في العبودية المختارة
في العبودية المختارة
توفيق حنا
كاتب وناقد مصري
أقدم هذا المقال الى شباب الثورة المصريه ثورة 25 يناير 2011 من شاب ثائر فى القرن السادس عشر فى فرنسا وهو الكاتب الفرنسى أتين دي لابويسيه (1530 – 1563) والكتاب من ترجمة عالم النفس المصرى الدكتور مصطفى صفوان (من علماء النفس فى فرنسا والمقيم فى باريس).
هذه رحله خاطفه فى هذا الكتاب الهام والجدير بالقراءه، وهو من تراث القرن السادس عشر فى فرنسا.
صدرت ترجمة هذا المقال عن الهيئه المصريه العامه للكتاب عام 1992.
وهذا الاختيار يستحق من القارئ العربى فى كل مكان كل الشكر والتقدير.. مؤلف هذا المقال عن "العبوديه المختاره" هو الكاتب الفرنسى صديق مونتى صاحب "المقالات" اتين دى لابويسيه.. ألفه عام 1548 وكان فى الثامنة عشر من عمره الذى انتهى سريعا عام 1563..
ولقد بذل الدكتور مصطفى صفوان جهدا صادقا مشكورا فى نقل هذا العمل الفريد الى اللغه العربيه.. مع دراسة جاده شامله للتعريف بهذا الكتاب .. وبالاضافه الى هذه الدراسه هذه الهوامش التى تفسر للقارئ كل مايساعده على فهم ملامح هذا القرن الغنى والمزدحم بأحداثه وثوراته.. القرن السادس عشر.. وفى السطور الاولى يقول مصطفى صفوان وهو يحدثنا عن القرن السادس عشر:
"كان القرن السادس عشر، وهو القرن الذى ولد فيه آتين دى لابويسيه، القرن الذى ظفرت فيه اوروبا فصارت الى ماهى عليه من الغلبه والرخاء.."
حتى يقول وهو يحدثنا عن هذا الاختراع العظيم الذى مهد لهذا الرخاء ولهذه الغلبه وهو اختراع الساعه.. " ان اختراع الساعه لم يغير فقط من العلاقات الاجتماعيه بين اعضاء الطبقات المختلفه واعضاء الطبقه الواحده.. بل ان المجتمع كله قد انتقل من زمن لم يكن ينفصل عن العباده ولم يكن الناس يتعرفون على مواقيته من شروق يعلنه صباح الديكه الى غروب يؤذن بالظلمه الا بقرع النواقيس فى اجراس الكنائس.. الى زمن يتم تقسيمه الى وحدات متساويه من خلال دقات الساعة المشيده فى الميادين العامه بامر الدوله.. مثل مملكة فرنسا حيث كانت الساعه المقامه على رصيف السين المعروف حتى اليوم برصيف الساعه تدق دقاتها المنتظمه منذ عام 1370م"
ويحدثنا المترجم عن حياة المؤلف:
"ولد لابويسيه بهذا القرن الذى بدأ ولما تنقضى بضعة اعوام على وصول كريستوفر كولومبس الى سواحل امريكا (1462م) وفاسكو دى جاما الى الهند (1498م).. ولد فى الاول من نوفمبر عام 1530م بمدينة سارلا الى الشرق من بوردو.. إلا أن أباه ادركه القدر وهو طفل فتولى امره عمه، وكان من رجال الكنيسه المتضلعين فى اللاهوت والآداب، فنشأ أتين دي لابويسيه الذى بدأت معالم ذكائه الخارق تتبين وهو لما يبلغ العاشره على تقديس "الانسانيات اليونانيه واللاتينيه. التحق بجامعة اورليان لدراسة القانون تأهبا للإشتغال بالقضاء".
ويقول المترجم:
"حصل لابويسيه على درجة الجامعه فى عام 23 سبتمبر عام 1553م وحصل من الملك هنرى الثانى على تصريح يبيح له شراء حق العمل قاضيا ببرلمان بوردو قبل بلوغ السن القانونيه (وهى الخامسه والعشرين) وبدأ ممارسة اعماله بها بعد الامتحان فى 17 مايو 1554م ، فلما جاء مونتى ليعمل هو ايضا قاضيا بهذه المحكمه عام 1557 انعقدت بين الرجلين الصداقه التى خلد مونتنى ذكرها فى مقالاته"
وعن الملك هنرى الثانى يقول المترجم:
"كان الملك فى هذا الوقت (ديسمبر 1560) طفلا فى العاشره وكان زمام الحكم بيد امه كاترين دى ميديسيس ، وكان هم هذه المرأه الايطاليه الاول هو الحيلوله دون انقلاب الصراع الدينى الى حرب اهليه تهدد النظام او الملك كله"
وقبل وفاته بعام واحد اى فى عام 1562 حين ظهر مرسوم 17 يناير 1562 القاضى بترك حرية العباده لأشياع كالفن (البروتستانت) دون اعتبارهم هراطقه، لم يتردد لابويسيه ان يكتب مذكرة شرح فيها النتائج المنحوسه التى تنجم عن المنازعات الدينيه وبين بنظر ثاقب –يقول المترجم- كيف يؤدى الردع الدموى لا الى القضاء على الاعداء بل الى تفاقم العداوه تفاقما يهدد البلاد بحرب اهليه تحرم الدولة من صفوة العقول"
وعن نهاية رحلة لابويسيه القصيره فى هذا العصر المضطرب المزدحم بكل الوان الصراع الدينى يحدثنا المترجم:
"وبعد ذلك نزل به مرض فطلب نقله الى ارض تملكها امرأته، ولكن الوهن ألجأه الى النزول عند صديق كانت تصله بمونتى اواصر المصاهره، على بضع كيلومترات من بوردو حيث كتب وصيته تاركا مكتبه لمونتى عنوانا على صداقته وفى 18 اغسطس لفظ نفسه الاخير ومونتى بجانبه"
ويحدد لنا المترجم فى مقدمته الشامله والهامه تاريخ نشر هذه الوثيقه الثوريه لعلها كانت الشراره الاولى للثوره الفرنسيه (1789م).. " لم يلبث مونتى ان نشر عام 1580م مع الطبعه الاولى لكتابه الخالد "المقالات" اعمال صديقه الادبيه وكانت قسمين: شعر نظمه فى مقتبل العمر وترجمات عن المؤرخ اليونانى كينوفون واخرى عن بلوتارك.. ولكن مونتنى لم ينشر اعمال صديقه النثريه" ويبرر مونتنى عدم نشر "مقال فى العبوديه المختاره" يقول:
"لقد عدلت عن انزال هذا العمل.. لأنى رأيته قد خرج الى الضوء قبل ذلك" ويقول مصطفى صفوان:
"الراجح ان لابويسيه كان قد قرأ "مقال فى العبوديه المختاره" على بعض اقرانه اورليان وان بعضهم نسخوه ومنهم من كان او صار من اتباع كالفن (البروتستانتى)"
وعن هذا المقال يقول مونتنى حتى يبعد عن صديقه تهمة معاداة الملكيه الكاثوليكيه والثورة عليها:
"كتبه على سبيل التمرين فى مطلع شبابه اشاده بالحريه فى وجه الطغيان"
ولكن من المحتمل ان هذا الشاب الثائر ضد الطغيان قد تأثر بهذه الثورات الشعبيه التى ازدحم بها تاريخ العصور الوسطى.. ويقول المترجم:
"وكان اهم هذه الثورات واشهرها الثوره التى وقعت فى المنطقه التى تقع فيها باريس.. وفى عام 1548م اى حين كان لابويسيه فى الثامنة عشرة من عمره اندلعت فى لاجوين (وهى الاقليم الذى نشأ فيه مؤلفنا وعمل قاضيا بعاصمته بوردو). ثورة اجتاحت جنوب فرنسا كله وبدأت بهذه الثورة صفحه جديده فى تاريخ ثورات الفلاحين باوروبا"
ويفسر لنا المترجم سبب قيام هذه الثوره التى من المحتمل ان تكون وراء كتابة هذا المقال المنشور:
"لم تكن ثوره الفلاحين على نبيل او عدد من النبلاء بل ثورة ضد الدوله، فقد فرض الملك فرنسوا الاول عام 1541م ضريبه على الملح وهى ضروره حيوية لحاجة الفلاحين اليه لتجفيف اللحوم تهيؤا للشتاء"
ثم يقول:
"فى عام 1548 لم يكتف الفلاحون بطرد الجباه الممقوتين بل تعقبوهم الى المدن حيث ديارهم ومراكز اعمالهم فحاصروا بعضها واستولوا على البعض الآخر حتى مدينة بوردو نفسها. وهناك اوقعوا الموت بكل من رأوه من الجباه او توهموا انه متهم"وانتصرت ثورة الفلاحين..
ويقول المترجم:
"وفعلا رفعت الضريبه فى سبتمبر 1549" ويقول مصطفى صفوان مؤكداً تأثر المؤلف بهذه الاحداث: "لاشك ان لابويسيه قد تابع هذه الاحداث وان هذه الظاهره قد استوقفته.. ولاشك اذن فى ان لابويسيه قد كتب العبوديه المختاره وهو فى الثامنة عشرة من عمره بعد ثورة الفلاحين".
واعود الى الاجابه على سؤال ذكرته سابقا متى ظهر "مقال فى العبوديه المختاره"
"مقالات مونتنى ظهرت لها طبعه جديده عام 1727 اشرف عليها بيركوست فادرج فيها اعمال لابويسيه النثريه "المقال فى العبوديه المختاره" فكانت هذه هى المره الاولى التى يظهر فيها هذا العمل مصحوبا باسم مؤلفه –بعد مائه واربعة وستين عاما من وفاته-"
ثم يقول المترجم الذى جاءت ترجمته الامينه بالاضافه الى هذه المقدمه الشامله مع هوامش الترجمه.. عملا باقيا واضافه بناءه للمكتبه العربيه.. يقول وكأنه يؤكد علاقة مقال لابويسيه بالثورة الفرنسيه "فى نهاية القرن الثامن عشر عاد المقال الى الظهور فى كتابات ومنشورات شتى وفى صور مختلفه.. مثال ذلك ان "اغلال العبوديه" الذى اخرجه مارا فى طبعه جديده بباريس عام 1792 بعد طبعته الاولى بلندن عام 1774 قد حوى صفحات متعدده بدت مستورده من "العبوديه المختاره" حتى ان البعض تحدث عن "السرقه الادبيه"
ويوضح لنا المترجم هدف لابويسيه من هذا المقال المنشور الذى كتبه وهو فى الثامنة عشرة من عمره:
"يشرح لابويسيه هدفه قائلا انه انما ينبغى ان يفهم كيف امكن ان نرى الملايين من البشر يحتملون احيانا طاغيه واحدا دون ان تحملهم على ذلك قوه اكبر بل هم فيما يبدو قد سحرهم واخذ بالبابهم مجرد الاسم الذى انفرد به البعض....."
ويتساءل المترجم على لسان صاحب المقال:
"لم كان الناس لايقفون فى مجال الحياه السياسية عند تكليف الحكام ومحاسبتهم وجزائهم بل يذهبون الى اخراجهم عن حدود الأخروية والمساواه؟"
ويتساءل المؤلف ان هناك احتمال ان يكون خضوع الملايين لا اختبارا بل خضوع للقوه.. ويرد على هذا الاحتمال فى حسم واضح:
"اى قوة والطاغيه واحد بينما محتملوه على كره بالملايين؟ أنقول انه الجبن؟ لقد يخشى اثنان واحدا ولقد يخشاه عشرة.. أما ألف مدينه! إن هى لم تنهض دفاعا عن نفسها فى وجه واحد فما هذا الجبن، لان الجبن لم يذهب الى هذا المدى كما ان الشجاعه لاتعنى ان يتسلق امرؤ وحده حصنا او ان يهاجم جيشا او يغزو مملكه. فأى مسخ من مسوخ الرذيله هذا الذى لايستحق حتى اسم الجبن ولايجد كلمه تكفى قبحه والذى تنكر الطبيعه صنعه وتأبى اللغه تسميته"
وتنتهى مقدمة المترجم المصرى (66 صفحه) بهذه الكلمات:
"ان مستقبل هذا البلد اذا كان لكلمة "المستقبل معنى مرهون فى المحل الاول بظهور طبقه من الناس لاعمل لهم سوى الفكر والكلمه ولاقضيه لهم الا التسامح الفكرى"
فى بداية مقاله عن العبوديه المختاره ( وكم كان المؤلف موفقا فى اختيار هذا العنوان لمقاله المنشور) يحدد لنا المؤلف اتين لابويسيه هدفه من عمله:
"لست ابغى شيئا الا ان افهم كيف امكن هذا العدد من الناس من البلدان من المدن من الامم ان يحتملوا احيانا طاغيا واحدا لايملك من السلطان الا ما اعطوه ولامن القدره على الاذى الا بقدر احتمال الاذى منه ولا كان يستطيع انزال الشر بهم لولا ايثارهم الصبر عليه بدل من مواجهته"
ثم يقول فيما يشبه الثورة ضد هذا النوع من الصبر والخضوع او الخنوع:
"انه لامر جلل حقا وان انتشر انتشارا ادعى الى الألم منه الى العجب ان نرى الملايين من البشر يخدمون فى بؤس وقد غلت اعناقهم دون ان ترغمهم على ذلك قوة اكبر.." ثم يقول وكأنه يحاول ان يجد سببا لهذا الذى يحدث فى الواقع..:
"ان ضعفنا نحن البشر كثيرا مايفرض علينا طاعة القوة ونحن محتاجون الى وضع الرجاء فى الارجاء مادمنا لانملك ان نكون الاقوى"
ويشتد سخطه وترتفع درجة ثورته ويتوجه الى السماء يسألها ان تلهمه الاجابه على تساؤلاته:
"ولكن ماهذا ياربى؟ كيف نسمى ذلك؟ اى تعس هذا؟ اى رذيله او بالاصدق اى رذيله تعسه؟ أن نرى عددا لاحصر له من الناس لا اقول يطيعون بل يخدمون، ولااقول يحكمون بل يستبد بهم، لا ملك لهم ولا اهل ولانساء ولا اطفال بل حياتهم نفسها ليست لهم! ان نراهم يحتملون السلب والنهب وضروب القسوة لامن جيش ولامن عسكر اجنبى.. بل من واحد لاهو هرقل ولاشمشون. (ولهذا اضيف الى عنوان "العبوديه المختاره" هذا العنوان الفرعى "ضد واحد"
والحل الذى يراه هذا الشاب الفرنسى الثائر الذى كان يدرس القانون فى جامعه اورليان.. الحل:
"الا يستكين البلد لاستعباده، ولا الامر يحتاج الى انتزاع شئ منه بل يكفى الامتناع عن عطائه.. كل ما يقتضيه الامر هو الامساك عما يجلب ضرره.."
ثم يقرر هذه الحقيقه الاجتماعيه وكأنه يصدر حكما:
"الشعوب اذن هى التى تترك القيود تكبلها او قل انها تكبل نفسها بانفسها، مادام خلاصها مرهونا بالكف عن خدمته..
الشعب هو الذى يقهر نفسه بنفسه.. هو الذى ملك الخيار بين الرق والعتق فترك الخلاص واخذ الغل"
هذا هو هدف لابويسيه من مقاله.. ويؤكد هدفه هذا بهذا التشبيه بالنار:
"ان الشراره تستفحل نارها وتعظم كلما وجدت حطبا زادت اشتعالا ثم تخبو وحدها دون ان نصب ماء عليها يكفى الا نلقى اليها بالحطب كأنها اذا عدمت تهلك نفسها وتمسى بلا قوة وليست نارا.. كذلك الطغاه.. ان امسكنا عن تموينهم ورجعنا عن طاعتهم صاروا، بلا حرب ولا ضرب، عرايا مكسورين، لاشبه لهم بشئ الا ان يكون فرعا عدمت جذوره الماء والغذاء فجف وذوى"
ثم يقول اخيرا لهذه الشعوب المقهوره:
"اعقدوا العزم الاتخدموا تصبحون احرارا فما اسألكم مصادمته او دفعه بل محض الامتناع عن مساندته فترونه كتمثال هائل سحبت قاعدته فهوى الى الارض بقوه وزنه وحدها وانكسر"
وكأن هذا الشاب الثائر شاعر او خطيب.. ويقول المترجم: "ان العبوديه المختاره نص حلق كاتبه فى آفاق البلاغه تحليقاً جعل سانت بيف لايرى فيه الا نموذجا لامعا لما يكتبه الطالب النابغ فى فصل البلاغه" ولكن ناقدنا الادبى الكبير توقف عند الشكل ولم يحاول ان يتجاوز الشكل الى المضمون والموضوع كما يقرر المترجم"
وما اصدق ملامح هذه البورتريه الذى يقدمه لنا المؤلف لشخصيته الطاغيه وهو يقترب من نهاية مقاله عن "العبوديه المختاره"!
"ان الطاغيه لايلقى الحب ابدا وهو يعرف الحب فالصداقه اسم قدسى وجوهر طاهر انها لاتعرف لها محلا الا بين الافاضل ولاتؤخذ الا بالتقدير المتبادل وليس باغداق النعم. فالصديق انما يأمن الى الصديق لما يعرفه من استقامه. ضمانته هى استقامته وصدق طويته وثباته. فلا مكان للصداقه حيث القسوه حيث الخيانه حيث الجود. فالاشرار اذا اجتمعوا تآمروا ولم يتزاملوا، لاحب يسود بينهم وانما الخشيه فما هم باصدقاء بل هم متواطئون"
وكم هو صادق وحصيف رد الثعلب على الاسد الذى اصطنع المرض:
"كنت ازورك طواعيه فى عرينك لولا انى ارى وحوشا كثيره تتجه اثارها قدما اليك وما ارى اثرا يعود"
قرأت الترجمه ووجدت كم كانت هذه الترجمه صادقه وأمينة وذلك بعد ان ارسل لى الصديق الدكتور مصطفى صفوان من باريس الاصل الفرنسى الصادر عن دار النشر "جاليمار" عام 1993 قدمته آنى براسولوف.
ولاانسى اللحظات الرائعه الثمينه التى قرأت فيها الترجمه ثم الاصل.. وهذه الكلمات تعبر عن تقديرى لهذا العمل الذى قدمه المترجم للمكتبه العربيه.