هل مصر مستقلة؟
أ.د. حلمي محمد القاعود
[email protected]
بدأت أتشكك في استقلال مصر ، وأنها دولة ذات سيادة ! ما يجري الآن ومنذ أسابيع ، بل منذ انتصر الشعب المصري في معركة خلع الطاغية وإسقاط رموز النظام البائد الفاسد ، والمصريون يواجهون حربا شرسة تبدأ بإعلان الوصاية عليهم من الأقليات السياسية والأيديولوجية وسكان طرة الجدد ، وانتهاء بدول الاستعمار الغربي المتوحشة ، مرورا بحكومات بعض الدول العربية التي لا تريد للإنسان العربي المسلم أن يملك حريته وإرادته !
الفزاعة التي لا يمل هؤلاء جميعا من رفعها هي صعود التيارات الإسلامية في الانتخابات التشريعية ، وكأن هذه التيارات تمثل عدوا زاحفا قادما من بلاد واق الواق ، وليس إنتاجا لعقيدة هذا الشعب ، ومظهرا لتدينه ، وتعبيرا عن هويته وتأكيدا لذاتيته .
ستون عاما مضت كان الإنجليز السمر في بلادنا يعملون ليل نهار على استئصال الإسلام ومحاربته ، وإذلال المسلمين المتمسكين بدينهم ، ومحاصرتهم ووضعهم في السجون ، وتشويههم من خلال الإعلام والصحافة والفنون المختلفة : السينما والمسرح والتلفزيون والصحف والكاريكاتير وتأليف الكتب غير العلمية التي تطعن في الإسلام وتشوه علماءه وتزري بقيمه وتشريعاته ..
بعد إقرار التعديلات الدستورية ؛ اشتعلت الحرب على الإسلام بدءا من الإلحاح على إلغاء المادة الثانية من الدستور حتى الحملة على الدولة الدينية المتوهمة التي يزعم قادة الحملة أنها هي الدولة الإسلامية ، مع أن الفارق بين الدولة الدينية بالمفهوم الأوربي والدولة في الإسلام بعيد بعد السماء عن الأرض .. مرورا بالمماحكات التي تتباكى على الخمر والقمار والبكيني والتماثيل! وكأن المصريين لا يستغنون عن هذه الأشياء ولا يشغلهم البحث عن أنبوبة البوتاجاز وبنزين 80 ورغيف الخبز
واللحوم المستوردة خفيضة الثمن والسمك الروسي !
صار ميدان التحرير مجالا لمن يريدون إلغاء الانتخابات ، ومن يطالبون باستمرار الحكم العسكري حتى يشتد عود الأحزاب المخاصمة للإسلام وتكسب أرضية اجتماعية ومن بينها الأحزاب التي أنشأها النظام السابق . وصار نزلاء الميدان المستديمون يولون الوزراء ، ويخططون لمن يحكم مصر ومن يقودها ، ولو لم تأت به صناديق الانتخابات .
كانت فصائل اليسار وخاصة الشيوعيون من أكثر الفصائل عدوانية ضد الإسلام ، وأتاحت لها قنوات المال الحرام وصحف الضرار فرصة التدليس على الأمة والوطن ، ومنذ أن أعلن عن بدء الانتخابات فقد القوم صوابهم؛ تارة يطالبون بالتأجيل وتارات أخرى بإحداث بلبلة واشتباكات ، ولم تكن الجهات الأمنية بالذكاء الذي يفوت عليهم الاستفزاز والوقوع في الأخطاء والخطايا ، فكان هناك شهداء وتخريب وحرائق لا أعرف إن كان آخرها حرق المجمع العلمي ، أم إن بعده حرائق لا يعلم مداها وحجمها إلا الله !
في 13 مايو 2011 ، نشر موقع اليوم السابع أن أحد مؤسسي حزب العمال الاشتراكي، أعلن أن الاشتراكيين سيدافعون عن قيام الدولة المدنية التي تضمن انتصار مبدأ المواطنة، وتحترم العقيدة الدينية(؟) ، ولا تقسم أو تفتت الشعب، "حتى ولو اضطروا إلى حمل السلاح"، ليصلوا إما إلى النصر وانتزاع الحرية، أو الانضمام إلى شهداء الثورة. وقال المذكور فى افتتاح مؤتمر "أيام اشتراكية" الخامس بنقابة الصحفيين إن الثورة لم تتحقق بعد، وإن مصر ما زالت فى مقدمة الثورة السياسية التى تحتاج إلى
تكاتف الاشتراكيين والديمقراطيين من أجل انتزاع الحرية، التى أوضح أنها لن تتحقق إلا بعد الخلاص من القوى الظلامية (؟!) التى تحمل المبادئ الرجعية.
وأضاف "لكل ثورة أعداء يجب أن نتصدى لهم، وفى مقدمتهم كل التيارات الإسلامية من إخوان وجماعات سلفية وجماعات إسلامية، والذين يدعون تأييدهم للدولة المدنية إلا أنهم فى الأصل لن يؤيدوا إلا الدولة الدينية التى إذا قامت ستكون أكبر هزيمة للثورة الشعبية".
وقبل اندلاع العنف في الشوارع المتفرعة من التحرير مع بداية الانتخابات ولم ينته حتى نهاية الجولة الثانية ؛ ظهر بشكل لافت علي جدران محطة السادات في المترو شعار مطبوع للاشتراكيين أو الشيوعيين الأكثر تطرفا أقصد الأناركيين عبارة عن دائرة بداخلها حرف A وعبارة مكتوبة علي زجاج اللوحات الإعلانية بخط اليد تقول "الأناركيون قادمون واللي مش عاجبه يسيب مصر ويرحل " ثم اختفي الشعار الإرهابي الشيوعي من فوق الجدران بعد
اندلاع العنف بيوم واحد ! ولا يخافت الأناركيون الشيوعيون بأنهم يريدون هدم الدولة لإقامة نظام اجتماعي حر لا مكان فيه للحكام والمشاهير ، بيد أنهم مع بقية الفصائل اليسارية لا يريدون للإسلام وجودا ، حتى في التظاهرات التي تستنكر عنف السلطة ، فإنهم يصفون هذه المشاركة بالتزييف والتضليل .. أي إنهم لا يقبلون أي مشاركة إسلامية في قضايا الوطن !
ومع فوضوية الرؤية الشيوعية واليسارية التي انتهت إلى الدم والحرائق والتخريب نجد الوجه الآخر لدى دول الغرب متوافقا إلى حد بعيد مع هذه الرؤية . فقد حذرت وزيرة الخارجية الأمريكية، هيلارى كلينتون، من المكاسب الانتخابية التى حصدتها الأحزاب الإسلامية فى المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية المصرية، لكنها قالت : إن تلك المكاسب يجب ألا تؤخر دفع مصر نحو الديمقراطية. فيما اعتبرت صحف أجنبية هيمنة «الإسلاميين» أمراً يثير مخاوف من تحول الربيع العربى إلى شتاء قارس (
الأخبار 7/12/2011) .
فقد قالت صحيفة «شيكاجو تريبيون» الأمريكية، إن العملية الانتخابية فى مصر لا تزال تسير على نحو جيد حتى الآن، والخبر السيئ الوحيد هو اعتماد الناخبين على الفئة الإسلامية أكثر من التفافهم وراء الأحزاب العلمانية السياسية المتسامحة. وأضافت أن هيمنة الإسلاميين فى منطقة الشرق الأوسط تثير مخاوف من تحول الربيع العربى إلى «شتاء قارس»، مستبعدةً وجود تحالف بين السلفيين وجماعة الإخوان المسلمين، كون الأولى «متشددة»، والثانية «أكثر اعتدالاً».
وقالت صحيفة «ديلى تليجراف» البريطانية إن الصعود الكبير للجماعات السلفية، التى تدعو إلى تفسير أصولي للإسلام، أثار مخاوف متزايدة بشأن تهميش الليبراليين والحريات المدنية والدينية. وركزت صحيفة «الإندبندنت» البريطانية على خوف الكيان الصهيوني على مستقبل اتفاقية السلام.
كما حذرت صحيفة فاينانشيال تايمز البريطانية من أن الإسلاميين قادمون وأنهم سيكونون في مركز الجاذبية السياسية في المنطقة العربية.
وفي 22/12/2011 حذرت وزيرة الخارجية الأمريكية في تصريحات لها الحكام العرب من أنهم بحاجة لمكافحة الفساد وضخ حياة جديدة في أنظمتهم السياسية الراكدة وإلا جازفوا بخسارة المستقبل للإسلاميين.
وفى خطوة غير مفهومة أعلنت السيدة هيلاري كلينتون إجراء حوار مع شباب مصر من خلال شبكة الإنترنت والشبكات الاجتماعية وقد وقع اختيارها على موقع مصراوي لكونه أول و أكبر بوابة الكترونية – وفقا للخبر - يستخدمها المصريون وخصوصا الشباب منهم ، وليحمل صفحة هذا الحوار التاريخي – كما وصفه الخبر- اعترافا بأهمية رأي شباب مصر فى تشكيل السياسة العالمية والإقليمية!
كما أن السيدة كلينتون أكدت في مقتطفات تم توزيعها مسبقاً من خطاب لها أمام لجنة خبراء في نيويورك أن "النساء في مصر تعرضن لتهميش كبير في العملية الانتقالية وحتى إنهن تعرضن للتحرش في الشارع".
وأضافت في إشارة إلى الإخوان المسلمين، "الأحزاب السياسية الأكثر تنظيما، دعمت قلة من المرشحات للانتخابات (التشريعية) الأخيرة، ومواقف هذه الأحزاب من حقوق النساء كانت ملتبسة في أفضل الأحوال ".
ما يجري في الداخل وما يحدث من الخارج يكاد يكون متطابقا : الوصاية والتفزيع من التيارات الإسلامية ، الحديث عن المرأة المصرية المهضومة ، حقوق الأقليات المضطهدة ، وفي الوقت نفسه لا يتكلم أحد من هؤلاء الأوصياء أو الصارخين عن إرادة الشعب التي يجب احترامها ، وعن عمليات التخريب والإحراق التي يشجعها بعضهم ، وعن بيع القنابل المسيلة للدموع ، والغازات المهيجة للأعصاب والرصاص المطاطي والخرطوش التي تبيعها أميركا لأجهزة الأمن ، وعن حقوق الإنسان الفلسطيني الذي يصطلي يوميا
بالقهر والاعتقال والتهويد والاعتداء على الحرمات والمقدسات .
أتساءل هل لشعبنا إرادة مستقلة يحترمها هؤلاء وأولاء ؟ وما معنى أن تشتعل الميادين والشوارع بالقتال عقب كل مرحلة انتخابية ؟ ولماذا الإصرار على مصادرة دين الأغلبية من جانب الأقليات التي لم تحقق نجاحا عند رجل الشارع ؟ ولماذا لا يدعو هؤلاء الحانقون على الشعب المصري إلى الحوار والتفاهم والتوافق بدلا من استخدام التضليل والتدليس والعنف ؟هل يظن هؤلاء أنهم سيحبسون الشعب المصري في قمقم القمع والتبعية والولاء لغير الله ؟
لقد اختلف الزمان أيها السادة !