معادلات في حاجة إلى تجديد
عبد العزيز كحيل
[email protected]
واجه دعاة النهضة الإسلامية المنخرطون في العمل الإصلاحي التغييري تحدّيات علمية جمّة استوت منذ قرون على عقول المسلمين ، اختلطت فيها الرؤى الإسلامية بمفاهيم اجتهادية أو وافدة سبّبت تشويشا كبيرا على المستوى النظري وامتدّت تبعا لذلك إلى ميدان الممارسة والسلوك ، ويمكن تلخيص المشكلة في اختلاط الأدوار بين :
عالم الغيب وعالم الشهادة.
تخيير الإنسان وتسييره .
الشكل والمضمون .
الوحي والعقل .
الدنيا والآخرة.
بالإضافة إلى محاور أخرى على نفس الدرجة من الحدّة والخطورة كحقيقة الإنسان ودوره في الحياة ، وكيفية التعامل مع السّنة النبوية .
و رغم مرور زمن طويل على بداية الحركة النهضوية التي أكبّت – منذ عهد الشيخ محمد عبده رحمه الله – على هذه المواضيع تؤصّل وتوضّح وتجدّد للحسم في عدد من المعادلات والثنائيات الأساسية من أجل ضبط الفكر والحركة إلاّ أنّ دوائر علمية ودعوية مازالت إلى اليوم تستصحب المعارك القديمة وتحيي ما اندرس منها وتنفق كثيرا من الوقت والجهد والموارد البشرية والمادية لإطالة عمر أزماتنا وهي تظنّ أنّها تعالجها ببلسم شاف !!!
وما زالت مثل هذه الدوائر يتقاذفها الانتماء لهذا الاتّجاه العلمي والتبرؤ من الثاني والعكس بسبب تمسّها المبدئي بالمعارك التاريخية وعجزها عن تجاوز العداء المفتعل وإحداث التوازن المطلوب والمتماشي مع سنن الله في النفس والمجتمع والكون .
ومن أكثر الثنائيات شغلا لبال الساحة الإسلامية إلى اليوم " معادلة الوحي والعقل "التي ما زالت تلقي بظلال كثيفة على حركة الإسلاميين العلمية والعملية ، وتثير كثيرا من التشنّج والخصومات، ومن فضل الله على هذه الأمة أن تمحّض الراسخون من علمائها ودعاتها في العقود الأخيرة لتجلية المعادلة وكشف مساحة الزيف وبيان المنهج الأصيل المستلهم من الكتاب والسنّة وماكان عليه السلف الصالح وتؤيّده مسيرة القرون ، والمسألة في حاجة إلى مزيد من الاستجلاء وتعميم المعرفة الهادفة البصيرة
لرأب الصدع بين مدرستين متدابرتين فسح نزاعهما المجال لفتنة فكرية كرّست الاغتراب الزماني والتبعية الفكرية في آن واحد.
خصام فكري قديم :
يرى الاتّجاه النصوصي الحرفي أنّ نصوص الوحي تستوعب كل الأحداث والوقائع والأحوال عبر الزمان والمكان ، ويجب أن تقتصر مهمّة المسلم على الفهم الظاهري والتطبيق الفوري ، فهو لا يبالي كثيرا بالعقل بل يرى فيه خصما للوحي ،وإذا كان التيار امتدادا لمدرسة الحديث أو الأثر فقد التحق به في بواكير الصحوة المباركة جمع من كبار المفكّرين أمثال سيد ومحمد قطب كردّ فعل على الهجمة العقلانية الطاغية التي كانت _ وما زالت
_ تتبجّح بالعقل لتزاحم الوحي وتحلّ محلّه النزعة الوضعية الوافدة من الغرب ، ولا شكّ أن لمدرسة النقل مزايا وإيجابيات أوّلها المحافظة على قداسة نصوص الشريعة من التمييع والإقصاء ، غير أنّ غلوّها كاد يذهب بجمال الأصالة ، فاتّهامها للعقل مبالغ فيه حتّى لكأنّها لا تقيم له وزنا رغم أنّه مناط التكليف ووسيلة التقدّم المعرفي والحضاري ، وزاد الطين بلّة أنّ أنصار التمذهب الفقهي _ وهم أتباع هذه المدرسة بالضرورة _ يظنّون من فرط احتفائهم بالنقل أنّ عقول القرن الهجري الأول وما يليه قد حلّت
مشاكل جميع الأزمان وكفتنا مؤنة النظر في القرآن والسنة ! وهذا جمود قاتل امتدّ شرره إلى المجالات الحياتية البحتة ، إذ لا يتورّع البعض عن تبديع المخترعات التكنولوجية وأساليب العيش الحديثة لأنها نتاج البحث العقلي .
في الجهة المقابلة يبالغ "العقلانيون" في توسيع مجالات عمل العقل وكأنّه هو الأصل حتّى في الأمور الدينية والتصوّرية والغيبية ، وما الوحي إلاّ ملحق أو مساند ثانوي ، وهذه نزعة اعتزالية واضحة غذّتها في زماننا العلمانية العربية المتأثّرة مباشرة بالهجمة اللادينية المتستّرة بالدراسات الاستشراقية ، ويتولىّ كبرها جمع من الكتّاب الذين يتحدّثون باسم الإسلام أمثال محمد أحمد خلف الله ومحمد سعيد العشماوي ومحمد أركون وحسين أحمد أمين ، وهم يتذرّعون بالحداثة ويدعون إلى
"عصرنة" الإسلام بإعطاء العقل السيادة المطلقة في شؤون الإنسان والمجتمع ، فيؤخّرون ولو ضمنيا مرتبة الوحي أو يقفزون عليه بغير حرج وينتهون حتما إلى "علمنة" الإسلام أي إلى تهميشه وتحييده بدعاوى شتّى كالتجديد ومواكبة العصر وتحرير الدين من " الأصوليين ".
وبين تصلّب المدرستين كاد المسلمون يتيهون، وأحجم أكثرهم عن إبصار الايجابيات التي تتميّز بها الآراء والتوجّهات المطروحة في هذه المدرسة وتلك ، فالأولى حافظت على قدسية النصوص ، والثانية بعثت الحياة في العقل المسلم بعد تحجّر طويل ، وهل يضمن بقاء الشريعة وصلاحيّتها لكل زمان ومكان سوى خلود نصوصها من جهة وحركة العقول من جهة أخرى ؟ لكنّ الغلوّ فعل فعله بالنسبة لهما معاً ، فالنصوصيون أقرب إلى معاداة العقل جملة وتفصلاً، والعقلانيون أقرب إلى تأليه العقل واتّخاذ النصوص
عجينة طيّعة يسوّغون بها مذاهبهم الوضعية ، في هذا الجوّ دخلت الحركة الإسلامية الحديثة المعترك العلمي التجديدي وبدأت السعي إلى حلّ المعادلة لأنّ المشكلة تجاوزت ما كان يعرف بمدرستي الرأي والأثر إلى بُعد آخر هو الإسلام والعلمانية.
للعقل مجالاته:
كيف يجوز الحطّ من شأن العقل أو التغافل عن أهمّيته وهو الدليل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وصحّة الرسالة كما أنّه مناط التكليف بالنسبة للإنسان ؟ ولكن كيف يجوز إحلاله محلّ الوحي وهو محدود بطبعه ويحتاج إلى هداية السماء وضوابط الشريعة كي لا يصبح وبالاً على الإنسان ؟ الحقيقة أنّ للعقل مجالات يعمل فيها ليس كندّ للوحي أو خصم له وإنّما كعنصر ملازم ضروري ، يمكن إجمالها في خمسة مجالات :
1. فهم الوحي:
نصوص الشريعة من قرآن وسنّة فيها المحكم والمتشابه والواضح والمعضل والعامّ والخاصّ والمنطوق والمفهوم والمدلول والعبارة والإشارة...وكلّ هذا يحتاج إلى إعمال العقل باستمرار وبتعمّق لتفادي الظاهرية والحرفية التيّ إن أحسنت في جانب فإنهّا تقع في طامّات مريعة مثل القول بعدم زكاة عروض التجارة بل حتّى في الأوراق النقدية، والمسارعة إلى التكفير بمجّرد الشبهة في قول أو فعل.
2. فهم الواقع:
وجود نصوص القرآن والسنّة وحده لا يغنينا كثيرا إذا لم نحسن فهم الواقع لإتقان التنزيل والإسقاط، فالمدارس النصّية تحسن العيش في الماضي أو مع النصوص مجرّدةً ، وتفهم الحاضر بمقياس الزمن الماضي وحده لأنهّا لا تحسن فهم الواقع بسبب اتّهامها للعقل الّذي هو الأداة الفعّالة المناسبة لهذه المهمّة، وقد انجرّ عن تهميشه غبش كبير في تناول واقع متداخل القضايا متسارع الأحداث ممّا جعلنا متخلّفين عن القيم وعن العصر معاً.
3. تنزيل النصوص على الواقع:
لا يمكن ممارسة الاجتهاد بشقّيه الانتقائي والتطبيقي إلاّ بالاعتماد على فهم صحيح للواقع وللوحي لإحداث التناغم المطلوب بينهما ولإثبات أنّ الشريعة صالحة لكل زمان ومكان ، وهنا يكون للعقل حضوره الضروري وسيادته ، فإذا أقصي جاء الاجتهاد _ من علماء لم يعودوا في هذه الحالة من أهله حقّا _ مشوّها وجرّ على الأمة من الويلات ما نعيش بعضها الآن ،كما أنّ إصلاح الواقع من منظور إسلامي مرهون بالإسقاط السليم لقيم الدين وأحكامه على الحياة بكلّ جوانبها وإشكالاتها وحيثيّاتها ،
وهذا يحتاج إلى بصيرة وذكاء أي إلى النظر الثاقب و العقل الحصيف، وواضح أنّ الإلمام بنصوص الوحي لا يجدي في التغيير ما لم يصحبه تحكّم في معطيات الواقع ،كما أنّ محاولة إصلاح الأوضاع بالاعتماد على العقل وحده تؤدّي إلى حلول مشوّهة كالتي تعانيها الحضارة الغربية والتجارب المستنسخة منها.
4. الاجتهاد الاستنباطي:
بالعقل يستنبط الإنسان الأحكام والسنن وأصول العلوم من القرآن والسنّة وهذه وظيفة تبقى قائمة مادام في الكون إنسان وإسلام ، وليس صحيحاً ما يقال بأنّ الأوائل قد حسموا الأمر ولم يتركوا لغيرهم مجالاً للاستنباط، ومن الغفلة إسناد حلّ محدثات الأمور إلى من ماتوا قروناً قبل حدوثها، كما أنّ الاستنباط لا يقتصر على الأحكام وإنّما يجب أن يمتدّ إلى كثير من العلوم التي نحن عالة فيها على الغرب وفي مقدّمتها العلوم الإنسانية كالتربية والنفس والاجتماع والتاريخ والسياسة... وذلك
يقتضي توافر الملكات العقلية الجبّارة للإنجاز هذه المهّمة الجليلة غير المنقطعة.
5. شؤون الحياة الدنيا:
بعث الله الرسل هداة مبشّرين ومنذرين ولم يُبعثوا مهندسين أو أطبّاء أو صناعيين ، لذلك تركت للإنسان حريّة البحث والإبداع في المجالات الحياتية في إطار أصول الهداية اعتمادا على الحديث النبوي " أنتم أعلم بأمور دنياكم " – رواه مسلم - أي بما هو أدنى للفنيّات أو التقنيّات في الإدارة والاقتصاد والتجارة ونحوها ، فإذا غاب العقل هنا _ وهذا ميدانه الأوّل _ كان التخلّف والاستقالة من منصب الخلافة والعمارة والتبعية الحتميّة والذليلة للأمم النشطة المبدعة.
طيّ صفحة الأزمة :
يتبيّن ممّا سبق أنّه لا يمكن تجسيد قيم الوحي في غياب العقل ، وتتحمّل المرجعية العلمية الإسلامية عبء تجديد المنظومة الفكرية والفقهية الجامعة بين الأصالة المعاصرة انطلاقا من العقيدة البنّاءة من أجل تحقيق التفوّق الفكري الفعّال بحسن التعامل مع الوحي والعقل معاً، وهذا يقتضي السعي الحثيث لإعادة تشكيل العقل المسلم من خلال بناء رؤية ذهنية إسلامية بديلة توفّر العقل القادر على استلهام الأصالة وهضم الحداثة ، وهذه مهمّة عظيمة ينوء بحملها علماء راسخون مستنيرون
ومؤسّسات جدّية تسعى إلى معالجة أزمتنا الأولى _ الأزمة الفكرية _ بدءًا بالحسم في ثنائية الوحي والعقل حسما شرعيا علميا نهائيا أساسه أنّ الوحي مصدر الهداية والتوجيه للإنسان والمجتمع والحياة ، والعقل أداة الفهم وحسن التلقّي ودراسة الطبائع والوقائع لتوليد الحلول والأحكام والسياسات وحسن تنزيلها ، فالرسالة هي الغاية والعقل هو الوسيلة ، وإذا ضاعت الوسيلة أو فسدت ضاعت الغاية وغاب المقصد...وما أغرب تصوير العقل نقيضا للوحي !!!ذلك
أن نقيضه هو الجنون !
إنّ حلّ المعادلة بين الوحي والعقل مقدّمة _ مع مسائل جوهرية وثنائيات أخرى _ على أيّ إنجازات يراد منها البعث الحضاري لأنّ تعامل العقل المسلم مع الكتاب والسنّة من خلال أزمته لا يؤدي حتما إلاّ إلى تكريس الأزمة.
المصدر : المركز العربي للدراسات والأبحاث