ليل الزنازين، سرد لذكريات 7 سنوات في سجون القذافي

صلاح الدين الغزال

ليل الزنازين،

سرد لذكريات 7 سنوات في سجون القذافي

السجن الثاني

سجن الجديدة

صلاح الدين الغزال - بنيغازي/ليبيا

[email protected]

وصلنا إلى سجن الجديدة بطرابلس فاستقبلونا بحفاوة بالغة وكانت معاملتهم طيبة.. في بداية الأمر وضعونا في عنبر يتكون من حجرتين به حمام واحد وكان عددنا خمسة وأربعين سجينا.. قمنا بتقسيم الحمام بالبطاطين إلى ثلاثة أجزاء.. جزء لقضاء الحاجة وجزء للاستحمام وجزء لغسل اليدين والوجه وأواني الطعام.. لم يتوقف الطابور أمام باب الحمام طوال الليل وطوال النهار بسبب كثرة العدد.

     في الصباح قاموا بنقلي مع بعض السجناء إلى مكان يدعى قصر الشعب وهو قصر ولي العهد في العهد الملكي.. بعد ذلك بدأوا في التحقيق معنا وكان من ضمن المحققين "عبد السلام الزادمة" و"الطيب الصافي".. تأخر الوقت فأمروا بإعادتنا إلى السجن.. لم نمكث في ذلك العنبر الضيق طويلا فقد تم نقلنا إلى مكان آخر أرحب وأوسع وهو عبارة عن فيلا فارهة تتكون من حجرتين كبيرتين وساحتين شاسعتين والعديد من دورات المياه وكانوا لا يقفلون علينا في الحجرات إلا عندما يرخي الليل سدوله.. بعد أيام قلائل قرر القذافي أن يقوم بمحاكمتنا فتم عرضنا على محكمة ثورية تحت رحمة ثلاثة قضاء لا علاقة لهم بالقانون وكان من ضمنهم "عبد السلام الزادمة" و"سعيد راشد" و"الطيب الصافي" بالإضافة إلى امرأة بنغازية لم أشأ ذكر اسمها حفاظا على حياتها.. كنا نتعرض داخل المحكمة للتوبيخ والإهانات والتهديد بالضرب.. تم استدعاء أولياء أمورنا لحضور المحكمة وقد تجرعوا معنا الأمرين وفي أحيان كثيرة كان ينالهم من الحب نصيب.. هددونا بنزول أقسى العقوبات.. كانت المحاكم الثورية في ذلك الوقت قد شاعت.. والويل والثبور لمن يعرضونه عليها.. إنها حبال المشانق التي تتدلى في الميادين والجامعات.. تحز أعناق الأبرياء من أجل إرضاء دموية القذافي وترهيبا لمن يجرؤ للتصدي لفوضويته المقيتة.

     مازالت في أذني ترن أصداء كلمات الزادمة وهو يهددنا بربطنا بالأغلال وإنزالنا إلى الأسفل.. ولم نكن ندري ماذا يوجد بالأسفل ولكننا على يقين أن هناك هولا غير مرئي في انتظارنا.. لم يسمحوا لنا بصلاة العصر أثناء الجلسات فقمنا بتأديتها قضاء ولكنهم كانوا أسخياء أثناء صلاة المغرب فسمحوا لنا بتأديتها في وقتها ثم عقدوا الجلسة.. أخذ القضاء يستجوبون أحدنا وكان طالب طب ومثقف دينيا.. حاول القاضي الثوري الدفاع عن سيده فقال مدافعا: "نحن دولة إسلامية بدليل أننا خليناكم تصلوا المغرب حاضر".. لم ترق الكلمة للسجين فأجابه: "وليش العصر ما خليتوناش نصلوه حاضر".. غضب القاضي الثوري وصاح "المغرب غريب ولكن باقي الأوقات تستطيعون أن تصلوها قضاء".. فأجابه السجين بقول الله تعالى: "إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا".. غضب القاضي الثوري وأرغى وأزبد ثم أمره بالانصراف.. فرد عليه السجين ببرودة أعصاب أنا فقط أردت أن أفهمك الدين فرد عليه القاضي الثوري: "أنا الدين ما نخذاش منك اجلس مكانك".. انتهى الحوار وتلقى القضاة صفعة من سجين لا حول له ولا قوة.. تم عرضنا جميعا على هيأة المحكمة غير المؤهلة ثم عادوا بنا إلى العنبر وانتظرنا الأيام القادمة ليبث في أمرنا.. مرت الأيام ولم يتم استدعاؤنا من جديد لقد مضى على حبسنا عام ونصف ونحن بانتظار أن يحسموا أمرنا وينتهي هذا الفيلم الممل الطويل.

بعد عدة شهور من الانتظار علمنا أنه تم إلغاء المحكمة الثورية وأننا سنظل موقوفين حتى ينظروا في أمرنا.

     الحياة داخل سجن الجديدة كانت حياة مرفهة ولكن حرماننا من الزيارات وانقطاعنا عن العالم الخارجي كان يعكر صفوها.. الطعام فوق الجيد والمعاملة ممتازة.

في سجن الجديدة تحس أنك بين أهلك وذويك لولا مشكلة واحدة وهي التطرف الديني الذي بدأ يظهر على شعر وجوه وسراويل البعض.. إن حفظ القرآن بدون فهم معانيه يجعل من صاحبه أشبه بالحمار يحمل أسفارا.. كانت هناك حجرة صغيرة ولكنها بدون حمام.. طلبنا من السجان أن ننتقل لها فسمحوا لنا بذلك.. كان عددنا ستة سجناء.. قمنا بصنع حاجز من البطاطين لنتخذه حماما وجلبنا علب صفيح لنستعملها لقضاء الحاجة وأحضرنا سطلا كبيرا لجلب مياه الشرب.. المكان كان مريحا جدا وبعيدا عن المنغصات.. صنعنا آلة طرب وهي عبارة عن عود وكانت أوتاره من خيوط ليفة بصل.. عزفنا وغنينا.. أحسسنا بنوع من السعادة وزال عنا بعض البؤس والأسى ولكن ذلك لم يدم طويلا فقد وصلنا تقريع من بعض السجناء من الحجرات المجاورة.. تألمنا كثيرا وتساءلنا داخل أنفسنا عن أسباب إلحاق الأذى بكل من يحاول أن يفرح قليلا.. لم تكن أغنياتنا ماجنة.. كانت تتحدث عن ألم السجن وعن الأمل في انقشاع الضيم ولكن يوجد داخل السجن سجناء أشد قسوة من السجانين أنفسهم.. هم يبدعون بإلحاق الألم بزملائهم دونما يتقاضوا راتبا.. وهم أشد فتكا من السجانين أنفسهم.. فلو دخلت إلى الحمام ولم تقل: "أعوذ بالله من الخبث والخبائث" بصوت عال فسوف تعرض نفسك للمشاكل.. ولو أجبتهم أنك قلتها في سرك لم يصدقوك وأجابوك أننا لم نسمعك.. ولو لم تنم على جانبك الأيمن فقد تتعرض لاتهامك بالهرطقة.

تم تحطيم آلة الموسيقى بعد إقناع عازفها.. بعض المتطرفين لم يتمكنوا من ترك السجائر رغم اقتناعهم بتحريمها ومنهم من يطلب منك ولعة لسيجارته ولكنك حين تطلب منه أنت ولعة يأبى ذلك ويجيبك حرام.. وبعضهم لا يسمح لك بالاستماع للأغاني من مذياعه وعندما تجيبه أنت أيضا تستمع للأغاني يجيبك أنا عندما أستمع فإنني أستمتع وأحمل ذنوبا بينما عندما تستمع أنت فإنك تستمتع وأنا أحمل الذنوب دونما أستمتع.

كان السجناء يحبون لعبة الكرة ولكنني لم أكن من عشاقها.. وبدأ البعض الآخر في حفظ القرآن.. أما عن الكتب الثقافية فلم يسمحوا لنا بها.. قمنا بإنشاء مسابقة أدبية عن أجمل مقالة وقد شارك بها العديد من السجناء وشاءت الأقدار أن أفوز بها وكانت الجائزة استيكة دخان روثمان وهي عملة صعبة داخل السجن.. أحضرتها لأفراد حجرتي المتعطشين للسجائر وأجبتهم هل عرفتم الآن فائدة الكتابة.

ذات يوم فاجأتنا إدارة السجن بهدية قيمة وهي عبارة عن شبشب لكل سجين.. كانت صدمة بالنسبة لنا فقد رق النظام مؤخرا لمنحنا هذه الهدية وهي تعتبر إنجاز ضخم لصالح السجناء.. استلم كل منا شبشبه الجميل.. بعضنا كان بخيلا فلم يشأ أن ينتعله وخبأه بين حاجياته.. كنا نسير بتبختر داخل الممرات ونحن ننتعله.. وأثناء الصلاة كنا نخلعه.. وكنا نضع الشباشب جنب بعضها وكأنها سيارات.. وقام كل منا بوضع علامة على شبشبه حتى يعرفه فقد كانت متشابهة.. ولكن واجهتنا مشكلة وهي أن هناك من خبأ شبشبه للحفاظ عليه وأخذ يستعمل شبشب غيره وتظل في هذه الأثناء تبحث عن شبشبك بين الأرجل المترامية.. خطرت لي فكرة وهي ربط فردتي الشبشب بخيط ولكن حدث ذات يوم أن قام أحد المساجين بانتعاله ثم خطا خطوة في الهواء ولم ينتبه للخيط فوقع أرضا واصطدم إبهام قدمه بنتوء حديدي قرب الباب فجرح وتطاير الدم في الأرجاء وانسكب كوب الحليب الذي كان يشربه.. تألمت كثيرا لذلك المشهد وأحسست بالذنب.

لم تدم إقامتنا طويلا داخل سجن الجديدة المرفه.. فقد حدث ذات يوم أن استعارات الحجرة التي بجوارنا الفرنيلو من أجل تسخين العشاء وفور الانتهاء من ذلك طلبوا من السجان ويدعى ساسي وهو رجل طيب أن ينقله لحجرتنا ولم يكن المسكين يعلم أنه ساخن فمسكه بيده فاحترقت فصرخ المسكين متألما وأخذ يكيل السباب للسجناء فأثار ذلك حفيظة بعض منا فنال السجان حظه من التوبيخ بوصفه خادما لنا يفعل ما نريد.. استشاط السجان غضبا وقام بجلب قوة لتأديبنا.. جاءت القوة وكانت مدججة بالسلاح لرفع ذلك السجين المحتج ولكن تعرضت للصد من قبل السجناء حتى إن أحدنا أقسم بالطلاق ألا يأخذوه.. حين ذلك هددونا بأخذنا جميعا إن لم نسلمه لهم.. فأجبتهم فلتأخذونا جميعا.. لم يكن عدد أفراد حجرتنا كبيرا فقد كنا زهاء الستة أفراد.. في تلك الأثناء تمردت بقية الحجرات وحاولت تحطيم أبواب الزنازين المحكمة الإيصاد من أجل إنقاذنا ولكنها لم تفلح.. نقلونا إلى الساحة الخارجية وأخذ أحدهم يهددنا بسلاحه الكلاشنكوف فقام أحدنا وتقدم منه وقال له: "اقتل إن كنت رجلا".. لقد زهد السجناء في الحياة ولكن لا صلاحية يملكها السجانون لقتلنا.. وضعونا داخل سيارة كروزر من الخلف ومضوا بنا إلى حيث لا ندري.. كان ذلك عام 1983م أي أنه قبل أن يبنى سجن بوسليم وقبل أن تتم تلك المذبحة الشهيرة.. أنزلونا إلى الأرض وذهبوا بنا نحو الزنازين الانفرادية.. دخلنا جميعا إلى زنزانة واحدة فأرادوا توزيعنا على الزنازين فخشينا أن يفرقونا ثم يبدؤون في ضربنا.. رفضنا أمرهم فقرروا تفريقنا بالقوة.. كنا بين أيديهم كالخراف وحاولنا التصدي لهم قدر جهدنا حتى تمكنوا من وضعنا كل في زنزانة منفردة ولم يبق سواي فقررت رفض أوامرهم بكل قوة.. تشبثوا بي مثل الذئاب وكنت نحيل الجسم لا طاقة لي بهم.. قاموا بجذبي نحو الزنزانة فلم أتمالك نفسي وقمت بضرب أحدهم وكان شرسا فقام بدفعي عنوة إلى الزنزانة.. وما أن جلست على الأرض حتى اقتحم السجان الشرس المكان وحاول جاهدا ضربي بالحبلة التي كانت في يده.. لقد بذلت جهدا مضنيا من أجل تفادي ضرباته المتتالية.. ومازال دويها يغمر عباب أذني حتى الآن.. استصرخت أحد السجانين وكان يدعى ساسي لإمساكه.. كانت علاقتي بالسجان ساسي قوية وهو رجل طيب ولكنه أحرج أمام زميله في المهنة فآثر الحياد ولكنني كنت أحس بألمه وهو يشاهد عملية الفتك بي.. في تلك الأثناء غمرتني قوة عجيبة فانقلبت إلى وحش كاسر.. وكأن ملاك كريم سبر أغوار جسدي النحيل فانقضضت على السجان الشرس وضربته بكل قوتي.. تقهقر السجان الشرس رغم قوة عضلات جسده وهرب خارج الزنزانة ثم قام بإغلاق الباب علي.. كان قد سبق لي أن فوجئت عندما دخلت للزنزانة الانفرادية بصوت أزيز مثل أزيز الثلاجة يغمر المكان وتعجبت لذلك ثم اكتشفت بعد قليل أن هناك سائلا يسيل على رأسي.. تحسست رأسي ففوجئت بالدماء تنهمر من خلاله.. أدركت أن حبلة السجان الشرس قد نالت من رأسي.. كانت الدماء غزيرة والزنزانة موحشة.

لم يمض وقت طويل حتى فتحت الزنزانة من قبل بعض السجانين الذين فاجأهم نزيف الدم المنهمر على ملابسي فأرادوا إسعافي فأبيت.. بذلوا قصارى جهدهم لإقناعي.. قلت لهم: "مانيش طالع حتى لو جاء معمر القذافي".. في تلك الأثناء وصل السجان الشرس متعجبا عن سبب النزيف فأجبته متهكما إن الحبلة التي في يده قامت بفعل ذلك منفردة فذهب وتركني.. لم يشأ السجانون تركي أنزف فبعضهم كان مليئا بالإنسانية والبعض الآخر خشي من المسؤولية فنحن في سجن الجديدة مجرد أمانة من قبل أمن الدولة وغير مسموح بالعبث بنا من قبل سجانين مدنيين.. بعد إلحاح شديد وافقت على نقلي للعيادة.. خرجوا بي من الزنزانة وعبروا بي ساحة فسيحة.. كنت ظمآن فوجدت في الطريق حنفية مياه فشربت حتى أخمدت عطشي.. رددت قوله تعالى: (وجعلنا من الماء كل شيء حي) ما أن أنهيت تلاوة الآية حتى رد علي أحد السجانين قائلا: "القرآن تقروا فيه واتديروا في عكسه" فأجبته: "بالعكس نحنا نطبقوا فيه وشوف القرآن شن يأمر.. يأمر بحسن معاملة الأسرى".. فلم ينبس السجان ببنت شفا.. وصلنا العيادة وما أن دخلناها حتى فوجئت بالسجان الشرس ممددا على سرير بداخلها فنهض وسلاحه في يده وهو يقول: "جبتوه".. استفزتني كلماته فتركت له المكان وخرجت.. لم يعجب تصرفه السمج بقية الزمرة فخرجوا على أثري وألحوا على ضرورة إسعافي.. لبيت دعوتهم وجلست على الكرسي وبدأ الممرض في محاولة إيقاف النزيف.. كانت الكلمات الجهوية تنز عبر ألسنتهم وهم يكيلون السب للمنطقة الشرقية ويصفون سكانها بالتيوس.. كنت وقتها أكاد أن أتميز من الغيظ وأنفجر ولكنني وجدت نفسي وحيدا ومن السهل الفتك بي.. أنا لا أحسبهم على المنطقة الغربية وهم لا يمثلونها.. هم لا علاقة لهم باللحمة الوطنية.. وليبيا ستظل رغما عنهم لحمة واحدة.

لم يقم الممرض بخياطة الجرح وكل ما فعله هو قص الشعر المحيط بالنزيف ووضع لصقة عليه ثم عادوا بي إلى الزنزانة الانفرادية التي كانت خالية من كل شيء.. لا فراش أو بطانية تقي من البرد.. لا ماء يقي من العطش.. لا رغيف يقي من الجوع.. كانت معي سجائر ولم يكن معي كبريت وشاء الحظ أن أحصل من أحدهم على ولعة فظللت أشعل سيجارة من سيجارة لتمضية الوقت حتى تشبع جسمي بالنيكوتين وقد كنت مدمنا على التدخين الذي أقلعت عنه فيما بعد وصرت من أشد أعدائه.

في الصباح بدأنا نسمع وقع خطى الحراس يقترب رويدا من زنازيننا المظلمة.. أخرجونا جميعا ثم توجهوا بنا نحو إدارة السجن.. دخلوا بنا إلى مكتب المدير وكان معه مساعده ومجموعة من الحراس.. استقبلنا المدير ومساعده بمودة وكانا من أفضل الناس حيث تكاد أن ترى الطيبة تسيل من على وجوههما.. كان ذلك في عام 1983م.. وكان الآمر يدعى الحاج طاهر وهو رجل فاضل وللتاريخ كانت تلك شهادتي.

تكلم نيابة عني أحد الرفاق وأخبر الآمر بضربي بالحبلة على رأسي من قبل أحد السجانين.. فأجاب أحدهم بأنني أنا الذي قمت بضرب السجان وأنه عندما قام بقفل باب الزنزانة علي اصطدم الباب براسي فشجه وسال الدم.

لقد كذب السجان على السجين أمام آمره لعلمه بأننا مجرد أمانة من قبل أمن الدولة وأي إصابة قد تفقد الأجهزة رقما في سجلاتها لا يحق لغيرها سحقه.. أجبت الآمر بأنني لم أضرب السجان وأنني فقط أمسكته عندما حاول ضربي وهذه وحدها كانت تهمة، فعلى السجين أن يتلقى الضربة ولا يحاول منعها.. وبينما كنا في جدال إذ بهاتف السجن يرن.. رفع الآمر السماعة وأومأ لي بالانتظار.. تغيرت ملامح وجهه وهو يستقبل الكلمات التي كانت تبدو من جهة علية.. ثم طلب منا الخروج قليلا.. خرجنا إلى المكتب المجاور ودخل علينا مساعد الآمر وعزم علينا من سجائره الخاصة فاعتذرت له فأجابني إذا كانت لديك مشكلة مع أحد السجانين فلا تشملنا كلنا فاعتذرت له بأنني لا رغبة لي في السجائر وشكرته على كرمه.. ثم قاموا بنقلنا إلى العنبر ونحن نتساءل عن سر الهاتف الذي غير مجريات الأمور وما أن دخلنا إلى العنبر حتى فوجئنا بإخبارهم لنا بأنه سيتم نقلنا إلى سجن الحصان الأسود سيء الصيت.. كانت المفاجأة قاسية فقد كان ذلك السجن قبل تهديمه أسطورة من أساطير العصور القذافية المرعبة.

قاموا بتعليبنا داخل سيارة نقل السجناء.. السيارة كانت كبيرة ومصفحة بالحديد بحيث لا ترى شيئا في الخارج.. كان عددنا 45 سجينا لا أدري كيف استطاعت نقلنا مع حاجياتنا.. لقد ودعنا بعض السجانين بسجن الجديدة ودموعهم على خدهم كانوا ليبيين مثلنا.. أدركوا بأنهم لن يلتقوا بنا ثانية فالموت في سجن الحصان الأسود يوزع بالمجان.. وهنالك سجانون من طينة جنكيزية لا ترحم.. كانت هناك سيارة شرطة تتبع خطانا وكان السائق ومرافقيه يتلذذون بمصابنا والسرور باد على وجوههم الدنيئة.. وكأنهم أصحاب الثأر.. كانوا يضحكون ويمرحون بينما السائق يلاعب السيارة خلفنا وكأنه عاد بصيد ثمين.. أخيرا وصلنا إلى سجن الحصان الأسود من جديد.. أنزلونا لإتمام الإجراءات.. توجهوا بنا نحو إدارة السجن وأوقفنا في طابور أشبه بطابور الخبز.. في بلادي أصبح السجن بالطابور.. كانت هناك إدارتان واحدة مدنية والأخرى عسكرية.. لم نكن نعرف أنهما منفصلتان.. أردت إشعال سيجارة ولم أكن أملك كبريتا فشاءت سذاجتي المفرطة أن أدخل إلى مكتب إدارة الشرطة العسكرية بالحصان الأسود المرعب لأخذ ولعة ليسجارتي وما أن دخلت حتى ركض خلفي الشرطي وهو مفزوع ويصيح "هضوم موش شورنا" "هضوم موش شورنا".. لقد كان يتوسطهم مساعد آمر السجن العسكري شخصيا بشواربه الطويلة.. لقد نجوت بمعجزة فلو طلبت من الوحوش الذين في الداخل ولعة لسيجارتي لربما قضيت حياتي وكنت أول من يحاولون تربية السجناء به.. ولكن كلمة الحرس "هضوم موش شورنا" أذكت جذوة الارتياح في نفوسنا فقد أدركنا بأنهم سيسجنوننا في القسم المدني بسجن الحصان الأسود وهذا يعتبر مكانا فارها أمام السجن العسكري سيء التاريخ.. ثم ساسونا كقطيع من الأغنام نحو سجن الحصان الأسود المدني وهو سجن مريح بالمقارنة بالسجن العسكري لنقضي به فترة مريرة من العمر لم نكن نظن أن القدر يخبئ لنا سجونا أقسى وأسوأ وأن حياة أشبه بالقطران تنتظر أجسادنا المنهكة.