في أي عهد نحن؟ العهد المكّي أم المدني
قضايا في المْيدان
د.عدنان علي رضا النحوي
[email protected]
كثير من الناس يسألون هذا السؤال . وفريق يقول بهذا الرأي ,
وفريق يقول برأي آخر , ثم يحتدم الجدال , ويتطور إلى خلاف وشقاق .
إن هذه التسمية هي تسمية بشرية , وضعها العلماء والمسلمون
لتمييز ما نزل من القرآن الكريم في مكة المكرمة , وما نزل في المدينة المنورة ,
وسميت بعض السور مدنية وأخرى مكية . ومثل هذه التسمية في هذا الصدد لها ما يجيزها .
ومهما دار رأي حول السور القرآنية في هذا الصدد , فإن التقسيم يظل محصوراً في هذه
القضية , قضية مكان نزول السورة القرآنية وزمنها وموضوعاتها . ولا يعني هذا التقسيم
أن منهاج الله ودينه يفقدان التماسك والتناسق والترابط . فمنهاج الله , قرآناً وسنة
ولغة عربية , منهاج رباني واحد في تماسكه وتناسقه . فإذا كان لعلماء المسلمين
الأولين فضل في هذه التسمية وفي فائدتها , لتعين على فهم كتاب الله , فلا يجوز أن
نتوسع في هذه التسمية حتى نربط كل العصور بها , أو نربط واقعنا بها .
نحن اليوم في واقعنا هذا بكل خصائصه التي نراها وندرسها ونحللها
. نحن اليوم لسنا في العصر المكي , ولسنا في العصر المدني . نحن اليوم في أوائل
القرن الخامس عشر الهجري اعتباراً من تاريخ هجرة محمد r
خاتم النبيين والمرسلين . ولا يمنع هذا أن يكون بين بعض العصور القديمة والعصور
الحديثة بعض التشابه , ولكن هذا التشابه لا يعني أننا لسنا في عصر جديد . ومن أهم
معالم التشابه بين العصور سنن الله الماضية في الكون والحياة , سنن الله الثابتة
التي لا تتحول , سنن الله التي تقدم لنا آيات تزيد الإيمان واليقين , وعظات تقرع
القلوب والنفوس , وقواعد تساعد على التخطيط والنهج .
إننا اليوم في عصر جديد له معالمه الجديدة البارزة , ونحن في
واقع جديد له مشكلاته المتجددة وقضاياه وأساليبه , ووسائله المتجددة وأدواته
المستحدثة . وكل هذا يمضي على سنن لله ماضية , وقدر من الله غالب وحكمة بالغة .
ومنهاج الله , قرآناً وسنة ولغة عربية , منهاج رباني معجز ,
يصلح حقاً لجميع العصور والأجيال , ولجميع الشعوب والأقوام , ولكل واقع جديد
ومشكلات جديدة .
إن جوهر الأمانة التي حملها الإنسان هو ممارسة منهاج الله في
الواقع البشري المتجدد . وإن هذه الممارسة الإيمانية هي محور الابتلاء الذي كتبه
الله على بني آدم ليميز الخبيث من الطيب , وليمحِّص المؤمنين , ولتقوم الحجة على كل
إنسان , و على كل شعب , وعلى كل أمة , أو تقوم الحجة لهم . هكذا قضى الله سبحانه
وتعالى ولا راد لقضائه , على حكمة ربانية غالبة . فله الملك وله الأمر , سبحانه لا
إله إلا هو .
نحن اليوم مكلفون شرعاً أن نفهم منهاج الله فهماً يُغْنِيه
الإيمان , ونحن مكلفون أن نفهم واقعنا اليوم , واقعنا المعاصر , فهماً نابعاً من
إيماننا ومن رد الواقع إلى منهاج الله . ونحن مكلفون كذلك بممارسة منهاج في واقعنا
ممارسة إيمانية وعملاً صالحاً ، على أساس من صدق الإيمان وصدق العلم بمنهاج الله
وصدق العلم بالواقع الذي نعيشه . فنحن مكلفون إذن إن نضع الحلول لمشكلات عصرنا على
أساس ممّا عرضناه , عبادة لله وطاعة له . وحتى يُسهل الله علينا برحمته هذه الأمانة
العظيمة والمسؤولية الخطيرة , بعث لنا محمداً r
ليبلغنا منهاج الله , وليبينه لنا , وليقدم لنا النموذج الأعلى لممارسة منهاج الله
في الواقع البشري , وليكون هذا النموذج أسوة لنا مع مضي العصور والأجيال .
أرأيت المدرس كيف يُبيّن لِطُلاَّبه القانون والنظرية , ثم يقدم
مشكلة من المشكلات يضع لها حلها على أساس القانون الذي درَّسه , وليكون هذا المثل
وهذا الحل عاملاً مساعداً على تثبيت القانون في قلوب الطلاب . ثم تأتيهم المسائل
القضايا والمشكلات تباعاً ليقوموا هم بردها إلى القانون الذي درسوه , وليجدوا
بأنفسهم الحلول والإجابة .
إن رحمة الله بعباده أعظم بكثير من رحمة المدرس بطلابه . فبعث
الله النبيين والمرسلين على مر العصور , رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على
الله حجة بعد الرسل . وختم الله النبوة بمحمد r
, وختم الرسالة بالمنهاج الرباني ليكون مهيمناً على ما سبقه من الكتب المنزلة ,
وفصله تفصيلاً , ورعى النبوة وهي تبلِّغ وتبيِّن وتعلِّم , وهي تمارس منهاج الله في
الواقع البشري , فتَنَزَّل الوحي الكريم ليسدد ويوجـه ويقوم , ولتظل سيرة الرسول
r مثلاً للعصور كلها , وقدوة
للبشرية كلها .
ثم جاء الصحابة رضي الله عنهم فقدموا مثلاً في استمرار ممارسة
منهاج الله في واقع بشري جديد , وأمام مشكلات جديدة , فما وقفوا أمامها عاجزين ,
ولكن طبقوا منهاج الله ـ قرآناً وسنة ـ في واقعهم الجديد على النهج والسنة التي
تعلَّموها وتدرَّبوا عليها في مدرسة النبوة . وتظل ممارستهم ممارسة بشرية لمنهاج
رباني تحمل عبقرية النهج الذي تعلموه , وعظمة الإيمان وقوة العلم . وجاء أئمة
الإسلام على امتداد الزمن , الأئمة الصادقون الذين مارسوا منهاج الله كذلك في
واقعهم الجديد , ممارسة بشرية تحمل الإيمان الصادق , إن شاء الله , وقوة العلم
والتجربة , وتظل هذه الممارسات البشرية كلها تُرَدُّ إلى منهاج الله , فيستفاد مما
أصابت به هذه الممارسة البشرية , وهو خير كثير إن شاء الله .
ونحن اليوم مكلفون أن نمارس منهاج الله في واقعنا الجديد على
نفس النهج والسنة التي رسمها رسول الله r
, واتبعها صحابته الأبرار وأئمة المسلمين . ونحن مكلفون أن نستفيد من عبقرية تلك
الممارسة الإيمانية , ومن تجاربها وخبرتها , حتى تظل الممارسة الإيمانية نامية ,
وتظل التجربة غنية قوية , يحملها جيل عن جيل فلا يظل كل جيل يبدأ من نقطة الصفر .
وإننا نُخْضِعُ كل ممارسة إيمانية , وكل تجربة وخبرة , لميزان
واحد , هو منهاج الله , كما أمرنا الله ورسوله , نَعْبُد الله بذلك كله , ونسأله
العزيمة والقوة والسداد . وإننا نُنْزِلُ كل ممارسة إيمانية منزلتها العادلة
الأمينة التي ينزلها إليها منهاج الله .
نحن اليوم مكلَّفون أن ندرك حقيقة واقعنا من خلال منهاج الله .
فلا يكون موقعنا أن نقبل أو أن نرفض فحسب , ولكن مسؤوليتنا تمتد إلى إن نضع الحلول
لمشكلاتنا كلها , ولنقدم للبشرية كلها الصورة المشرقة لتطبيق منهاج الله في الواقع
, ولنقدم نحن معنى الحرية , معنى العدالة , ومعنى الأمن والسلام , والقوة والعزة ,
ومعنى حقوق الإنسان , ورعاية الطفولة والأمومة والأبوة , ورعاية العاجزين الضعفاء
والمساكين والفقراء , وقواعد السياسة الدولية , وعظمة الاقتصاد الإسلامي ، ونظريات
علم النفس وقوانينها , ونظريات التربية وعلم الاجتماع وعلم السكان وغير ذلك من
العلوم الإنسانية , والقواعد الفكرية والمنهجية . نحن الذين يجب أن نقدم الصورة
المثلى للأدب وكلمته على طهارتها وطبيعتها وغناها . نحـن الذين يجب أن نقدم معنى
الجمال في الحياة , معنى الحب , حتى لا يتحول هذا وذاك إلى جمال فتنة وفساد , وشهوة
وهوى , أو إلى حب رخيص مدنس بالفاحشة والفجور .
نحن الذين يجب عليهم أن يقدموا للعالم كله أعظم صورة للشورى ,
وأكرم منزلة للإنسان , وأوعى دور للشعب , وأطيب العلاقات وأكرم الوشائج .
نحن الذين يجب عليهم أن يقدموا للبشرية معاني الرحم والقربى ,
ووشائج الأسرة والبيت , ومنزلة الوالدين , ومنزلة المرأة في طهرها وعفافها , وطيب
حنانها , وعزة عطائها و وهي تساهم في بناء الأمة المسلمة .
هذه بعض مسؤولياتنا اليوم . ولكن هذه المسؤوليات هي مسؤوليات
أمة مسلمة واحدة , قائمة في الأرض صفاً واحداً كالبنيان المرصوص . فأين هي الأمة
المسلمة الواحدة التي تتحقق فيها الخصائص الربانية اليوم , والتي تخاطب العالم كله
من جميع منابره , لتُقَدِّم له دعوة الله ودينه , وتقدِّم له الحلول الصادقة
لمشكلاته الإنسانية في واقعنا المعاصر ؟.
لا يعقل أبداً أن يحمل لواء العدالة الجبابرة الظالمون , ولا أن
ينادي بالأمن والسلام القتلة المجـرمون , ولا أَن تنطلق الحرية والإخاء والمساواة
من ماسونية تعيش في زوايا العتمة والظـلام , ولا من الشيوعية أو الاشتراكية أو
الديمقراطية . إِنَّ جميع الشعارات البَرّاقة , من العدل والحرية والأمن وغيرها ,
الشعارات التي يحبها الناس , وحق لهم أن يُحبّوها , يجب أَن نقدمها باسم الإسلام
طاهرة وضيئة , صادقة غنية , مع صدق الممارسة وطهارة العمل , فقد أغنانا الله عن كل
تلك المسميات والألقاب . لماذا يقدم اليوم بعض المسلمين مبادئ الحرية للإنسان
وللشعوب باسم الديمقراطية وغيرها ؟! وهي حرية مشوهة متناقضة تغيب بين الجرائم
والشهوات والمخدرات ؟ لماذا لا نقدم للعالم مبادئ حرية الإنسان وحرية الشعوب ,
وسائر المبادئ التي ينادي بها الناس ويبحثون عنها , لماذا لا نقدمها نحن للعالم كله
نظرية وتطبيقاً , ونموذجاً عملياً باسم الإسلام ؟ ! .
نحن إذن أبناء عصرنا الحالي , نحن أبناء واقعنا المعاصر , وبين
أيدينا منهاج الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه , حق مطلق كله ,
يصلح لكل عصر ولكل جيل ولكل قوم , وبين أيدينا خبرة قرون وأجيال ونماذج من عمل
الرسل والأنبياء , والنموذج الأعلى المفصَّل بين أيدينا من سيرة النبوة الخاتمة ,
فنضع الحلول لمشكلاتنا نحن اليوم ونقدمها للعالم كله , من كل منابره , باسم الإسلام
.
إن العجز والتقصير فينا نحن البشر ، في مقدار ما نحمله من صفاء
الإيمان والتوحيد ، وصدق العلم بمنهاج الله ، ووعي للواقع من خلال منهاج الله ،
وليس في منهاج الله نفسه . إنه في مقدار ما نبني مواهبنا الإيمانية ونرعاها لتنطلق
فتعطي وتثمر .
أحياناً نحن نقتل مواهبنا في الأمة المسلمة ، بما يمزّقها من
عصبيات جاهلية ، ونفرق وشتات وصراع مصالح دنيوية وأهواء .
إن الأمة المسلمة الواحدة ، والصفّ المؤمن الواحد ، هو الذي
يطلق مواهب المؤمنين عبادة لله وطاعة له في جميع ميادين الحياة ، وهي تحمل رسالة
الله إلى البشرية كلها ، إلى الناس كافّة .