الحوار مع من
د. نور الدين صلاح
مركز الدراسات الاستراتيجية لدعم الثورة السورية
أعلن النظام مؤخراً بعد قرابة ثلاثة أشهر من القمع والدماء والاعتقال والتعذيب والقتل أن المشكلة سياسية ومخرجها حل سياسي ، وفي هذا إقرار بأن الحل الأمني قد فشل فشلاً ذريعاً لأسباب :
أولا : المظاهرات ما زالت مستمرة ، زادت رقعتها جغرافياً لتصل تقريباً إلى كافة مدن وقرى الجمهورية ، وكانت كل يوم جمعة فأصبحت يومية بل في النهار والليل ، وارتفع سقف مطالبها ولم يقف عند حد إسقاط النظام بل محاسبته ومحاكمته
ثانياً : فشلت خطة الترويع بالصدمة التي مارسها النظام السوري بكل أفرعه الأمنية والعسكرية والإعلامية ، بل على العكس من ذلك كسر الشارع حاجز الخوف وحطم التماثيل وأحرق الصور وزالت هيبة النظام ورموزه وأدواته من نفوس الشعب
ثالثاً : فشلت وسائل الإعلام بإقناع المواطن في الداخل والخارج فضلاً عن الآخرين في تسويق رواية الدولة ووجهة نظرها المشوهة والكاذبة للأحداث
رابعاً : أصبح الناس على قناعة تامة أن من يقتل شعبه خائن كما هتفوا بذلك ، وأن هذا النظام الذي ولغت أياديه بدماء السوريين وقامر بها عند اختياره الحل الأمني ليس نظاماً إصلاحياً ، بل صار لدى الكثيرين قناعة أنه بتركيبته غير قابل للإصلاح
خامساً : رموز المعارضة في الداخل يزدادون جرأة وتصميماً ، وفي الخارج يزدادون تواصلاً وتنظيماً ، وصار لهم خطاب واضح ورموز مؤثرة وقنوات اتصال مع الداخل
سادساً : العزلة السياسية التي لا أقول أنها فرضت على النظام بل هو فرضها على نفسه بمواقفه الرعناء العنجهية ، فكل ناصح أو غيور من شخص أو جماعة أو دولة أو جهة إعلامية أو منظمة محلية أو قُطرية أو دولية عالمية خالفت النظام بالرأي اتخذها النظام عدواً ، وفق قاعدة (من لم يكن معي فهو ضدي) ولم يعد يميز النظام سوى لونين أسود وأبيض ، وكل يوم يمر كان يعتقد النظام أنه يشتري الوقت ويراهن عليه في كتم أنفاس الثورة ظهر أنها حسابات خاطئة ، لقد صار مرور الوقت ليس لصالحه ، الدماء تزداد وتنتشر رقعتها ويزداد المعتقلون والمختفون ويكثر المتضررون ، والركود الاقتصادي الذي سوف يؤدي إلى توقف عجلة الاقتصاد وزيادة البطالة وقد ينتهي بانهيار الليرة كلياً أو جزئياً ، والقرارات التي ستصدر عن منظمات مختلفة بعد أن تأخر صدورها واستنفذ النظام كل فرصه لإثبات قدرته على القمع أو الإصلاح ، فبدا أنه لا يستطيع الأمرين لكن ثمة تساؤلات حول الحوار : الحوار لماذا ؟ والحوار مع من ؟
طرح النظام بعد كل هذه الإخفاقات فكرة الحوار وشكل لجنة للقيام بهذه المهمة ولم يقنع النظام الشعب أنه يريد الحوار لعدة أسباب :
منها أن النظام لم يهيئ الأجواء الملائمة للحوار ، فما زال قمع المظاهرات واجتياح المدن والقرى بالدبابات ، والقتل والقنص والاعتقال كما كان بل أشد ، لقد أدرك الناس أن هذا ليس حواراً داخلياً ، إنما هو رسالة موجهة إلى الخارج ، وهو من قبيل كسب الوقت كما أشرت
وإلى الآن لم يعترف النظام بالثورة وأن مطالبها محقة ومشروعة ، بل ما زال يمارس التشويه لها في وسائله الإعلامية ، ويصفها بقلة الفهم والوعي ، والخيانة والتآمر ، والتخريب والاعتداء
وكذلك يعلم الناس أن هذه اللجنة المشكلة للحوار وإن كان منها نواب للرئيس ومستشارون له ضعيفة ، وليسوا من ذوي القرار في الدولة بل قيل عن بعضهم أنه كان في إقامة جبرية ، وهؤلاء لا يملكون شيئاً من القرار السياسي ، وليس لهم صلة بمطبخ قرارات الأحداث الذي كشفه رامي مخلوف في تصريحاته الأخيرة
والذي يهمني في مقالتي هذه السؤال الثاني : الحوار مع من ؟؟؟
بدأ النظام فكرة الحوار مع نفسه بمعنى أنه حاور نفسه وقرر هو بالنيابة عن المعارضين والثائرين ، فالقيادة القطرية هي التي تقرر نتيجة الحوار مسبقاً وهي التي تحدد سقفه ، فخرج علينا بعض أعضاء القيادة القطرية بأنه لا تغيير للمادة الثامنة في الدستور التي تنص على قيادة حزب البعث للدولة والمجتمع ، وبعد ذلك يحدثوننا عن قانون الأحزاب والانتخابات الجديد الذي لا معنى له (ديمقراطياً) تحت هذا السقف المنخفض
ثم اقتنع النظام أخيراً أنه لا بدّ من أن يحاور غيره حتى يصدّق الناس بالحوار فبيّن من سيحاوره ووضع المواصفات والشروط لمن سيحاوره ، ومنها أنه لا يهم أن يكون في الداخل أو الخارج على ألا يكون له علاقة بمخطط خارجي (أجندة خارجية) هذا أحد الشروط ، وأنا سأطبق هذا على كل من يمكن أن يحاور نظرياً :
الإخوان المسلمون : اعتبرهم النظام مجرمين وقد شملهم بالعفو المزعوم مع المجرمين الجنائيين ، بل هو يعتبرهم إلى الآن مجرمين ومتآمرين ، فقد بث التفزيون السوري اعترافات خلية تتبع للإخوان بزعمه أنها تهرب السلاح بالتعاون مع نائب لبناني (الجراح) وهم يقومون بجزء من الأعمال التخريبية ، وهم يحضرون المؤتمرات في الخارج التي يصفونها بالعمالة والخيانة والارتباط الخارجي
كل معارض في الخارج على اختلاف توجهه الفكري حضر مؤتمرات معارضة فهو يحتاج إلى شهادة حسن سلوك من النظام لأنه متآمر مرتبط بمشروع خارجي
كل صحفي ظهر معارضاً لا مدافعاً عن النظام على قناة فضائية يصنفها النظام على أنها معادية وعميلة وتعمل لحساب جهات متآمرة لا يمكن أن يجلس على مائدة الحوار ومثله الكتاب الذين يكتبون في الصحف التي تحمل نفس التصنيف
كل حقوقي أو قانوني قد عمل على جمع وتوثيق ملفات تدين جرائم النظام أمام المنظمات الدولية ليتم فضحه وكشفه والضغط عليه يعتبره النظام معارضاً عميلا
كل متظاهر في الخارج أمام السفارة السورية في أي بلد أو أمام أي منظمة إقليمية أو دولية يحمل شعارات معارضة للنظام أو يهتف ضده فهو عميل لا يمكن التحاور معه
كل من كتب عنه المخبرون تقريراً بأنه يتبنى فكر الثورة في الخارج ويدافع عنها في مجالسه العامة أو الخاصة فهو لا يصلح للحوار ، وما زال الغرور الأمني حتى مع أولئك الذين تناقشهم نقاشاً حراً وينتهي النقاش بالتهديد والوعيد وليس أقلها (لأضعن اسمك على الحدود وإن كنت رجلاً ارجع إلى الوطن) هذا نموذج مصغر عن الحوار الذي يريده النظام
وأما من في الداخل فأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية الذين يمثلون المعارضة الهزلية كما مجلس الشعب الهزلي الساخر فإذا أراد النظام أن يحاورها ، فبالتأكيد سيكتشف الناس ببساطة مصداقية هذا الحوار
و إذا أراد أن يحاور النظام من لا علاقة له بالشعب ولا بمطالبه كالسيد نصرالله فهذا الأخير يكرر زياراته ويحاور ويتحدث عن الإصلاحات كأنه الناطق الشخصي باسم الرئيس ، وهو ما طفق يبشرنا بها بخطاباته وأحاديثه ومحطته ، وإلى الآن ما أدري ما صفته الرسمية أو الحقيقية هل هو حاكم أم مستشار أم عضو قيادة أم أمين سر الرئيس القائد ، فهو وعدنا كما أسر له الرئيس بحزمة إصلاحات تتجاوز طموحاتنا بكثير وتذهب إلى أبعد مما نتصور ، ولعل الرئيس يريد أن يسربها إلينا بالتدريج خوفاً علينا من أن نخطئ من شدة الفرح ويطير صوابنا مما لا تحتمله عقولنا ، لقد فقد السيد مصداقيته عندما انحاز للظالم ضد المظلوم
وأما المعارضة المضطهدة في الداخل والتي صرح النظام عنها في أكثر من مناسبة أنها شريفة وطنية وزجها لذلك في السجون مرات عدة ، تارة دون محاكمة (الأحكام العرفية) وتارة بتهم واهية ملفقة ، وما يلبث أحدهم إن قضى عقوبته كاملة حتى يعود إلى السجن بتهمة جديدة ، فهؤلاء يصرحون أنهم لا يمثلون إلا أنفسهم لأن الحياة السياسية الحقيقية مغيبة في الواقع السياسي السوري ، وأنهم ليسوا أوصياء على شباب الثورة السورية
وأنا أقول لن يفلح النظام بالتحاور الحقيقي مع أحد ولن يجد أحداً يحاوره وذلك لعدة أسباب :
لن يستطيع أحد أن يتحمل أعباء الدماء التي أريقت والقمع الذي حصل فيدخل مزبلة التاريخ من أوسع حاوياتها ، ولن يرحمه الشعب مستقبلاً وبالتالي حكم على نفسه بالانتحار السياسي وفقد المصداقية والانتهازية
ولا يحمل أحد تفويضاً عن الشعب الثائر ليتفاوض باسمه ويساوم على حقوقه ، وعلى هذا فليس أمام النظام إلا أن يسمح بتنظيم معارضة شعبية تستوعب كل هذه الشرائح في الداخل والخارج ، أو يتخذ قرارات أحادية ولن يرضي الناس آنذاك إلا بالتنحي والرحيل والمحاكمة
بقي فئة واحدة يمكن للنظام أن يحاورها ، بل ومن المنطق والعدل أن يحاورها ، إنهم المندسون ، نعم هم المندسون السلفيون الإرهابيون الموجودون في كل مكان فهم يملكون شعبية واسعة بدليل انتشارهم مكانياً ويملكون القوة كالنظام ليحاوروه بنفس المنطق ونفس الحجة ، ولكن لن يكون الحوار عندها علنياً لأن النظام سيعترف بالمندسين الشرعيين ، وعند ذلك سيكون الحوار اندساسياً ويسمى (الحوار المندس)