الاختراق الأول يمكن أن تقوم به المخابرات السورية لزرع جماعات مسلحة وهمية من صنع النظام، والنظامُ خبير في هذا النوع من الألاعيب وقد استعملها سابقاً بنجاح كبير، ففي أيام الثورة المسلحة في الثمانينيات نجح في اختراق تنظيم الطليعة المقاتلة، واستطاع استدراج عدد كبير من عناصر وقادة الطليعة (بما فيهم قائد التنظيم عدنان عقلة رحمه الله) استدرجهم ليعبروا الحدود الجنوبية في عملية وهمية كبيرة كانت -في حقيقتها- مصيدة محكمة، وقُبض عليهم جميعاً ليستشهدوا بعد ذلك في تدمر. وقبل تلك الحادثة استغل النظام اختراقَه للطليعة لتدبير مجزرة حماة، وذلك عبر استدراج مسلّحيها إلى إعلان الجهاد والاشتباك مع سرايا الدفاع التي كانت تترقب الإشارة، وحينها بدأت المجزرة التي انتهت بدمار ثلث المدينة واستشهاد عشرات الآلاف من كرام أبنائها، عليهم رحمة الله.

بعد ذلك بربع قرن اخترقت مخابرات النظام مشروعَ الجهاد الذي بدأ بحشد المجاهدين للحرب في العراق بعد الغزو الأميركي، وفي تلك المرّة زرعت أحدَ عملائها ليقوم بدور التجنيد والقيادة والتوجيه، وهو محمود قول أغاسي المشهور بأبي القعقاع. وقد نجح الرجل في الإيقاع بمئات المجاهدين وفي إجهاض المشروع الجهادي المذكور، حتى مقتله أواخر عام 2007 على يد بعض المجاهدين الذين نجحوا في كشفه، ولكن متأخرين للأسف الشديد.

هاتان هما أشهر حالات الاختراق التي يعرفها الناس، ولو أردنا التعميم فيمكننا القول إن المخابرات السورية لم تترك أي تنظيم مسلح أو غير مسلح دون اختراقه، بما في ذلك جميع التنظيمات الفلسطينية وغيرها من التنظيمات اليسارية والقومية والناصرية والبعثية العراقية، وقد أصبح معروفاً اليوم -بعدما كشفت عنه الستارَ مصادرُ أميركية- أن النظام السوري زوّد الولايات المتحدة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول بتفصيلات مذهلة عن جميع التنظيمات الإسلامية، المسلحة وغير المسلحة والسورية وغير السورية، وهي مساعدة عظيمة كوفئ عليها النظام بإنقاذه من المحكمة الدولية وبمزيد من الدعم والتأييد العلني والخفيّ الذي استمر خلال السنوات التالية.

*   *   *

الاختراق الخطير الآخر الذي يُخشى منه على العمل المسلح هو اختراق المجرمين والقَتَلة وقطّاع الطرق الذين لا يخلو منهم مجتمع ولا تخلو أمة من أمثالهم، والذين أطلق النظام سراحَ كثير منهم من السجون مؤخراً ليعيثوا في البلاد الفساد. هؤلاء سيجدون فرصة عظيمة في حالة الفوضى الأمنية التي ترافق انتشار العمل المسلح، وسوف يبرزون كجماعات مستقلة تخلط بين مقاتلة النظام وسلب المدنيين أو السطو على ممتلكاتهم، وليس لهم علاقة بالثورة ولا بأهدافها، إنما يعملون لمصالحهم ولمكاسبهم الشخصية.

نحن نعلم أن كثيرين من مطارَدي النظام السابقين انحازوا إلى الثورة بالكامل، كالمهربين الذين كانوا يهربون البضائع عبر الحدود اللبنانية أو التركية مثلاً، وربما أيضاً بعض زكرتية عصابات أحياء المدن وأريافها، ولكن هؤلاء قوم صالحون بالأصل، وإنما اضطَرتهم ظروفُ معيشتهم إلى التهريب أو إلى الاصطدام مع سلطة النظام فصاروا مطارَدين ومطلوبين، وهم مكسب للثورة بشرط أن ينضبطوا بقوانينها ويتخلّقوا بأخلاقها (وقد ناقشت هذه المسألة في المقالة السابقة: "أخلاق السلاح قبل حمل السلاح").

ليس هؤلاء من نخشى اختراقهم للعمل المسلح في ظل الفوضى والتعددية، إنما هم المجرمون الحقيقيون الذين لا خلاق لهم ولا ضمير ولا وازع، والذين ليس لهم أصلاً ولاء للأمة ولا للوطن، وقد كان كثير منهم في السجون بتهم القتل والسطو وترويج المخدرات وغيرها من الجنايات، ثم أصدر رئيس عصابة الإجرام "عفواً" رئاسياً عنهم وأطلقهم على الناس، فإما أن يعملوا معه ويكونوا في عِداد شبّيحته، أو ينطلقوا ليفسدوا في الأرض ويكدّروا على أهل الثورة ثورتهم ويسيئوا إلى سمعتها بارتكاب الجرائم الموبقات ونسبتها إلى المجاهدين الصادقين من حَمَلة السلاح.

*   *   *

إن الخطر الذي نخشاه ونحذّر منه ليس وهماً أو خاطراً في الخيال بل هو خطر حقيقي على الأرض، فقد بدأت تنتشر -في بعض المناطق التي انحسرت عنها سيطرة النظام- جماعاتٌ مسلحة لا يعرف أحدٌ أصلَها وفصلها، تمارس أعمال سلب ونهب وتفرض على السكان الضرائب والإتاوات. هذا من نوع الاختراق الثاني، أما النوع الأول فلا بد أن النظام يعمل عليه في الخفاء، ومن أمثلته تسجيلٌ انتشر قبل عدة أسابيع في مواقع الثورة معلناً عن ولادة "جبهة النصرة لأهل الشام" بقيادة "الفاتح أبي محمد الجولاني حفظه الله، المسؤول العام لجبهة النصرة" (كما جاء في التسجيل). إن العين البصيرة تدرك بالنظرة الخاطفة أن تلك التسجيلات ليست سوى إخراج رديء لتمثيلية سخيفة من تمثيليات المخابرات السورية الفاشلة، هدفها الإيقاع ببعض المتحمسين من الثوار، وقد يكون من أهدافها أيضاً تشويه صورة الثورة عن طريق افتعال عمليات إجرامية ونسبتها إلى تلك الجهة المزعومة.

إن الوقاية من نوعَي الاختراقَين السابقين لا تكاد تتحقق إلا بوحدة العمل العسكري، ففي تلك الحالة فقط سوف يُعرف كل عنصر غريب يحمل السلاح وليس من أهل السلاح الشرعيين، فإما أن يكون صالحاً مخلصاً ولكنه لم يجد الطريق إلى الجيش الحر ليعمل معه، فهذا يُدَلّ على الطريق ويُضَمّ إلى الفريق، وإما أن يكون عنصراً غريباً شريراً مدسوساً من النظام أو مجرماً انتهازياً يسعى في الشر والفساد، وعندئذ سيُكشَف أمره ويُتجنَّب شره ويُقصى عن العمل المسلح.

ذلك على مستوى كل منطقة من المناطق، أما على مستوى الثورة كلها فإن القيادة العامة للجيش الحر -التي تقود العمل العسكري- سوف تكون على اتصال مع العمل الميداني في المناطق المختلفة، وستعرف على الفور بأي محاولة اختراق كبيرة (كما في حالة "جبهة النصرة لأهل الشام" المذكورة سابقاً) وتعمّم التحذير منها خوفاً من سقوط الأبرياء في مصيدتها ووقايةً للثورة من خطرها.

*   *   *

لقد بذلت جهدي في ثلاث مقالات لأقنعكم بضرورة توحيد العمل العسكري في كيان واحد وتحت قيادة واحدة، فإذا اقتنعتم فابدؤوا بالتوحيد على الفور ولا تتأخروا، فإن كل يوم يمضي يزيد هذه المهمة الصعبة صعوبةً ويزيد الجهد اللازم لتنفيذها. وربما تقولون: كيف يكون التوحيد؟ الجواب في المقالة الآتية، وهي الخامسة والأخيرة من مقالات "العمل المسلّح: الوَحدة أو إجهاض الثورة".