مهمة المراقبين العرب في سوريا في ميزان الواقع
مهمة المراقبين العرب في سوريا
في ميزان الواقع
محمد خليفة
انتقد بعض الأصدقاء والقراء سخريتي أمس من فريق المراقبين الذين أرسلتهم الجامعة العربية , وسألني بعضهم لماذا أتهكم عليهم , ولا أعطيهم فرصة لكي نرى عملهم على الارض . وهو سؤال مبرر مبدئيا , لكني أعتقد أن الأمر لا يحتاج دائما لاختبار , وقد يكون الانتظار مضيعة للوقت , حين لا يكون مقبولا ولا مسموحا تبديد الوقت , حيث تسفك الدماء عزيزة وغزيرة , وتزهق الأرواح البريئة الطاهرة في كل لحظة , كما لا ينبغي تعليق الأمال على وعود أو مبادرات لا طائل منها , لأن ذلك سيؤدي لاحقا إلى احباطات وخيبات مؤلمة , نحن في غنى عنها .
السوريون في أمثالهم العامة يقولون : [المكتوب يقرؤ من عنوانه ] أي العنوان يغني أحيانا عن قراءة النص . ومهمة فريق المراقبين من هذا النوع , لأن بإمكان المحلل الخبير أن يعرف سلفا أن هذه المهمة لن تحقق أي أمل من أمال شعبنا المنكوب . ويقولون في مثل أخر [ لا يجرب المجرب إلا من عقله مخرب ] !! وقد جربنا النظام السوري خمسين سنة , وجربنا الجامعة العربية , ونعرف حدود مقدرتها . وقد تابعنا تطور المبادرة العربية منذ كانت فكرة , حتى أصبحت جنينا تعرض لعمليات تشويه مستمرة , حتى ولد بهذه الصورة المشوهة . والنظام السوري الخبير بالألاعيب لم يوافق على المبادرة إلا بعد أن أفرغها من محتواها , وضمن أن تكون موافقته عليها تخدم مصلحته في حربه على شعبه , ولا تخدم أحدا أو جهة اخرى .
كانت المبادرة تشترط انسحاب الجيش السوري من المدن والقرى , إلى ثكناته , والإفراج عن المعتقلين السياسيين قبل أن يبدأ تطبيقها , وقبل أن يصل المراقبون , أي أن هؤلاء كانت مهمتهم مراقبة خلو المدن والشوارع من القوات العسكرية وألياتها , ووقف القتل وإطلاق النار على المتظاهرين , وها نحن نرى أن المهمة انحرفت عن مسارها وصارت سياحة في خطوط التماس وبين القوات العسكرية وبوجودها . وكان الكلام عن قيام المراقبين بالتجوال في أي مكان تريده دون أن تطلع السلطات السورية سلفا على زياراتها حتى تؤتي ثمارها , وها نحن نرى ونسمع من المراقبين والسلطات السورية معا أن على المراقبين التنسيق مع السلطة , والتحرك بمرافقة عناصر الامن , وإبلاغها عن تحركاتهم مسبقا , وهو ما يعطيها القدرة على إخفاء ما تريد إخفاءه , وإحباط هدف الزيارة !! , وكانت الوعود أن ينسق المراقبون مع ممثلي المعارضة وتنسيقيات الثورة للقيام بزيارات مفاجئة للمعتقلات السرية , والمقابر الجماعية , والإرشاد إلى أماكن القوات العسكرية , والوصول إلى المعارضين والمواطنين الذين تعرضوا للاعتقال والتعذيب لجمع شهاداتهم والالتقاء بالمطلوبين الفارين , وزيارة ذوي القتلى والشهداء والجرحى والمصابين والمتضررين لتسجيل إفاداتهم . وغير ذلك من صور وحقائق الأضرار والمعاناة والخسائر التي أصابت الشعب السوري على أيدي عصابات النظام , لكن التعديلات التي فرض النظام إقحامها على النص الاصلي للمبادرة والتعديلات المتتالية للبروتوكول الخاص بالمراقبين , جعل كل ذلك مستحيلا , لأنه لم يعد ممكنا للمواطنين السوريين الانفراد بالمراقبين , ولن يستطيع هؤلاء زيارة المواطنين المتضررين , ولا القيام بأي حركة بعيدا عن رقابة الامن , وجواسيسه .
لقد استطاع النظام السوري تغيير طبيعة المهمة والمبادرة قبل أن تبدأ , وخلال جولات التفاوض وتمثيليات الابتزاز التي مارسها النظام , مدعوما بعدد من الانظمة التي لا تقل عته ديكتاتورية وفسادا وإجراما , ولا مصلحة لها بسقوطه . ولهذه الاسباب رأينا بليد المعلم يرسل معاونه للتوقيع وهو منشرح الصدر ويتحدث بارتياح معلنا أن سيادة سوريا ستبقى مكفولة أثناء تنفيذ المبادرة و نصح المراقبين بتعلم السباحة قبل التوجه لسوريا ليتمكنوا من من التكيف مع التفاصيل التي سيغرقونهم بها ... وهذا هو بالضبط ما يجري على الأرض الان .
ما سبق كله يفع في كفة, بينما في الكفة الأخرى ثمة أشياء اخرى عديدة لا بد من التظر إليها أيضا . من بينها كفاءة هؤلاء المراقبين وأهليتهم واستقلاليتهم , لأننا في العالم العربي نعلم انه ليس لدينا للأسف حقوقيون ومنظمات حقوقية ذات تاريخ في العمل , ولها كفاءة وخبرات , لأنه من غير المعهود عندنا هذا النشاط , ولا استقلالية حقيقية للمنظمات الحقوقية العربية فمعظمها خاضع بدرجة أو أخرى لهيمنة أو وصاية السلطات الحكومية وأجهزتها السرية , بل معظم هذه المنظمات مرتبطة بأحزاب اديولوجية , وهذا يتعارض مع دورها ووظيفتها الحقوقية المحايدة .
وفوق ذلك لا بد من لفت النظر إلى حقيقة تختصر كل تقييمنا السلبي لعملية المراقبة برمتها من الفها إلى يائها هي : لنفترض أن المراقبين أدوا وظيفتهم على أكمل وجه , وأرسلوا تقديرهم للوضع السوري كما نريد نحن لا النظام .. فماذا بإمكان الجامعة العربية أن تفعل؟؟ هل ستستطيع فرض عقوبات مناسبة , وإجبار النظام السوري على التوقف عن القتل والقمع والاعتقال ..؟؟ هل لدى الجامعة فصل سابع في ميثاقها ؟؟ أم أن أقصى ما تستطيع الجامعة فعله هو بعض الخطابات الادبية , أو إحالة الملف إلى مجلس الامن .. وللأسف فهذا لن يعير نتائج عمل الجامعة وبعثة المراقبين اي اهتمام يذكر , فلجنة المراقبين لسوريا لا قيمة حقوقية ودولية لعملها على الاطلاق كما قال الخبير شريف البسيوني اليوم في قتاة العربية وتقاريرها غير ملزمة , فهي ليست لجنة تقصي حقائق , ولا هي لجنة تحقيق , بل هي لجنة مراقبة ... أي كما سميتها فريق سياحة من نوع خاص وجديد !!
إن تشكيل اللجنة وبدء مهمتها بموافقة وسرور من النظام الإجرامي , يعكس تحولات غير منظورة حدثت في الشهرين الماضيين بين بدء الحديث عن المبادرة , وبين التوقيع عليها وإرسال المراقبين , منها أن دولا عربية غيرت مواقفها لصالح عصابة الاسد , كالعراق والجزائر والسودان وإحدى الدول الخليجية الكبرى . كما خفتت حماسة دول أخرى وخاصة الخليجية , وهناك معلومات عن تبادل زيارات سرية بين مسؤولين أمنيين عرب من تلك الدول وسوريا , وهناك معلومات اهم عن تنسيق بين هذه الدول وروسيا التي دخلت على خط التفاوض السري وهي تريد حماية الاسد وعصابته ونظامه , وتطالب بمبادرة تنقذ الاسد على غرار المبادرة الخليجية التي انقذت الديكتاتور اليمني , ومقابل مبلغ كبير جدا يصل إلى عشرين مليار دولار تدفع لموسكو ثمنا لدعمها تخلي الاسد وخروجه بموجب مبادرة إنقاذ على غرار اليمن !!
وبسبب هذه التراجعات العربية , حدثت تراجعات موازية من قبل تركيا و الدول الغربية و وخاصة الولايات المتحدة التي تراجعت حدة تصريحاتها و كذلك مستوى اهتمامها بالملف السوري , كأن ما يجري في سوريا ليس سوى مباراة رياضية شهدت شغبا وسقط فيها فتلى وجرحى ... ليس إلا !!
تشكيل بعثة المراقبين و تحديد مهامها جاءا ايضا ترجمة لحصيلة هذه التحولات الميدانية في المواقف الدولية والاقليمية والعربية من الثورة السورية, ويعكس تخاذلا فاضحا أمام التهديدات والابتزازات السورية والإيرانية المشتركة . لاحظوا اختيار رئيس بعثة المراقبين الفريق السوداني محمد الدابي , وقد سالت عنه
زميلا صحافيا خبيرا من السودان , فقال لي بالحرف إنه : أهم رجل استخبارات في أفريقيا , وتاريخه حافل , منذ أن كان المهندس الأهم لانقلاب الفريق عمر البشير عام 1989 , وهو المسؤوا الاول عن جميع السياسات الامنية للنظام السوداني , بما فيها سياسة القتل والقمع في دار فور , وفي الخرطوم , وفي الجنوب سابقا . والمعروف أن علاقات نظامي الخرطوم ودمشق كانت وثيقة دائما , مما يعني أن الدابي كان من مهندسيها .
ومن باب الاستزادة أصارح القراء والاخوة الكرام بأني اعرف معرفة شخصية وثيقة أحد أبرز المراقبين المغاربة والذي فوجئت به يطلق تصريحا من القاهرة بعد لقائه مع نبيل العربي يشرح فيه مهمة المراقبين ويؤكد انها ستكون بالتنسيق مع السلطات السورية ويعرب عن حرصه على مشاعر السلطات المذكورة , وهذا الرجل كما عرفته سابقا بلا أخلاق تؤهله للقيام بمهمة فدائية ونبيلة وشجاعة ,لصالح الثورة السورية , وهو مستعد لبيع الشعب السوري كله بزجاجة ويسكي , أو ليلة حمراء , كما أنه ينتمي لحزب ماركسي مؤيد لنظام الممانعة والثوريات اللفظية لعصابة الاسد ... فكيف أتفاءل خيرا بمثل هؤلاء المراقبين ؟؟ وكيف أنتظر شيئا ذا قيمة من مهمة لا قوة تنفيذية لها , ولا مصداقية , ولا فعالية ؟؟؟؟!!!!
لن يكون للمهمة أي قيمة , وستعطي النظام المزيد من الوقت والمهل والفرص ليستكمل مشروع إبادة المعارضة والثورة حتى ولو اقتضت قتل واعتقال جميع السوريين .
الجامعة العربية ضحكت على الشعب السوري , وخدعته بالهالة الكبيرة التي اضفتها على مبادرة ليست سوى مسدس بلاستكي .. لا يخيف أحدا , فكيف يخيف نظاما مدججا بكل انواع الاسلحة ؟؟!!