أسباب الثورات العربية
محمد مسعد ياقوت- باحث تربوي
أنا واحد من هؤلاء الملايين الذين احتشدوا في ميدان التحرير بالقاهرة، يطالبون بتنحية الفاسدين عن سدة الحُكم.. تذكرتُ في نفسي كلمة ابن خلدون: "الظلم مؤذنٌ بخراب العمران".. فما من طاغية تمكن في الناس إلا سامهم سوء العذاب، وأبدل أمنهم خوفًا، وأهلك الحرث والنسل.
ثم هو يحكمهم سنةً أو سنتين، أو عقدًا أو عقدين، ثم يكون عبرة وعظة، وقد خرجت الشعوب على من أهو أفسد من مبارك وأشد ظلمًا، فخرج الشعب الإيطالي على "موسوليني" الدكتاتور الفاشي، الذي شارك في إذهاق أرواح الملايين من البشر.. كان المشهد الأخير لموسوليني.. يصف الدكتاتور العنيد معلقًا من قدميه أمام الملايين من أبناء شعبه!
المشهد الأخير للطاغية يصف خمسةً من القادة الفاشيين - من بينهم موسلويني - في ساحة عامة في ميلانو، وقد علقهم الناسُ من الأرجل أمام محطة لتزويد الوقود. وجاءت الجماهير تسبهم وتشتمهم وتبصق عليهم وترميهم بالحجارة.
وصدق أديبنا المصري الراحل مصطفى لطفي المنفلوطي:
"وكذلك يفعل الظلم في نفوس المستضعفين"
ولقد تابعتُ عن كثب أيام غضبة الشعب المصري في ميادين ومدن مصر؛ في مشهد أعاد الزكريات إلى أيام الثورات الكبرى.
كان صوت الشعب يجلجل الميادين، ويقرع القلوب، في مشهد سكتت فيه الرموز، وتصاغرت فيه الرؤوس، وصمت فيه المتكلمون، وبات المحللون على وعيٍ تام أن الفساد الذي عاشته البلاد قد أتى أكله مُرًا وحنظلاً.
مشهد الجماهير وهي في الشوارع والميادين، وقد اتحدت كلمتها، وتوحدت مطالبها، في إسقاط رأس النظام الحاكم، يُشعرك أنه لا توجد قوةٌ على وجه الأرض تستطيع أن تقف أمامهم، ولو استطاع الحاكم أن يقتلهم بالطائرات أو يحاصرهم لفعل من دون تردد، ولكنه يعجز لسببين أساسيين:
الأول: أن بؤرة التظاهر كانت في عدة ميادين وفي عدة مدن ، فلو كانت تظاهرة ميدان التحرير هي التظاهرة الوحيدة لما تردد النظام الحاكم في حصارها أو قمعها .
الثاني: أن هذه الميادين كانت تحت الأضواء الإعلامية، وكانت وسائل إعلامية مختلفة تغطي أحداث الميدان دقيقة بدقيقة، رغم الحصار الإعلامي الذي فرضه النظام.. ولو نجح النظام في عملية التعتيم التي قام بها، لما تردد في ممارسة المزيد من أعمال البلطجة.
ولو سأل سائل - وهو ينظر إلى هذه الملايين المحتشدة – ما الذي جمع هؤلاء؟
وما هي القوة التي أتت بهذه الجموع من كل حدب وصوب من غير أرحام بينهم ومن غير زعيم شعبي ومن غير حزب وجههم؟
الإجابة:
إنه الظلم ..
هي كلمة السر في كل الثورات على مدار التاريخ ..
تلك الطبقية النكدة التي تمخضت سريعًا حينما يُغيّب الشرفاء، ويُقدَّم سواهم، ويكون مقياس التفاضل بين الناس بقدر ما يمتلكون من مال، وتكون مؤهلات الوزير أنه صاحب فندق، أو صاحب معرض سيارات...، ويكون مقياس الحكم على المواطن صالحًا أو طالحًا بمقدار ولاءه للسلطة، وسيره في الشارع من دون صخب ولا جلَبة - أقصد من دون تظاهر -؛ حينما يُدفع الأمرُ إلى غير أهله، ولا يجد الشاب المُجدُّ، ولا الباحث المبدع، ولا العامل الأمين مكانًا له في وطنه؛ فاتَّسع الْخرق على الراقع، واشتبه الأمر على المستبصر.
خاست بضائع الحزب الأوحد، وانزوى عن المشهد السياسي حسيرًا؛ وقد أُضرمت في مقاره النارُ؛ بيدِ شبابٍ اكْتَوَوْا بناره عقودًا!
حينما يسقط الورع، ويذهب التُقى، ويُدلسُ على الشعب، وتُسرق ثرواته، ويُضرب بالهراوات المستوردة بأمواله، ماذا تنظرُ منه من ردةٍ فعل؟
حينما تُجرح كرامة شعبٍ عريق، قهر الطغاة، وأذل الجبابرة، فتعمد إليه فتسلبه حقه في حياة كريمة، وتلبسه لباس الفاقة والمسْكنة، فيأكل رغيفَ العار من طابور الذل، ثم هو يرى وصلات الغاز موصلةً إلى عدوه، ومناجمَ ذهبٍ يسمع عنها الأساطير، وأراضي الدولة ملكًا للغرباء، ومؤسسات القطاع العام نَهْباً مُباحا
لكل ذي مال؛ ماذا تنظرُ منه من ردةٍ فعل؟
حينما تُزوّرُ إرادته، ويُسرق صوتُه، وينوب عنه من لا يمثله، ويكون نائبُ القومِ أرذلهم وأكثرهم فسادًا، وأشدهم تهافتًا على رشوة العالمين من أجل الوصول إلى كرسي البرلمان بأي ثمن، من أجل تأمين مصالحه الخاصة بقوة البرلمان، والتوسع في أنشطته المشبوهةِ تحت القبة البيضاء؛ وبعد ذلك ماذا تنظر من الشعب من ردةٍ فعل؟
يجب أن ندرك خطورة الطبقية التي يواجهها المجتمع ؛ وتلك الفوارق الاقتصادية الفاحشة التي لا تقوم على قواعد العدل والإنصاف، تلك الفوارق المولدة لضروب الحقد والبغضاء، وانتشار الكراهية بين الناس، وهي بطبيعة الحال تدفع الناسَ بقوة نحو الثورة ..
ينبغي كذلك أن نفهم الأسباب الموصلة للظلم الاجتماعي، بمعنى آخر تلك القوانين والدساتير المصنوعة على مقاس الحاكم، فهي قوانين تعبر عن هوى الحاكم، ولا تعبر عن إرادة الشعب، فالحاكم يبتكر قوانين تكرّث الاستبداد، وتكمم الأفواه، وتزاوج السلطة بالمال، والحد من تداول السلطة، وكل هذه الأفكار تقود الأمة نحو " الظلم "، ومن ثم شعور " الاحتقان " ثم "الانفجار والثورة " .. وهذا تراه في كل ثورة عبر التاريخ.