أزمةُ التعليم أزمةُ مصر
حسام مقلد *
لا شك أن التعليم في مصر يعاني أزمة عنيفة ومزمنة، وهي من أخطر وأعقد الأزمات التي ورَّثها نظام مبارك السابق للمصريين، بل أزعم أن أزمة التعليم هي أخطر الأزمات التي تهدد مستقبل مصر على الإطلاق، لأنها في الحقيقة أزمة مصيرية أو أزمة وجود دون أي مبالغة أو تهويل؛ وبسبب حدة وعمق هذه الأزمة المعقدة وتشابك أسبابها وتفاقمها بشدة في العقدين الأخيرين ربما حسب اليائسون أنها من تلك الأزمات المستفحلة التي تستعصي على العلاج!!
وللأسف رغم أهمية وخطورة أزمة التعليم وحساسيتها الشديدة إلا أن الكثيرين منا لا يكترثون لتظاهرات المعلمين، ولا يتعاطفون معهم، ولا يساندون إضراباتهم عن العمل عندما نراهم يتظاهرون ويُضربون، وقد يقف بعضنا موقفا سلبيا منهم ظنا منه أنهم يطالبون بمطالب فئوية تخصهم وحدهم وتتعلق بزيادة رواتبهم وتحسين أوضاعهم المعيشية، وربما اتهمنا بعض معلمي مصر بالجشع والطمع خاصة مع تفشي ظاهرة (أو بالأحرى كارثة...!!) الدروس الخصوصية التي تؤرق معظم الأسر المصرية وتستنزف أموالهم، لكن أبعاد أزمة التعليم في مصر أوسع كثيرا من مشكلة المعلمين ورواتبهم، ومن مشكلة الدروس الخصوصية التي ساهمنا جميعا في صناعتها وفي تفاقمها، فأزمة التعليم في مصر لا تقتصر على المعلم وحده بل تنقسم وتتشعب إلى أمور كثيرة، من بينها: المنهج الدراسي، وبيئة التعلم (المدارس) والأنشطة اللاصفية أو اللامنهجية، والتلاميذ (المتعلمين) والسياسات التعليمية، والاختبارات وأساليب التقويم...إلخ، وكل هذه العوامل ما هي في الواقع إلا انعكاس لمنظومة معقدة ومتشابكة من مختلف المشاكل التي تعاني منها مصر في كافة المجالات: الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، فهذه المشاكل جميعها تلعب دوراً أساسياً في تفاقم أزمة التعليم في مصر حيث تؤثر فيها وتتأثر بها.
ومع تعدد عوامل وعناصر العملية التربوية والتعليمية إلا أن المعلم هو الركيزة الأساسية وحجر الزاوية في هذه العملية ولا ريب، ويبدو أن النظام السابق كان يتعمد تبديد طاقة المعلم وإهدارها فيما لا ينفع، وإشغاله دائما بالجري وراء لقمة العيش، وإغراقه في طوفان من الهموم والمشاكل والمتطلبات الحياتية؛ حتى يظل مشغولا دائما ولا يستفيق أبدا من هذه الدوامة، فلا يجد وقتا للقيام بواجبه كما ينبغي، ولا يؤدي رسالته على النحو الأكمل الذي يساهم في بناء الشخصية المصرية بناء حضاريا متكاملا ومتوازنا، ولا أدل على الرغبة في تشتيت المعلمين والسيطرة عليهم من قانون نقابتهم العامة وطريقة تشكيلها المختلفة تماما عن بقية النقابات المهنية الأخرى؛ لتظل منزوعة الفاعلية خاضعة لرقابة الحكومة رهينة لتوجهاتها وسياساتها التعليمية، وللموضوعية هناك خلل واضح أصاب أوضاع المعلم المصري في الآونة الأخيرة، ومن أبرز مظاهر ذلك ما يلي:
اقتصر دور أغلب المعلمين على الجانب التعليمي فقط، وغاب الدور التربوي بشكل ملحوظ في معظم الأحيان؛ وذلك لأن معلم اليوم ـ كغيره من أبناء المجتمع المصري ـ ابن عصره المادي المجحف، وهو رب أسرة في النهاية، وعليه واجبات والتزامات اجتماعية كثيرة، وراتبه لا يكفي للوفاء بعُشر هذه الالتزامات، وبالتالي كان عليه أن يفكر في زيادة دخله؛ فلجأ إلى الدروس الخصوصية، أو ممارسة أي عمل آخر إلى جانب عمله الأصلي، وطبعا كان ذلك على حساب نفسه وحساب أسرته وتلاميذه، ولكي يستطيع المعلم مواجهة ظروف الحياة ومطالبها تنازل عن معظم حقوقه الإنسانية في الراحة، والحياة الهادئة التي توفر له اللياقة الذهنية والنفسية وتجعله في قمة عطائه الإنساني في مدرسته ومنزله وحيِّه الذي يسكن فيه، وتحول بدلا من ذلك إلى آلة حية (من لحم ودم وأعصاب...) تعمل أكثر من ثلثي يومها، وتركض لاهثة في الثلث الأخير لشراء حاجيات المنزل، وأخذ قسط من الراحة، واقتناص دقائق معدودات لرؤية الأبناء والاطمئنان عليهم، وهذه الدوامة ليست فترة مؤقتة وتنتهي، وإنما تستمر طوال العام تقريبا، والمعلم شأنه في ذلك شأن الغالبية العظمى من المصريين أيا كانت مهنهم، فالكل يركض ويلهث ولا يدري أين ولا متى سيتوقف ليلتقط أنفاسه ويعيش الحياة الطبيعية التي أرادها الله تعالى لعباده، وبعد كل هذا الركض والتعب لا توجد فرصة ولا متسع من الوقت أمام المعلم ليمارس مهام عمله الأساسية التي جعلت البشرية تضعه في مرتبة من التكريم تلي مكانة الأنبياء والرسل عليهم السلام، وبالله كيف يمارس رجل مكدود الجسم والعقل، مكسور النفس والوجدان، محروم من نعمة الصفاء الذهني ـ كيف يمارس دورا ذا بال في بناء النفوس، وصناعة الأجيال، وتشييد العقول العظيمة والهمم العالية؟!
هناك نسبة غير قليلة من المعلمين لم يختاروا ممارسة هذه المهنة عن حب وقناعة، وإنما بسبب الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تعيشها مصر؛ إذ يُقبلون عليها كوظيفة مضمونة بدلا من الانتظار سنوات طويلة في صفوف البطالة.
مع الأسف لا تزال مهنة التربية والتعليم مهنة من لا مهنة له، وكثيرا ما نجد دولتنا المظفرة تعالج مشكلة البطالة على حساب التربية والتعليم، فنجدها تعيِّن آلاف الخريجين من الكليات غير التربوية في وزارة التربية والتعليم، والأدهى أنها توكل إليهم تدريس مواد علمية ليست من صميم تخصصاتهم، فلا يكون الشخص مؤهلا (لا نفسيا ولا علميا...!!) لممارسة هذه المهنة الشريفة، وأبناؤنا وبناتنا هم من يدفع الثمن!! (وكم من خريجي كليات الآداب قسم علم النفس أو علم الاجتماع وقد صاروا معلمي لغة إنجليزية!! وكم من خريجي كليات الزراعة وقد صاروا معلمي أحياء أو كيمياء!! وكم من خريجي كليات التجارة والحقوق وقد صاروا معلمي مواد دراسية مختلفة...!!) وليت هؤلاء تم إعدادهم وتأهيلهم فعليا لممارسة مهنة التربية والتعليم، بل حتى الدورات التربوية البسيطة التي تعطى لهم تكون غير كافية، ويأتون إليها وهم غير مقتنعين بجدواها أصلا!! وفي الحقيقة يكون الأمر مجرد باب رزق لهؤلاء، وما يلبث الواحد منهم حتى يبحث لنفسه عن عمل إضافي يساعده في توفير تكاليف المعيشة، فيفتح محلا تجاريا أو يعمل بائعا أو سائقا، أو يبحث عن أي مصدر شريف للدخل، لكن الغالبية تتجه للدروس الخصوصية، وحشو أدمغة التلاميذ بالمعلومات، وهكذا اقتصرت مهنة التربية والتعليم على التعليم فقط، وليت ذلك يتم بالشكل المطلوب بل يشوبه ما يشوبه من الأخطاء الجسيمة التي يدركها كل من يمارس مهنة التدريس في مصر!! وبعد ذلك كله يتساءل البعض لماذا تغيرت سلوكيات أولادنا في المدارس والمنازل والشوارع والنوادي؟!! فلابد من إعداد المعلم وتأهيله أكاديميا وتربويا على النحو الذي يمكنه من أداء رسالته على أكمل وجه.
من الأمور البدهية أن أية أمة وأي مجتمع يجب أن يهتم بتعليم أجياله الجديدة وتربيتها وإعدادها للحياة، وتلقينها التراث القيمي والأخلاقي الذي تتميز به هذه الأمة وهو ما يعرف بعملية التطبيع الاجتماعي أو التنشئة الاجتماعية Socialization؛ وذلك للحفاظ على هويتها الحضارية، وفي حياتنا المعاصرة فالمدرسة هي أهم الوسائط التربوية التي يناط بها القيام بهذا الدور، ومن هنا وبحسبة بسيطة فعملية التربية والتعليم هي في الحقيقة استثمار طويل المدى، ومن مصلحة الدولة توفير المستوى اللائق وتأمين الحد الأدنى من الحياة الكريمة لمعلميها؛ ليتفرغوا لأداء رسالتهم ويتمكنوا من القيام بواجبهم على أفضل وجه، وإلا فسوف نكتشف بعد عدة عقود أننا أضعنا الوقت وحرمنا أنفسنا من استثمار ثروتنا الحقيقية المتمثلة في عقول أبنائنا!!
ينبغي تكوين نقابة معلمين عامة لجميع محافظات مصر بحيث تكون نقابة حرة منتخبة تمثل فعليا جميع معلمي مصر فتدافع عنهم وتحمي مصالحهم، وتشارك بفاعلية وإيجابية في رسم الملامح العامة للسياسة التعليمية، واختيار ووضع المناهج الدراسية، وينبغي الحفاظ على استقلالية نقابة المعلمين وضمان بقائها بعيدا عن هيمنة الحكومة وحزبها الحاكم أيا كانت أيديولوجياته وتوجهاته...!
يجب أن ترسى سياسات تعليمية واضحة وفق إستراتيجيات متوسطة أو بعيدة المدى، ويجب أن تكون هذه السياسات محددة ومستقرة ومعبرة عن مصلحة الدولة المصرية، ومنبثقة عن أيديولوجيتها العامة الراسخة المستقرة التي لا تتغير بتغير الوزير أو الحكومة، وبعبارة أخرى يجب أن تكون سياساتنا التعليمية مسألة أمن قومي تنبثق من رؤية عامة وشاملة للدولة المصرية، وتسعى لتحقيق أهداف محددة يجب إنجازها لمصلحة مصر ومستقبل أبنائها بغض النظر عن الحكومة والحزب الحاكم والوزارة والوزير!!
يجب القضاء تماما على ظاهرة الدروس الخصوصية، وتوفير جهود المعلم وطاقاته المختلفة لبناء شخصية أبنائه التلاميذ في المدرسة، وهذا لن يتأتى إلا إذا تم إعطاء المعلم الحد الأدنى من الأجر المعقول الذي يوفر له مستوى معيشة مقبول.
حتى يرجع المعلم المصري مصدراً للقيم كما كان دائما، يجب أن نعيد له ثقته بنفسه، ونقدم له ما يستحقه من الهيبة والاحترام، وعلى جميع وسائل الإعلام ـ وخصوصا من خلال الدراما ـ التي تبارت وتفننت عبر عقود طويلة في ازدراء المعلم والنيل من كرامته، والاستهتار به والتقليل من شأنه، واحتقار ما يقدمه من قيم وأخلاقيات في مقابل إعلاء قيمة المال، ورفع مكانته عاليا، وجعله المعيار الوحيد والحقيقي الذي يوزن به الرجال ـ عليها أن تعيد بناء ثقافة احترام المعلم من خلال الثناء عليه وعلى دوره في بناء المجتمع.
يجب وضع خطة شاملة وعاجلة ومتكاملة لإصلاح أوضاع المعلمين، وإعادة تأهيلهم، وتلبية الحد الأدنى من مطالبهم، وفي نفس الوقت من لا يستجيب من المعلمين لمتطلبات إعادة التأهيل على الحكومة إعفائه من عمله في التربية والتعليم، والاستغناء عنه وتوجيهه للعمل في مهن أخرى أكثر نفعا له وللمجتمع.
في الختام أود أن أؤكد على أننا يجب أن نتعامل مع أزمة التعليم في مصر بأسلوب علمي صحيح، ومنهج تربوي مفيد يختلف اختلافا جذريا عن النمط الفكري المضطرب، والنهج السياسي العشوائي الذي اتبعه النظام السابق، ولا بد من المصارحة والوضوح والشفافية عند مناقشة أوضاع تعليمنا والبحث عن حلول ناجعة لمشاكله المعقدة، وينبغي الإسراع فورا في وضع خارطة طريق علمية منهجية منظمة تنقذ ما يمكن إنقاذه، وعندما نخلص لله تعالى، ونتجرد في طرح مشاكلنا، ونتعامل معها بكل حيدة ونزاهة وموضوعية وإنصاف ستدق ساعة الإصلاح الحقيقي، وبإذن الله تعالى سننجز مشروع نهضتنا ونستعيد مكانتنا في هذا العالم.
* كاتب إسلامي مصري