عندما يكذب الشيخ البوطي على الله
محمد علي الأتاسي
قبل عدة سنوات، نشرت دراسة في ملحق ‘النهار’ (14/11/2004) عن الشيخ البوطي وعلاقته بالسلطة السياسية في سورية، تحت عنوان ‘الفقيه والسلطان: الشيخ البوطي نموذجا’، تناولت فيها مكانة ودور الشيخ البوطي في حقل علماء الدين السوريين، وطبيعة العلاقات التي تربطه بالسلطة، وعرضت لبعض مظاهر الفكر النكوصي للشيخ البوطي مقارنة بالفكر الإسلامي المتنور الذي ساد أبان عصر النهضة، وعرجت في التحليل على المصالح الرمزية المتبادلة بين البوطي والسلطة وآلية اشتغال وأساليب كيل المدائح وإسباغ عبارات التبجيل والتعظيم من قبل الشيخ البوطي للرئيس حافظ الأسد وابنه الدكتور بشار.
ولدقة الموضوع وحساسيته، حرصت وقتها على إيراد المراجع مع أرقام الصفحات بخصوص الاستشهادات التي استخدمتها من كتب وأقوال البوطي، ما عدا مقاربة وحيدة استخدمت فيها طريقه التحليل اللغوي وأوردت فيها سلسلة الصفات وعديد الكلمات التي يستخدمها الشيخ في خطبه ومقالاته لكيل المدائح للرئيس الأسد، من مثل (القائد الفذ/ العبقري/ المعين الذي لا ينضب/ النهر الدافق/ صاحب المواقف التي انبعثت عن إلهام رباني). ولضيق المجال ذكرت عنوان كتابه ‘هذا ما قلته أمام بعض الملوك والرؤساء العرب’، الذي وردت فيه هذه الألفاظ من دون ذكر لأرقام الصفحات التي أخذت منها.
بعد أيام قليله، جاء رد الشيخ البوطي، بطريقه غير معهودة منه في مثل هذه الحالات، على شكل مقال قصير في صفحة ‘قضايا’ في جريدة النهار (10/12/2004)، يتوقف فيه عند الجملة الوحيدة التي مرت في مقالي من دون الإحالة إلى أرقام الصفحات، لينفي بالمطلق ما ورد فيها، وليقسم بالله أن لا لسانه ولا قلمه تحركا بمثل هذه الألفاظ و’ليبرأ إلى الله’ من هذه الكلمات، على حد تعبيره. وألح علي في مقالته أن أنسب الألفاظ التي أرويها عنه إلى أماكنها من كلمات ألقاها أو بحوث كتبها. وختم متوعدا ومتحديا، أنه إذا لم يتح لي أن أفعل ذلك فإن ‘لكل حادث حديث’.
التبس علي الأمر بخصوص رد البوطي هذا، وتساءلت في نفسي ما الذي دهى الشيخ حتى يبرأ إلى الله من ورود هذه الألفاظ على لسانه، وكان يكفيه أن يرجع لكتابه الذي أحلت إليه في مقالتي، حتى يتأكد بنفسه أنها ألفاظه كما وردت على لسانه وبقلمه.
يومها قلت لنفسي انه قد يكون للسن حقه أو انها فورة الغضب حالت بين البوطي وبين تدبر أمره والنظر بتمعن إلى ما هو موجود بين دفتي كتابه. طبعا، لم يكن من الصعب أن أرد عليه بعد يومين بمقال قصير في الجريدة ذاتها، ذكرت فيه العبارات وأرقام الصفحات التي احتوت هذه الألفاظ في مديح الرئيس الأسد. وأشرت إلى أن اعتراضي الرئيس على الشيخ البوطي بالنسبة إلى هذه الألفاظ لا يأتي من إنزاله الناس (والحكام) منازلهم في الحديث عنهم وإليهم بحسب ما يدعي، ولكن ينبع من محاولته في كثير من الأحيان التلاعب في المواقف ونفي ورود مثل هذه الألفاظ على لسانه، وهذا بالضبط ما كرره مجدداً في رده علي.
انتهى الأمر يومها عند هذا الحد، واستنكف البوطي عن كتابة رد على الرد بعد أن أسقط في يده. أما اليوم فإنني أجد نفسي مضطرا مع الاسف أن أعود من جديد لهذه الواقعة، على ضوء مواقف البوطي الأخيرة بحق المتظاهرين الذين خرجوا من المساجد السورية عموما، ومن الجامع الأموي في دمشق خصوصا، من أجل حرية بلدهم.
وأنا إذ أعود لها فليس الهدف هو التشفِّي من البوطي، ولكن لأبين كيف أن الشيخ إذا كذب وقتها على الله وأقسم أغلظ اليمين في نكران ما تفوه به لسانه وأورده قلمه في مديح حكام سورية، فإنه يكذب اليوم على الله بحق دماء الشهداء ومن على شاشات التلفزيون وأمام ملايين المشاهدين، وهو يفتري على هؤلاء المتظاهرين الشباب متهما إياهم بأنهم ‘ينتعلون المساجد’ لمآربهم الخاصة، في حين أنهم، وكما سنبين في السطور اللاحقة، لم يترددوا في المخاطرة بحياتهم في سبيل حرية سورية وكرامتها.
للجامع الأموي في دمشق مكانة استثنائية في التاريخ الحديث لسورية عموما ولمدينة دمشق خصوصا، ويكفي في هذا المجال أن نذكر أن كبرى المظاهرات التي هزت البلاد خلال فترة الانتداب الفرنسي وصولا إلى فجر الاستقلال خرجت من أبواب هذا الجامع، كما دخلت من ذات الأبواب مواكب تشييع كبار القادة والزعماء الوطنيين في سورية، ومن على منابره خطب أهم علماء الدين في سورية. لذلك لم يكن عبثا أن تختار السلطة قبل عدة سنين الشيخ سعيد رمضان البوطي، وهو أشد المقربين من عائلة الأسد في صفوف رجال الدين، للخطابة والتدريس في الجامع الأموي، في حين منع عدد من المشايخ الدمشقيين المستقلين من أمثال معاذ الدين الخطيب من العودة مجددا للخطابة في هذا الجامع.
من هنا لم يكن عفويا أن يكون الرد الأولي للسلطات السورية في أعقاب نجاح ثورة تونس واندلاع الثورة المصرية، وقبل أن يتجرأ أحد في الشارع السوري على التحرك، هو في تنظيم مظاهرات تأييد حاشدة بتاريخ 15ـ02ـ2011 في محيط الجامع الأموي لاستقبال الرئيس السوري الذي نزل لأداء الصلاة بذكرى عيد المولد النبوي وكان إلى جانبه الشيخ البوطي. كما لم يكن عفويا أن يأتي رد الشباب من ذات البقعة الجغرافية وأن تنطلق أولى التحركات الشعبية الخجولة للثورة السورية بعد شهر في 15 آذار/مارس من محيط الجامع الأموي، وأن تليها أولى المظاهرات المنظمة من داخل حرم الجامع في صلاة الجمعة يوم 18 آذار، حيث اضطر خطيب الصلاة الشيخ البوطي أن يترك المنبر على صيحات المتظاهرين الشباب التي ارتفعت بالتكبير وبالهتاف للحرية. وقد أظهر فيديو على اليوتيوب لهذه الواقعة كيف كان البوطي يهرول هاربا وهو محاط بحراسه الذين يجهدون لفتح طريق له بين صفوف المتظاهرين المنادين بالحرية.
وإذا كانت البشائر العفوية الأولى للثورة السورية ما لبث أن ظهرت في 17ـ2ـ2011 بعد يومين فقط من حشود التأييد بعيد المولد النبوي، مع مظاهرة حي الحريقة بالقرب من الأموي التي اندلعت في أعقاب ضرب الشرطة لأحد المواطنين، ورفع فيها لأول مرة شعار ‘الشعب السوري ما بينذل’، فإنه يمكن اعتبار مظاهرات الأموي التي تلتها وانطلقت يوم الجمعة في 18 آذار وتوسعت في جمعة الغضب في 25 آذار، البداية الرسمية للثورة السورية، كما أنها أسست من حيث الشكل والمضمون لأغلب التحركات الشعبية التي بدأت فعليا في درعا في 18 آذار، ولم تلبث أن عمت سورية من أقصاها إلى أقصاها.
ويكفي في هذا الإطار أن نشير إلى الشعارات التي أطلقها الشباب لأول مرة من تحت قبة النسر في حرم الجامع الأموي من مثل ‘الله سورية والحرية وبس’ أو’حرية، حرية’ لتنتشر من بعدها في أرجاء البلاد ولتصير أهم شعارات الثورة السورية التي راحت تتردد من القامشلي إلى حوران.
أما الشيخ البوطي في كل هذا، فيبدو أنه لم يغفر لهؤلاء الشباب أنهم أفسدوا عليه خطبة الجمعة، ولم يشف غليله أن معظمهم قد ضرب واعتقل على أيدي أجهزة الأمن، فراح في أحاديثه المتكررة على الأقنيه التلفزيونية السورية يحرض عليهم متهما إياهم بأنهم ينتعلون المساجد لمآربهم ولا يعرفون شيئا اسمه الصلاة وجباههم لا تعرف السجود وأنهم ينقادون لأوامر آتية من الخارج ويحتمل أن تحركها أصابع صهيونية.
أما دليل الشيخ البوطي على كل هذا، فهو أنه رآهم في باحة المسجد المفتوحة عندما خرج فنظر بوجوههم فوجد أنها ‘ليست وجوه صلاة، ومظاهرهم مظاهر أناس لا تتعامل مع المساجد بشكل من الأشكال’.
شكرا لافلام اليوتيوب لكونها في صلب هذه الثورة، ليس فقط لأنها تكشف حقيقة من نكل بأجساد الأحرار من قرية البيضا في بانياس، ولكنها أيضا تكشف كيف ينكل البوطي بعقول السوريين وضمائرهم، فأشرطة مظاهرات صلاة الجمعة في الجامع الأموي تظهر كيف أن المتظاهرين حوصروا داخل الحرم، وكيف كان رجال الأمن ينتظرونهم في الباحة الخارجية لينالوا منهم بالضرب والاعتقال. والسؤال البسيط هو كيف عرف البوطي وقرر، أن من في الباحة الخارجية هم من المتظاهرين وليسوا من رجال الأمن؟ ومن قال له أن جباههم لا تعرف الصلاة؟ ومن ثم من يشاهد فيديو هروب البوطي من حرم الجامع مطأطئ الرأس ومحاطا بعشرات من حراسه الشخصيين، سيدرك مباشرة استحالة أن يرى البوطي أي شيء خارج هذه الدائرة الضيقة، فكيف إذا بفراسة الوجوه والتمعن بالجباه على امتداد الصحن الخارجي للمسجد؟ أضف لذلك أن البوطي لحظة خروجه من حرم الجامع، كانت المظاهرة لا تزال مستمرة في داخله، فكيف تمكن الشيخ من رؤية المتظاهرين في الخارج؟
لقد احتج البوطي، وصال وجال، ضد مجموعة من الشباب متهما إياها بانتعال المسجد لأنها حاولت أن تجعل من صلاتها في هذا المكان ذي الأبعاد الرمزيه الهائلة، ومن ندائها أن ‘حي على الصلاة’ وأن ‘حي على الحرية’، رسالة إلى الشعب السوري بضرورة أن ينهض لنيل حريته واستعادة كرامته. لكن ذات البوطي قبل عدة أسابيع من هذا التحرك، لم يرف له جفن واعتلى المنبر خطيبا عندما أنزلت السلطة الآلاف المؤلفة من مؤيديها إلى المسجد الأموي في عيد المولد النبوي لتملأ قاعة الصلاة ولتحيط بالرئيس لحظة خروجه من الجامع هاتفة له ‘الله سورية بشار وبس’، وهو الشعار الذي تلقفه المتظاهرون منذ البداية وقلبوا محتواه.
ما يثير الأسى مع هذا الشيخ، الذي يعتبر المحاور الأول لصانع القرار في سورية وأكثر المشايخ قربا له، أنه لم يتوان لوهلة في حديثه للفضائية السورية عن اعتبار ان ما يجري الآن في سورية من اضطرابات مرتبط بمعركته القديمة لمنع عرض المسلسل التلفزيوني ‘ما ملكت إيمانكم’، وأن عرض هذا المسلسل في شهر رمضان وإساءته للقرآن أثبت رؤيته وحلمه بنزول كارثة على سورية وأغضب الله فعاقب البلاد بما تشهده اليوم من احتجاجات. أما عن هذه الرؤية فنكتفي هنا بإيراد بعض تفاصيلها الجهنمية كما وردت على لسان البوطي نفسه في مقابلة سبق له أن أعطاها قبل بدء الاحتجاجات لموقع ‘نسيم الشام’ المقرب منه:
‘ كل ما أملك أن أقوله انه كان بين يقظة ونوم، وكان الذي رأيته وباء نازلاً من السماء بمظهر مادي مرعب، ذي بقع سرطانية حمراء تبعث على التقزز والاشمئزاز، ومع هبوطه السريع نحو الأرض أخذت تنفصل منه حيوانات كثيفة وكثيرة طائرة راحت تنتشر وبسرعة فوق دمشق، وقد علمت أنها جراثيم لوباء خطير متجه للتغلغل داخل البلد’.
طبعا ما اعتبره البوطي تحققا لرؤيته العجائبية، لم يمنعه من الاستمرار في الخطابة من على منبر الجامع الأموي الكبير في قلب دمشق، ولم يوقفه عن لعب هذا الدور الخطير إلى جانب السلطة وبعض المشايخ المدجنين، وهو الدور الذي بالاستناد للقاعدة الفقهية ‘درء المفاسد قبل جلب المنافع’، لا يقوم بشيء آخر سوى إفراغ المطالب المشروعة للمتظاهرين من مضامينها السياسية، وإبقائها في إطار معيشي اجتماعي وديني محافظ.
فإذا وضعنا جانبا إلغاء حالة الطوارئ، كون الجميع بما فيهم السلطة باتوا متوافقين على إلغائها، فان جل ما يطلبه البوطي وصحبه هو إلغاء منع النقاب وحرية إنشاء المعاهد الدينية والسماح بحرية العمل الدعوي ومحاربة الفساد.
أما مطالب من مثل الانتخابات الحرة وتحديد عدد الفترات الرئاسية وفصل السلطات، فإنه لا مكان لها في قاموس البوطي وصحبه، لأن فيها شبهة الديمقراطية وحكم الشعب لنفسه، في حين أن البوطي كان قد كتبها وقالها مرارا وتكرارا ‘إن حكم الشعب لنفسه مخالف لحكم الإسلام، لأن الحاكم في الشريعة الإسلامية هو الله’.
المضحك المبكي في ما يجري اليوم في الشام القديمة وفي الجامع الأموي تحديدا، أن فراسة البوطي في وجوه المصلين وحقيقة إيمانهم، لم تعد تفيد بشيء في فرز الناس بين الصالح والطالح، بعد أن راحت السلطة ترسل صباح كل يوم جمعة عشرات الباصات من قوى الأمن باللباس المدني لملء حرم الجامع الأموي عن بكرة أبيه برجالها من المصلين الأشاوس ذوي العصي الكهربائية والأيادي الغليظة. أما البوطي فإنه صار مطمئناً الى أنه لم يعد هناك أحد قادر على تخريب صلواته وخطبته، لأنه بات من جديد بين أهله وأحبابه!