التعليم الأهلي والخروج من النفق
أ.د. حلمي محمد القاعود
[email protected]
قبل ثلاث سنوات ذهبت إلى العريش لحضور مؤتمر علمي ، في إحدى كليات جامعة قناة السويس ، انعقدت بعض جلساته بجامعة خاصة على مشارف المدينة . في الحقيقة كنت منبهرا بالمباني التي ضمتها الجامعة ، وتخطيطها والإمكانات التي تملكها ، فضلا عن المكتبة والقاعات والمطاعم والمساكن ، والحدائق التي تتخللها وتحيط بها من كل جانب .
لا يعنيني صاحب الجامعة ولا ما يثار حوله ، أو ما يقال عن المصروفات الضخمة التي يدفعها الطالب نظير الدراسة والسكن والمعيشة ، ولا المرتبات الكبيرة التي يحصل عليها الأساتذة والإداريون ، ولكن كان شاغلي الأكبر هو تعمير تلك البقعة الواسعة والغالية من الوطن وكيفية تعميرها ، واستثمارها ماديا ومعنويا بما يكف أطماع الغزاة وأصحاب الهوى . قلت في نفسي : أيا كان طبيعة هذه الجامعة الخاصة ، فإن وجودها بهذا الشكل المعماري على مساحة كبيرة عند مشارف العريش يمثل خطوة إلى الأمام
نحو تعمير الأرض المباركة ، وتمنيت يومها أن يتجه كثير ممن يقدرون على البناء والتعمير إلى هناك ، ولو كانت الغاية هي التجارة المحضة .
وتذكرت يومها مشروعا آخر تم في إحدى محافظات الدلتا منذ عقدين أو أكثر من الزمان ، حيث تم إنشاء مجموعة من مدارس التعليم الأساسي ، بدءا من الحضانة إلى المرحلة الثانوية ، من خلال تبرعات المنشئين بالأرض والمباني والمقاعد وسيارات الانتقال وبقية المستلزمات ، واستهدافهم إقامة مدارس غير ربحية تخدم الوطن ، وتخرج أجيالا تنتمي إلى ثقافة الأمة وهويتها ، وتملك قيمها المضيئة وسلوكياتها الرفيعة الناضجة ، ويقوم بالتدريس فيها معلمون يملكون القدوة والعلم والخبرة والمهنية ،
وتبتعد في كل الأحوال عن الدروس الخصوصية والتعليم الصوري ، والنتائج المزيفة . كانت البداية محدودة ولكنها توسعت وامتدت ، وانتقلت إلى بعض المدن المجاورة ، وازداد الإقبال على الالتحاق بهذه المدارس لدرجة أن ضباط أجهزة القمع التي كانت تلاحقها وتحرض عليها بعض الوزراء الفاسدين لضمها إلى المدارس الحكومة البائسة الخائبة ، كانوا يسعون إلى من يرونه قريبا من إدارة هذه المدارس للتوسط من أجل قبول أبنائهم وبناتهم ، لثقتهم ومعرفتهم أنها مدارس جادة فضلا عن مصروفاتها البسيطة بالقياس إلى المدارس
الخاصة أو التي تتخذ من التعليم تجارة مربحة .
اشتهرت هذه المدارس بالدقة في اختيار طلابها وأساتذتها ، والحزم في إدارتها وعملها ، والنتائج الحقيقية المشرفة على مستوى الجمهورية ، وحاول النظام الفاسد البائد أن يئدها أو يحولها إلى نسخة مكررة من المدارس الحكومية الفاشلة ، ولكن الله سلم ، وكان القضاء المصري حارسا أمينا لحقّ هذه المدارس في الوجود والعمل ، فأفلتت من قبضة الفشل الذريع المنتظر !
واليوم ونحن نبحث عن مخرج من محنة التعليم الأساسي والجامعي والدراسات العليا ، يجب أن نستدعي تجربة التعليم الأهلي لأكثر من غاية ..
الأولى : تحقيق مستوى جيد من التحصيل العلمي بعيدا عن التعليم الفاشل في المدارس الحكومية ، والدروس الخصوصية التي صارت محنة كل بيت في مصر ، وخاصة بالنسبة للفقراء والطبقة المتوسطة .
الثانية : الحد من التعليم الخاص الذي يقوم على التجارة ولا يعنيه إلا ما يأخذه من مال ، ولا تستجيب له إلا الطبقة الثرية التي تملك المال .
الثالثة : في التعليم الأهلي أهداف عليا ، وسلوكيات طيبة ، وقيم مضيئة تحرص المدارس على تحقيقها ونشرها وتعميقها في نفوس الطلاب ، وهو ما لا يهتم به التعليم الخاص حيث يكون في الأغلب الأعم ميالا لترك الحبل على الغارب للطلاب في تعاملاتهم وسلوكهم ، ولا يتدخل إلا في الشكل والمظهر الخارجي مثل ملابس الطلاب والمعلمين وشكل الفصول والمباني ونحو ذلك .
الرابعة : التعليم الأهلي بمصروفاته المعقولة التي لا تتغيا الربح الفاحش ، يلتقي مع رغبات غالبية الشعب في تخفيف عناء الدروس الخصوصية ، حيث تكون هذه المصروفات موازية تقريبا لما يدفعه ولى الأمر من مقابل للدروس الخصوصية .
الخامسة : أن التعليم الأهلي سوف يرفع جانبا من الحرج عن الحكومة العاجزة عن توفير تعليم جيد لأبناء الشعب ، بحكم ما تجذر في الجهات المعنية بالتعليم من فساد وقصور عن تحقيق الأهداف التعليمية والتربوية ، فضلا عن سيادة البيروقراطية وانشغال كوادر المعلمين والموظفين في أغلبهم الأعم بالدروس الخصوصية أو مهن أخرى غير التعليم طلبا لمزيد من الدخل ، لأنهم يرون أن ما يتقاضونه من مرتبات لا يكفي متطلبات المعيشة ، وذلك باستيعاب أعداد كبيرة من الطلاب ، وتشغيل أعداد لا بأس بها
من المعلمين المؤهلين لا تستوعبهم الحكومة .
السادسة : تلافي كثير من سلبيات التعليم الحكومي ومنها على سبيل المثال ، خلو المدارس وخاصة الثانوية من الطلاب في مرحلتي الشهادة ،حيث يفضلون الانصراف إلى حضور الدروس الخصوصية بدلا من الحضور في المدرسة التي لا يعمل فيها المدرسون عادة اعتمادا على هذه الدروس ، وقد حاولت الوزارة مواجهة هذه السلبية بقوانين صارمة بفصل الطلاب الذين يتغيبون لمدة أسبوعين ، ولكن الطلاب يتغلبون على ذلك بالتقدم للقيد في المدارس الخاصة ودفع مصروفات رمزية دون أن يحضروا ، وينصرفون إلى
الاستعداد للامتحانات اعتمادا على الدروس الخصوصية والكتب الخارجية ، ومذكرات المدرسين إلي تتضمن نماذج الامتحانات وإجاباتها ، ونحو ذلك .
وإذا كانت المدارس الأهلية تعالج جانبا مهما في الناحية التربوية والتعليمية ، فإن الجامعات الأهلية تقوم بدور مهم للغاية إلى جانب هذه المدارس من حيث استيعابها لأعداد غير قليلة من الطلاب ، فضلا عن تجاوز سلبيات الجامعات الخاصة التي تهتم بالربح الفاحش قبل المستوى العلمي والسلوكي والخلقي ، بالإضافة إلى أن الجامعة الأهلية يمكن أن تمثل فرصة ملائمة لفتح المجال أمام البحوث العلمية في إطار جيد وجاد لا تشوبه أمراض البحث العلمي في الجامعة الحكومية .
بيد أن الأهم في هذا السياق كله هو إنشاء المدارس والجامعات الأهلية في المناطق النائية والصحراوية ، خاصة سيناء ، مما يمهد لتوجيه الأنظار إلى هذه المناطق ، وإقامة المشروعات التي تعمر الأرض الخلاء ، وتفسح الطريق إلى الانتقال للإقامة في هذه المناطق الخالية ، والتخفيف من عبء الكثافة السكانية في الوادي .
وأتصور لو أن السلطات المختصة سهلت لهذه المدارس وتلك الجامعات الحصول على مساحات كبيرة من الأرض مقابل حق انتفاع معقول لمدة خمسين عاما مثلا، فهذا سيشجع الجمعيات الأهلية والأحزاب السياسية والمؤسسات الخيرية وما شابه ؛ على إقامة مدارس وجامعات عديدة ، بل إنها ستشجع على إقامة مدارس وجامعات وكليات نوعية تهتم بدراسة الصحراء أو الزراعة أو الطب أو الصيدلة أو الجيولوجيا أو غيرها ، مما سيعطي مصر ميزة البحث الدقيق المتخصص الذي يخرج كوادر مهمة تخدم الوطن ، وتنتشر خارجه
لخدمة الأشقاء ..
إن إقامة جامعة متخصصة في سيناء مثلا يتبعه إنشاء مساكن للطلاب والأساتذة والعاملين ، وهذا يقتضي وجود خدمات متنوعة تستجيب لمطالب هؤلاء ، وتنشأ حركة تنقلات بين المكان الجديد وبقية أرض الوادي ومدن سيناء الأخرى .
وهكذا نجد أن إنشاء المدارس والجامعات الأهلية يخلق نوعا من البناء والتعمير التلقائي في المناطق الصحراوية ويخفف العبء عن الوادي الذي صار مزدحما للغاية ، ويضيق بأهله .
بقيت الإشارة إلى أن المدارس الأهلية التي تقوم على التبرعات والمشروعات الخيرية والإسهامات المتواضعة من جموع الراغبين في الخدمة العامة ، تقتضي إصدار قانون جديد للوقف ، يشجع الناس على وقف الأراضي والعقارات والأسهم والسندات والودائع التي يساعد عائدها على تحقيق غايات التعليم الأهلي ، وخدمة الطلاب .
لقد استبيحت الأوقاف التي تركها أصحابها منذ قرون بعد 1952 ، وضاعت بطريقة مشروعة أو غير مشروعة ، أو وجهت لغير ما وضعت إليه ، وهو ما يفرض صياغة قانون جديد للأوقاف ، وخاصة تلك التي توقف على التعليم ، لتأمينها ضد المصادرة ، وعدم تمليكها لمن لا يستحقون ، أو توجيهها لغير ما خصصت له .
إن الشعب يضم كثيرا من الخيّرين الذين لديهم استعداد كبير للإسهام في العمل الخيري الأهلي ، ووقف ممتلكاتهم على هذا العمل ، ولكنهم يتشككون في مصير هذه الأوقاف ، ويخشون أن تذهب لغير ما أرادوه .
وأعتقد أن التعليم الأهلي يطالبنا أن نفسح أمامه الطريق لنخرج من نفق التعليم الفاشل البائس ، والتعليم الذي حوله أصحابه إلى تجارة لا تنجي من العذاب الأليم !