راتب وزير.. وحصانة سفير
صلاح حميدة
سئل مسؤول ياباني عن سر التّقدّم والرّفاهية التي تعيشها بلاده، فأجاب بأنّهم قاموا بمنح المعلّم "راتب وزير وحصانة سفير" وبهذا وضعوا الأساس الصّحيح لما تعيشه اليابان.
بقراءة متأنّية لما قاله المسؤول الياباني وبنظرة متفحّصة لما يعيشه العالم العربي بشكل عام، سنصل إلى تحديد الخلل الحضاري الّذي نعيشه حتّى اليوم، فبالرغم من أنّ مشاكل العالم العربي كثيرة ومتشعّبة وتشاركيّة، إلا أنّ الأساس للنّهضة يبدأ من المدرسة، ويبدأ من المعلّم، ويبدأ من التّعليم من التّمهيدي حتّى الجامعة.
تعتبر رواتب المعلّمين من أسوأ الرواتب في الكثير من الدّول العربيّة، ويكاد غالبيّة المعلّمين لا يجدون ما يسدّون به رمق عائلاتهم، ويجبرون تبعاً لذلك على ممارسة أعمال أخرى بعد الانتهاء من التّعليم، وهنا يواجه المعلّمون مشكلة أخرى بمنعهم من ممارسة أعمال أخرى، ومنها ما يعرف بظاهرة الدّروس الخصوصيّة، فالمعلّم عندما يعمل أعمال خارج وظيفته لا يمكن أن يعطي الطّالب حقّه في التّعليم، وإن لجأ للتدريس الخصوصي فهو يعزّز فكرة أنّ التعليم الحقيقي ليس في المدرسة، بل خارجها، أي ما يدفع الطّالب مقابله مبلغاً ماليّاً إضافيّاً، وهو ما يتمّ بخلاف التّعليمات الرّسميّة التي يتمّ التّغاضي عن تطبيقها لأسباب تتعلّق بالرّاتب المتدنّي للمعلّمين في المدارس الحكوميّة وغالبيّة الخصوصيّة، التي يتسابق بعض مالكيها في استغلال المعلّمين والمعلّمات بسبب الكمّ الكبير من المتقدّمين للعمل في مدارسهم، لدرجة أنّ بعضهم يدفع رواتب هزليّة للمعلّمين، بل يجري فيها ما يشبه الاستعباد للمعلّمين في بعض المدارس عبر إجبارهم على التّأخر في الدّوام والعمل أيّام الإجازات الأسبوعية وخلال إجازة الصّيف وخلافه.
الخلل والإجحاف الّذي يعاني منه المعلّم في لقمة رزقه في العالم العربي، له أبلغ الأثر على أدائه، وهذا ما يلاحظ على المستوى التّعليمي في المدارس، فالكثير من الطّلاب يتمّ تلقينهم تلقيناً، وبعض الطّلبة يصلون إلى مرحلة الثّانويّة العامّة وهم لا يستطيعون القراءة، وهذا يرتبط أيضاً بما يعرف بالتّرفيع التّلقائي، ففي بعض الدّول العربيّة يوجد قانون ترفيع تلقائي للطالب يمنع رسوبه لسنتين متتابعتين في نفس الصّف، وبالتّالي فإنّ الطّالب لا يكلّف نفسه عناء الدّراسة لأنّه سيترفّع في مستواه التّعليمي دونما جهد.
وللتّراجع في مستوى التّعليم أسباب أخرى لها علاقة بالمناهج الدّراسيّة التي لا تتناسب مع الإمكانيّات العقليّة والجسديّة للطّلبة، بالاضافة إلى التّركيز على تعليم الطّلبة للّغات الأجنبية وإهمال تدريس اللغة العربيّة، ففي الدّول التي تحترم نفسها وتسعى لتأخذ مكانها بين الدّول المتقدّمة تقوم بتدريس لغتها فقط، ومن يريد تعلّم اللغة الأجنبيّة يدرسها بجهوده الذّاتيّة، كما أنّ القدرة الاستيعابيّة للمدارس لا تحتمل الكمّ الكبير من الطّلبة في صفوفها، وهذا يحتاج لاستثمار كبير في البناء المدرسي المناسب.
يعاني المعلّم العربي من تراجع كبير في مكانته الاجتماعيّة، فقد كان المعلّم العربي يحظى بمكانة اجتماعية فريدة من قبل، وكان يؤتى ولا يأتي، ولكن مع سوء أوضاعه المادّيّة ولجوئه للعمل في الكثير من الوظائف التي قد يكون في بعضها موظّفاً عند عائلة طالبه، أو قد يعمل سائقاً لسيّارة أجرة أو عاملاً في مصنع.....الخ، كل هذا يجعل الطّالب يستخفّ بالمعلّم، بل يجعله يرفض فكرة التّعليم من أساسها، لانّه سيعتبر أنّ هذه مهنة الفقراء والتّعساء.
في بعض الدّول العربيّة يعتبر توظيف المعلم مرتبطاً بولائه السّياسي، وبالتالي فالكفاءة لا مكان لها للتعليم والإدارة، وهذا ينعكس تلقائياً على مستوى التعليم ومستوى الضّبط في المدارس عندما لا تدار بأيدي كفؤة، وهذا يرتبط بتسلّط الأمن على التّعليم في بعض تلك الدّول أيضاً، فقد شاهد العرب ما يجري من استخدام فظ للمدارس كمعتقلات، وما يتمّ فيها من إهانات للمتعلّمين والمثقّفين والطّلاب، بالاضافة إلى تحوّل الاتحادات الطّلابية إلى فروع لأجهزة الأمن، وبالتالي يصبح الأستاذ في المدرسة والجامعة رهينة لبعض طلّابه الّذين يستطيعون بتقرير من أحدهم أن يتسببوا بفصله من عمله، أو أن يرموه في السّجن بضع سنين أو ربّما لا يعود أبداً، وهذا يفسّر ما يعرف بالشّهادات "الفارغة" في بعض الجامعات العربيّة، فقد ينجح الطّالب في المساقات الدّراسيّة ويأخذ شهادة جامعيّة لأنّه مخبر لجهة أمنيّة معيّنة، وهذا ما كشفت عنه الوثائق والحقائق في بعض بلدان الرّبيع العربي.
الإستخفاف بمهنة المعلم يدفع الطّلاب والمجتمع لسلوكيّات أخرى، فالكثير من المعلّمين يتعرّضون للاعتداء اللفظي والجسدي من طلابهم وعائلات طلابهم على حد سواء، لدرجة أنّ بعض المعلمين في بعض المدارس العربية أخذوا يشكلون ما يشبه الشّلة للدفاع عن بعضهم البعض في وجه من ينتظرهم للإعتداء عليهم خارج المدارس، وهذا يعطي صورة عن ما يمكن أن يقدّمه معلّم لطالب ينتظره خارج المدرسه للإعتداء عليه، بل إنّ الكثير من طلّاب المدارس الخاصّة يعيّرون أساتذتهم بأنّهم هم من يدفعون راتبهم، وبالتّالي ليس للمعلم أيّ سلطة لتعليمهم أو ضبط سلوكيّاتهم وتأديبهم.
ولذلك نجد أنّ المعلم مستهدف وقليل الحيلة ولا قدرة له على العطاء في ظل هذه الأوضاع، ففي الكثير من الدّول العربية يحظى رجل الأمن برعاية وحماية الدّولة بأكملها، ويا ويل من يسوقه حظّه العاثر في طريق مخبر صغير، فقد يتكلّفه ذلك الكثير، أمّا إن تمّ الإعتداء والتّطاول على المعلّم فهذا أمر أصبح معتاداً في الكثير من الدّول العربيّة، لأنّ ما يهمّ تلك الأنظمة هو فقط من يدافع عن عروش رؤسائها وملوكها، وبما أنّ المعلم لا يجد له مكاناً بين هؤلاء، فرزقه وكرامته مستباحة، فأساس الحكم الإستبدادي يبنى على الجهل والفساد والخوف، وهذه لا يبنيها معلم كفؤ ومؤسّسات علمية حقيقيّة، ولكن العسكري الجاهل هو من يحقّق تلك الأهداف، ولذلك يقع إرضاء رجل الأمن بالمال والحصانة من المحاسبة على رأس أولويّات تلك الأنظمة، و نجد أنّ أوّل ما قامت به الكثير من الأنظمة العربية مع بداية ربيع العرب هو مضاعفة رواتب وامتيازات رجال الأمن، ولم نسمع شيئاً عن دعم المعلّمين، وبما أنّ المعلّم العربي لا يزال يعيش على الكفاف وليس له حصانة حتّى (غفير) فالعرب لا يزالون على مسافة بعيدة من اللحاق بالأمم المتقدّمة.