قصة كتائب القذافي

أحمد منصور

الدفاع المستميت لما يسمى ب«كتائب القذافى» فى ليبيا حتى آخر رجل، يلقى علامات استفهام كثيرة وكبيرة حول المكونات الأساسية لرجال هذه الكتائب، والأسباب التى تدفعهم إلى القتال فى معركة خاسرة حتى النهاية بعد سقوط القذافى ونظامه، شغلنى الأمر كثيرا وأنا أجوب أحياء العاصمة الليبية طرابلس، وكذلك أحياء مدينة بنغازى التى اندلعت منها الثورة، والمعسكر الكبير للكتائب الذى كان يحتل مساحة كبيرة فى المدينة وكان كالقلعة الحصينة، حيث دمره الثوار بعد الاستيلاء عليه وأزالوا مساحة شاسعة من أسواره، فلم أكن معنيا بما هو منشور عن الكتائب بقدر ما كنت معنيا بمعرفة ما يُتداول وراء الكواليس عن الكتائب ومكوناتها. السيرة الذاتية لاثنين وأربعين عاما من حكم معمر القذافى لليبيا تظهر رجلا سوداوى النفس والقلب يكره الشعب الليبى من قلبه، لم يترك صفة من الصفات البذيئة والكريهة لم يرم بها شعبه فى خطابات معلنة، حيث وصفهم بأقذع الأوصاف، ولعل جولة يقوم بها أى زائر حتى إلى العاصمة طرابلس ليرى الشوارع المقفرة والإهمال المتعمد للشعب الليبى. أما فى المدن الأخرى والقرى فإن الفقر والعوز والفاقة وكل مظاهر البشاعة فى الحياة تتجلى واضحة فى حياة الناس، فى بلد لا يزيد عدد سكانه على سبعة ملايين، ويعد واحدا من أغنى دول العالم ليس فقط بالنفط، وإنما بموارد الطبيعة الخلاقة الأخرى، فالمناطق الشرقية فى ليبيا زاخرة بالآثار الرومانية القديمة والشلالات والأنهار الصغيرة والمناطق الخضراء، ولعل الجبل الأخضر يعكس حجم النعم الكبيرة التى تنعم بها تلك البلاد الشاسعة. بالنسبة إلى المشرق أغرق القذافى المنتجع الرئيسى لأهل بنغازى وهى بحيرة بنغازى بالمجارى، حيث فتح عليها مصارف الصرف الصحى طوال ما يقرب من ثلاثين عاما، فتحولت إلى مرتع للأمراض والروائح الكريهة التى دمر بها حياة الشعب، كما أزال كل المبانى والقصور القديمة التى تدل على العصور الزاهرة قبله وأبقى القليل منها، أما الزراعة فقد أهملها ودمرها، ولم يوجه الأموال لرفاه شعبه وإنما لدماره، ولأن الليبيين أهل نخوة وعزة فقد قامت ضد القذافى عشرات المحاولات الانقلابية والانتفاضات فكان يئدها بدموية لا نظير لها، كم أعدم من الطلاب داخل حرم الجامعات أمام زملائهم، وكم أعدم من العسكر داخل الثكنات، وكم أعدم من كل فئات الشعب المختلفة فى الساحات والميادين، وكان يصف الخارجين عليه ب«الكلاب الضالة»، ولعل جريمة سجن أبو سليم التى قتل فيها أكثر من ألف ومئتين وستين سجينا وهم عزل خلال ساعات عام 1996، دليل على البشاعة والدموية التى كان يتميز بها القذافى، هذه الوسائل السادية جعلت القذافى يفكر فى النوعيات التى يستخدمها لممارسة هذا القمع وهذه الدموية، فاختار من بين القبائل الليبية من هم أكثر ولاء له سواء من قبيلته أو من القبائل الأخرى، وأغدق عليهم الأموال والامتيازات لكن هذا لم يكن كافيا، لأن هناك من كان يعارضه أيضا داخل هذه القبائل، وهناك من كان يرفض أن يتحول إلى قاتل لأبناء بلده، فاهتدى إلى الأسلوب الأقذر الذى كانت تستخدمه الأنظمة الشيوعية البائدة ومازال يستخدم حتى الآن فى كثير من دول العالم، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وهو المجىء بالأيتام من الملاجئ وإدخالهم فى مقتبل عمرهم إلى محاضن عسكرية خاصة، وتنشئتهم على الولاء المطلق بطريقة تجعلهم لا يرون من الدنيا سوى صورة الزعيم أو ما يريده، وترسخ لديهم الكراهية الشديدة لكل ما سواهم من البشر، حتى إنهم يكرهون أنفسهم، وما عليهم سوى أن يقوموا بتنفيذ كل ما يصدر إليهم من أوامر، فيعاملون كمنبوذين لا أهل لهم وينشؤون على كراهية البشر، ويتم إغراقهم فى الشهوات والملذات وإبعادهم عن كل ما يمت للإنسانية من أخلاق ومواصفات، ولأن ليبيا لم تكن كافية لتحقيق رغبات القذافى بأعداد كافية من هؤلاء الذين عادة ما يكونون من اللقطاء كان يتم جلبهم من الدول الإفريقية ومن أوروبا الشرقية وأمريكا الجنوبية وأنحاء متفرقة من العالم، ولأنه يجب أن يكون هناك غطاء لهؤلاء فقد كان الغطاء عبارة عن مؤسسات أيتام دولية أسسها القذافى لتقوم بجلب هؤلاء إلى ليبيا على أنها ترعاهم، وكانت تفاصيل كل هذه العمليات سرية للغاية، وكان يُجلب هؤلاء إلى تلك المحاضن، ويقوم رجال مدربون جلبهم القذافى من أنحاء الدنيا لإعداد هؤلاء ليكونوا خط الدفاع الرئيسى لرجل كان يكره شعبه، ويعرف أن شعبه يوما ما سيثور عليه ويجلبه إلى ساحة العدالة، ومن ثم يجب أن يكون لديه جيشه الخاص الذى يدافع عنه إلى آخر رجل، نجح القذافى بشكل كبير فى تحقيق مراده، ولأنه كان يعبث بكل شىء فقد نسب هؤلاء اللقطاء الذين جلبهم من أنحاء الدنيا إلى القبائل الليبية الأصيلة، وأصدر لهم الشهادات والوثائق التى تدل على الهويات الجديدة التى منحها لهم، وجعلهم ينخرطون بالدرجة الأولى فى كل الجهات الأمنية والعسكرية وأنشأ لهم كتائب خاصة، جعل لكل واحد من أولاده كتيبة تخصه وجعل الكتيبة الكبرى وهى كتيبة «محمد» كما كان يطلق عليها هى المسؤولة عن حماية مقره الرئيسى فى «باب العزيزية»، سلحها بأقوى الأسلحة والمعدات وجلب لها أعتى المدربين، ومع ذلك انهارت فى النهاية كما تنهار بيوت الرمال أمام موجات البحر الجارفة. حدثنى أحد قادة الثوار فى بنغازى أنهم فوجئوا بكميات هائلة من الخمور وحبوب الهلوسة والفياجرا فى المعسكرات التى سقطت فى أيديهم فى البداية، مما يعنى أن اللهو والمجون كان هو العنصر المسيطر على ولاء الكتائب للنظام. روى لى أحد الليبيين أنه كان يعذب فى سجون القذافى فناشد الجندى الذى يعذبه قائلا له «لا تعذبنى يرحم والديك فأنا إنسان مثلك»، فرد عليه الجندى الذى يعذبه قائلا« ليس لى والدان»، فهذه صورة تبين نوعية هؤلاء اللقطاء الذين جلبهم القذافى ليعذب ويقتل بهم الشعب الليبى، ولعل هذا يُميط اللثام ويجيب عن تساؤل طالما يدور فى أذهان الناس: من هم كتائب القذافى؟ ولماذا يقاتلون بهذه الشراسة؟ ولماذا يدمرون فى ليبيا ويقتلون الشعب الليبى بهذه الوحشية؟ لقد انتهى القذافى كحاكم طاغ مستبد وانتهت كتائبه وسيذهبون لمزبلة التاريخ، لكن التحديات التى أمام الشعب الليبى ليعيد بناء بلده مرة أخرى تحديات كبيرة تحتاج إلى وعى ورؤية وعزيمة فى بلد يملك من المقومات الطبيعية والجغرافية والسكانية ما يجعله مع جيرانه، لا سيما مع مصر وتونس والجزائر يشكل قوة تعيد المجد إلى شمال إفريقيا، وتجعله موازيا لجنوب أوروبا من حيث النمو والنهوض والعطاء الإنسانى، وإعادة المجد والعز للأمة.