رسالة مفتوحة إلى الأموات
عبد العزيز كحيل
أيها الراقدون تحت التراب ، لقد أصبحنا في الزمن العربي التعيس نغبطكم ونتمنّى لو أننا مكانكم ، لأنكم استرحتم من نفاق المنافقين وعدوان المعتدين وطغيان الطغاة المتسلطين وأفضيتم إلى ربّ غفور رحيم لا يُظلم عنده أحد ، أما نحن فاسألوا عن حالنا ولا حرج.
قالوا : ماتت الأمة ، قلت : وهل كانت حيّة حتى تموت ؟ أم يتحدثّون عن بارقة الأمل التي صاحبت الربيع العربي ؟
لقد قتلها أعداء الحياة فينا فوأدوا ذلك الأمل وحوّلوا الربيع المزهر إلى شتاء قاتل وطووا بالحديد والنار صفحة الحرية والحقوق وانطلاق الشعوب المستعبدة ، ورجعوا بنا إلى مربّع الدولة البوليسية العسكرية والشمولية السياسية والانحراف الايديولوجي المفروض بالقوة .
لم تكفهم تجربة الجزائر المؤلمة التي حُصدت فيها الأرواح حصدا على مدى عشرية كاملة ، فاستلهموها هنا وهناك ونسجوا على منوالها وزادوا عليها بشاعة حين أقحموا الاسلام كشاهد زور على الانقلاب والتعذيب والمعتقلات والمحاكمات الجائرة ، ولم يتكبدوا عناء كبيرا لإيجاد شاهد الزور فقد اصطفّ معهم دراويش الصوفية العجمية وغلاة الوهابية المتنطعة ، ووقّعوا باسم رب العالمين على فتاوى تقطر ظلما و زورا وغشّا تجرّم الدعاة والعلماء والمصلحين والجماهير المتعطّشة للحرية وتحشد التأييد – باسم خطابهم المبدّل – للعسكر والعلمانيّين والفاسدين من كلّ لون.
وتآمر " أصدقاء سورية " قبل غيرهم على الشعب السوري وامتدّت يد الإجرام إلى ليبيا لتقتل فيها الأمل ، ونجت الأنظمة الدكتاتورية من رياح التغيير المتربّصة بهم.
أيها الأموات ، لقد تركتم الأمة تتشبّث بدينها كحصن حصين وملجإ آمن ، فانهال عليه التغريبيّون تآمرا واتهاما وتضييقا وأصبحوا يتبجّحون بسبّ رموزه المقدسة علنا – باسم حرية التعبير – ويصرّحون بأدوات الدولة ووسائلها أنه هو مصدر الشرور جميعا ، يعسّرون على المسلمين تديّنهم ويُفسحون المجال واسعا للمنصّرين – باسم حرية العقيدة - ويرفعون من شأن الملحدين المجاهرين بكُفرهم ، ويعدّونهم شخصيات وطنية ورموزا عالمية في الأدب والفنّ والاجتماع ، يُغدقون عليهم الجوائز ويملؤون بهم سمع الدنيا وبصرها ، أما دعاة الاسلام وخَدَمته فقد أُلصقت بهم تهمة الارهاب لأنهم متمسّكون بكتاب وسنة وأخلاق ومبادئ وقيم يرى عبيد الغرب أن الزمان قد عفا عليها وشاخ ، وأنها غدت مصدر إزعاج للعالم الحرّ المتمدّن ، لم ينجُ من التهمة حتى كبير علماء المسلمين الشيخ القرضاوي .
أما حركة النهضة التونسية التي لم يعرف العالم العربي نظيرا لها في التعقّل والاعتدال وبُعد النظر فقد قدّمت ما لا يُحصى من التنازلات من أجل التوافق الوطني ، حتى اتّهمها صفُها بالتنازل عن الثوابت والمبادئ ، لكن ذلك لم يشفع لها عند الأوساط العلمانية والقوى التغريبية التي ما زالت تكيل لها تُهم الإرهاب والتزمّت والمراوغة ، فخسرت مواقع سياسية وأماكن في القلوب لأنّ الزمن زمن إسلام الأعراب الذين أطغتهم الثروة البترولية فعادوا أهل الدين والأخلاق ليخلو لهم الجوّ يتقلّبون في أعطاف الشهوات وينسجون أواصر الأخوّة مع الصهاينة ويتركون لسدنتهم من "العلماء" و "الشيوخ " وأتباعهم الفتات المتمثل في شطحات الصوفية وجدليات النصوصية ، وبقي مجال واحد للمتديّنين يتحركون فيه هو التسبيح بحمد الظَلَمة ووصفهم بالمنقذين ونشر ثقافة الاستسلام للمتغلّب وتحمّل الضرب والإهانة بصدر رحب والاشتغال بالمعارك التاريخية والعيش على هامش الحياة مستغرقين في الأشكال والقشور والجدال العقيم .
يا أصحاب القبور ، فارقتم الحياة على وقع الرداءة التي عمّت أرجاء حياتنا ، ولعلكم تظنون أننا انعتقنا منها ، لا والله بل تجاوزناها إلى التفاهة في الأدب والفنّ والسياسة ومواعظ علماء السلطة وأعوان الشرطة ، وما زال دور رجال الفكر والعلم والإبداع متراجعا باطّراد بينما مكّنت الدوائر السياسية والإعلامية التي توجّهها العولمة الطاغية لأصحاب الغناء والرقص واللعب والمجون فغدَوا نجوم المجتمع وقدوات الشباب والنماذج التي يُقتدى بها ، فلم يعُد لأصحاب الفضيلة والنخوة والقدرات العقلية الفائقة من تواجد إلا في أرض الخمول والزوايا المنسية وإلاّ فهي المعتقلات والمحاكمات الجائرة وتشفّي الرويبضات في ذوي الدين والمروءة والنخوة ، وقد تركتم البلاد يحكمها المتغلّبون بالقوة الذين لا يعيرون الشعب وصوته أي اهتمام ويبقون في السلطة حتى الموت أو إلى ان ينقلب عليهم أشقاؤهم العسكر ...وما زال العرب على نفس حال مع إضافة نوعية هي اشتراط المرض المزمن العضال والإشراف على التسعين من العمر لتولّي الرئاسة ، مع استمرار شعارات التجديد والإصلاح وتقديس الشباب ، و في النهاية رفع الجميع لواء " العقل السليم في الجسم المريض ".
بعد هذا لماذا لا نغبطكم ؟ إن كنتم تظنون أن التشاؤم قد استبدّ بي فاعلموا أني – بفضل الله - من أوفر الناس حظّا في ميدان الأمل والتفاؤل ، أمّا كثير غيري فقد فضلوا القضاء في لجّة البحر فرارا من أوطانهم " العربية الاسلامية " على حياة تغلب تكاليفُها قيمَتها ، وآخرون اختاروا سلوك جهاد غريب إذ نجا من سلاحهم الصهاينةُ والأمريكان وسالت على أيديهم دماء المسلمين أنهارا...إنه الانتحار الجماعي في زمن الردّة الثورية والحضارية ...فأيّنا أحسن حالا ؟ نحن أم أنتم ؟ وهل نلحق بكم لنوافيكم بمزيد من أخبار مآسينا ام أن الله تعالى سيُحدث أمرا يردّ الأمور إلى نصابها فترتفع راية الاسلام ويفرح المؤمنون بنصر الله ؟