حول الهزيمة النفسية
عبد العزيز كحيل
الهزيمة النفسية هي انهزام القلب وانهيار الشخصية امام الخصم أو العدوّ حتى قبل المعركة ، أيِّ معركة ، سواء كانت حربية أو فكرية أو حضارية ، سببُها اليأس والقنوط ونتيجتُها الاستلام والانسحاب من المواجهة ، وقد وردت الاشارة إليها في القرآن الكريم والسنة النبوية في عدّة مواضع تتعلّق كلّها بالموقف من العدوّ :
- "(...)فلمّا جاوزه هو والذين معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده " – سورة البقرة 249 ، هذا الجيش من بني اسرائيل انهزم بمجرد إبصار العدوّ وقبل أيّ منازلة معه لأنه كان يستصحب عوامل الهزيمة في نفوس أفراده.
- " ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله " – سورة الحشر 2 ، فرغم ان الصحابة رضي الله عنهم أرباب تربية روحية قوية وتكوين نفسي صلب إلاّ ان لجوء بني النضير إلى حصونهم المنيعة جعل الشكّ يساورهم في إمكانية الانتصار عليهم ، لذلك تولى الله تعالى ذاته المعركة " هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم (...) فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب " - سورة الحشر 2
وهذه الهزيمة هي المعنى الذي حواه حديث تداعي الأمم الذي رواه أبو داود والذي أرجع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم سبب تكالب العدوّ الخارجي إلى انهيار البنيان الداخلي والتكوين النفسي بالأساس ، وسمّاه الوهْن وقَرَنه بالجُبن امام التحدّي المحدق ، وإنما ينهزم الناس عندما تتمكّن منهم الأوهام وتتضخّم في أعينهم قدرات العدوّ أو الخصم وتضعف نفوسهم عن طلب الغايات الكبرى وبذل الثمن المناسب ويرضون بالحياة التافهة المتّسمة بالعجز والمسكنة.
ولا يحدث كلّ هذا في ساحة الحرب العسكرية وحدها بل ينسحب على جميع الحالات التي يفقد فيها المؤمنون الفعالية ، لذا نرى من فقدوا القدرة على المواجهة في ميادين الفكر والرقيّ المادي والمنافسة الحضارية يتزمّتون ويفرّون إلى الماضي ويتشبّثون بالأشكال والقشور على حساب الحاضر بتفاعلاته وإكراهاته وعلى حساب الجوهر الذي يحتاج إلى جهد جهيد لإدراك مقاصده وسبر أغواره.
ومن المفروض أن المسلم – بفضل التربية المحرقة والفهم عن الله ورسوله وسيره وفق السنن الماضية – لا ينهزم أمام المؤامرات والتحديات ، بل هو يعدّ نفسه من الغرباء الذين أشاد بهم الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم يَصلحون ويُصلحون إذا فسد غيرهم وأفسدوا ، وهو من الطائفة المنصورة التي لا تزال ظاهرة على الحق لا يضرها من خذلها ولا من خالفها حتى يأتي أمر الله وهي ظاهرة ، وهو من الفئة القليلة الثابتة الصابرة التي يتحقق على يديها النصر بعد تراجع المنهزمين نفسيا وفرارهم من ساحة المواجهة ، هذا لأنّ المسلم الرباني – سواء كان داعية أو مصلحا اجتماعيا أو مربيا أو سياسيا أو من عامة المسلمين المتمسكين بدينهم – لا يسترخي بل هو دائم اليقظة يراقب نفسه ويمدّها بأسباب القوّة الذاتية فلا تنهزم بل تتجاوز حتى المعارك الخاسرة وتستدرك وتخوض دورات جديدة ، لأن هذا المسلم جندي من جند الله ينفذ به أمر السماء فلا ييأس ليقينه بأن ربه هو الذي يدير المعركة ، فلا تسحقه المشكلات رغم ضراوتها ولا تهزمه المكاره وإن اجتمعت عليه من كلّ صوب ، نعم ، يتألم ويئنّ لكنّه يتذكّر ان الإمام احمد رحمه الله كان يئنّ في مرض موته فقيل له إنّ الأنين من الشكوى فأمسكَ حتى فاضت روحه ، والنفس السوية ينال منها الأذى لكنها تبقى صامدة مقاوِمة فعالة ، قال تعالى : " ولا تهنوا ولا تحزنوا وانتم الأعلون إن كنتم مؤمنين " – سورة آل عمران 139 ، فالنهي لا ينصبّ على التألم والإحساس بالضرّ وإنما على السقوط في دركات الهوان ومهاوي الحزن الذي يصيب بالشلل الفكري والروحي.
إنّ من شأن المرحلة التعيسة التي تمرّ بها الأمة في المدّة الأخيرة أن تبثّ الهزيمة النفسية على نطاق واسع لِما تسوّقه من أنواع التردّي السياسي والثقافي والأخلاقي المُمَنهج ومن زرع لبذور الفساد المتنوّع على نطاق واسع لا يُنذر إلا بمزيد من الهزائم والتضييق على الحرية والتديّن والعمل الصالح ، فيرى المرء تحطيم أكثر ما تمّ إنجازه طوال عقود ، إذ يُعمل فيه الانقلابيون والتغريبيون وبعض السطحييّن المنتسبين للصف الاسلامي معاول الهدم بشكل حثيث كأنهم يسعون إلى محو آثار الخير والصلاح وتفخيخ مستقبل الأمة بشكل متعمّد حتى لا يمكنها النهوض مرّة أخرى.
لكنّ هذا الفساد العريض لا يغري أصحاب المشروع الاسلامي بالاستسلام ولا يصيب نفوسهم بالهزيمة بقدر ما يشحذ هممهم ويقوي شخصيتهم ويزيدهم عزيمة ليتشرفوا برفع تحدي التمسّك بالدين والأخلاق والتميّز الحضاري ، وتحدي التآمر على الأوطان والأحرار وعودة الاحتلال الغربي بشكل جديد أكثر فتكا ، وتحدي التنمية والخروج من التخلف الذي تؤصّل له الأنظمة الاستبدادية وروافدها من التغريبيّين والجماعات الدينية التي تعيش خارج الزمان ، والمرجعية الاسلامية – القرآن والسنة والثقافة والتراث – تنضح أملا وتفاؤلا وأخذا بأسباب القوة المعنوية حتى في أحلك الظروف التي تمرّ بالجماعة المؤمنة ، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يضرب الصخرة التي استعصت على الصحابة أثناء حفر الخندق ويقول : " الله أكبر ، فُتحت فارس ، فُتحت الروم " ، وهو ومعه المسلمون محاصَرون في المدينة يتأهّبون للعدوان الوشيك الذي يهدف إلى استئصالهم والقضاء على دينهم .
المؤمنون بشرٌ يصيبهم الخوف وشيء من الفزع عندما تدلهمّ الخطوب ويتكاثر الأعداء من كفار ومنافقين وتتوالى عليهم الضربات وتباغتهم الدسائس والمؤامرات الخسيسة ويتنكّر لهم كثير ممّن كانوا يظنون أنّهم يحمون ظهورهم ، حينذاك تضيق نفوسهم لكنّ الهزيمة لا تسري إليهم لأنهم يصبحون ويمسون على المعية الإلهية تشدّ أزرهم وتضمن تماسكهم :
- " فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحبّ الصابرين " – سورة آل عمران 146
- " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ن فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم " – سورة آل عمران 173
- " وما لنا ألاّ نتوكّل على الله وقد هدانا سبلنا ، ولنصبرنّ على ما آذيتمونا ن وعلى الله فليتوكّل المتوكّلون " – سورة ابراهيم 12
قد ينهزم المسلمون في معركة - كما هو شأن البشر جميعا – لكنّ النفوس المؤمنة الأبية لا تنهزم في عالم الضمير ولا تستسلم أمام التحديات الجسام ولا تنسحب إلى هامش الحياة تحت وطأة الظلم ، بل تعرف أن هذا هو أوان التوكّل الحقّ على الله ، وهذا وقت التحلي بمكارم الصفات من ثقة بالنفس وثبات على الحق وصبر على لأواء الطريق ، فلا مجال لوهن ولا ضعف ماحق ولا استكانة بل عملٌ على استئناف المشوار لإرغام الباطل والتمكين لمجتمع الدين والأخلاق والحياة الكريمة.