القدس وهذه الهجمة الإسرائيلية الشرسة
د. لطفي زغلول /نابلس
لا تحصى الدوافع التي تكمن وراء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. إلا أن واحدا منها يظل هو الأساس، ونعني به قضية القدس. لقد أثبتت الأحداث منذ بدايات القرن الماضي وحتى بدايات القرن الحالي على أن القدس كانت ولا تزال بمثابة بركان القضية. ما إن يهيأ للمرء أن هذا البركان قد خمد حتى يعود ويثور ثانية.
هذا يجعلنا على الدوام نستبقي على القدس نقطة ساخنة في تفكيرنا حتى يظل منسوب التواصل بينها وبيننا في أعلى مستوياته. إن التراخي أو الإغفال أو الإنقطاع عنها له انعكاسات سالبة من المؤكد أن طرف النزاع الآخر سوف يفسرها على أنها من قبيل التنازل والتخلي والتسليم بالأمر الواقع، وهي أمور من المستحيل أن يكون لها قاعدة في تفكيرنا.
إن القدس في وضعها الحالي تحمل في ثناياها عوامل الإنفجار في كل لحظة ودون سابق إنذار. وتظل العامل الأول في عدم الإستقرار وفقدان السلام والأمان طالما أنها لم ترجع إلى وضعها السابق. وليس أدل على ذلك من هذه الهجمة الإسرائيلية الشرسة عليها.
إن عمليات التهويد في هذه المدينة المقدسة آخذة في التسارع، وكذلك مصادرة ما تبقى من الأراضي، وإقامة المستوطنات عليها، وهدم بيوت أهلها الشرعيين وتهجيرهم. إضافة إلى سلخ أحياء من القدس بحجة أنها تقع خارج الجدار الفاصل، ومن هذه الأحياء مثالا لا حصرا رأس خميس، ورأس شحادة، وحي السلام، وأجزاء من مخيم قلنديا، وهذا يعني حرمان سكانها من دخول مدينتهم، وفقدان مواطنتهم.
إن القدس جراء هذه الهجمة الشرسة واقعة فريسة مخططات إسرائيلية تستهدفها ومقدساتها جغرافيا وديموغرافيا. إن أعمال الهدم والخراب وتهجير مواطنيها الأصليين، وبناء المستوطنات أكبر دليل على أن هذه المدينة المقدسة تتعرض لأشرس هجمة تهويدية تستهدف هويتها العربية الإسلامية، وتستهدف بخاصة حق أهلها الشرعيين فيها، وتتعدى كل ذلك إلى التعرض للمسجد الأقصى المبارك وكل المقدسات الإسلامية فيها.
ما دمنا بصدد الحديث عن المسجد الأقصى المبارك، فإن هذه الهجمة الشرسة تعمل على تطويقه بشبكة الأنفاق والحفريات التي تمارسها الجرافات الإسرائيلية تحته وفي محيطه، وتطوقه بالإستيطان التهويدي الذي يحاصره الأمر الذي يجعله معرضا للأخطار الداهمة.
يأتي في مقدمها ما وزعته المرجعية الدينية في الجيش الإسرائيلي من تعميم على الضباط الإسرائيليين لصور للمسجد الأقصى المبارك، وقد أزيلت منها قبة الصخرة المشرفة، مدعية بأنها صور للقدس في عهد "الهيكل الثاني" المزعوم، وهذا العدوان له ما له من دلالات خطيرة، تهدف إلى الإدعاء أن القدس، والحال هذه، ليست لها أية صفة إسلامية.
هنا فإننا نستعرض المزيد من هذه الأعمال العدوانية الإسرائيلية بحق الأقصى كي تظل ماثلة في الذاكرة. من هذه الأمثلة التي لا حصر لها محاولة إحراق الأقصى في آب اغسطس من العام 1968، وشق النفق في أساساته في العام 1996، وما تخطط له بخصوص المصلى المرواني، وما يجول في تفكير متدينيها حول اقتسام حرم المسجد الأقصى المبارك. وآخرها لا أخيرها المرات المتكررة لاقتحام ساحات المسجد الأقصى على أيدي المستوطنين.
لقد غضت الأنظمة العربية والإسلامية السياسية الطرف عن كل ما جرى للقدس على مدار سنوات الإحتلال الإسرائيلي منذ العام 1967. إن التحديات التي واجهتها القدس ومقدساتها خلال تلك السنين العجاف كثيرة لا تعد ولا تحصى.
في ذات السياق فخلال الأعوام الخمسة والأربعين وهي عمر احتلال القدس، أهملت هذه الأنظمة القدس في ثلاثة اتجاهات. الأول وهو السياسي فقد قصرت أن يكون لها استراتيجية بشأنها، أو أن تدعم مطالباتها بإجراءات على أرض الواقع فيما يخص التعامل مع الدول الأخرى.
أما الإتجاه الثاني فهو إعلامي. فمن منطلق أن الإعلام بكافة أشكاله بأيدي هذه الأنظمة، فقد قصر داخليا وخارجيا تقصيرا كبيرا في إبراز القدس كتاريخ وثقافة وعقيدة وخط أحمر. أما الإتجاه الثالث فيتمثل بالتربية. فقد خلت المناهج التربوية ولا تزال مما تستحقه القضية بعامة، والقدس بخاصة من مساحة معقولة تخصص لها كجزء من تربية الأجيال العربية. وثمة مجالات أخرى كان فيها التقصير واضحا. وهذا بطبيعة الحال ينطبق على كافة الأنظمة الإسلامية غير العربية.
لقد تمادت السياسات الإسرائيلية كثيرا فيما يخص اغتصاب القدس، وغذت الخطى في وتيرة تهويدها، كون هذا الفعل الإسرائيلي لا يلقى أدنى رد فعل عليه من قبل الأنظمة العربية والإسلامية، والتي أصبحت قضية القدس لا تحتل أدنى مساحة من أجنداتها السياسية أو غير السياسية، الأمر الذي أضاء ضوءا أخضر مستداما للحكومات الإسرائيلية كي تعمل براحتها على تنفيذ كل مخططات تهويد القدس، وانتزاعها شبرا شبرا من أيدي أصحابها الشرعيين، ولتصبح إسرائيل قيّمة على مقدساتها التي يفترض أنها وقف لكل المسلمين.
هذه هي الأجواء المشحونة بالتوتر التي يعيشها الفلسطينيون وأياديهم عل قلوبهم، خشية أن يلحق الأذى والمكروه بثالث الحرمين الشريفين، وخشية ابتلاع أولى القبلتين، إضافة إلى الهموم المستدامة الأخرى التي ما انفك يفرزها الإحتلال، وعلى سبيل المثال لا الحصر هدم المنازل الفلسطينية في القدس، والتهديد بهدم المزيد. إلا أن الهم الأكبر الذي يعيشه الفلسطينيون يتمثل في لا مبالاة الأنظمة العربية والإسلامية السياسية بكل هذه الأحداث الخطيرة على ساحة القدس ومقدساتها.
كلمة أخيرة لا بد منها. إن قضية القدس والمقدسات الإسلامية فيها تتجاوز كل تراكمات التقصيرات العربية والإسلامية بحقها، ولا تغيبها من الذاكرة أو تعتم عليها فهي تشكل مساحة شاسعة من التاريخ والتراث والعقيدة. إن الفلسطينيين وهم جزء لا يتجزأ من الأمتين العربية والإسلامية قد نذروا أنفسهم حراسا وأمناء على القدس ومقدساتها. إن نضالاتهم على شرفها واجب وشرف لهم وبمثابة رسالة دائمة إلى العرب والمسلمين وتذكير. إنهم على ثقة بأن الذكرى ستنفع الذين ما زالوا يؤمنون بحقهم المشروع في هذه المدينة المقدسة.