وانكحوا الأكْفاء.. وأنكِحوا إليهم
سحر المصري
طرابلس - لبنان
[email protected]
الزواج رحلة طويلة يختار فيها كل طرفٍ من الطرفين شريك حياته ليتقاسما العمر بحلوِه
ومرّه.. بلطفه وقساوته.. بأفراحه وأتراحه.. فإن لم يكونا قريبين من بعضهما البعض
فلن يستطيعا الاستمرار سوياً في نفس الطريق.. وهناك معايير كثيرة مهمة يجب أن
يتنبّه لها الشاب والفتاة حين يختاران من الأساس رفيق الدرب.. وطبعاً أهم هذه
المعايير هي الدِّين والخُلُق كما أوصى الحبيب عليه الصلاة والسلام.. وبعدها يأتي
مباشرة
من
وجهة نظري التكافؤ في عدّة نواحٍ.. التكافؤ الدّيني والثقافي والعلمي والاجتماعي
والعمري .. فهذا التكافؤ يوجِد مساحات كبيرة مشتركة بينهما في المستقبل ليتكيّفا
ويتعايشا مع بعضهما البعض.. وكلما كانا متكافئين على المستوى الثقافي والفكري كان
التقارب بينهما أكبر.. فإن كانا ينعمان بمستوى ثقافي وفكري عاليين فحينها يمكن أن
ترتقي لغة الحوار ويسهل الاتفاق حول التعاطي مع الأحداث وحل المشكلات وتجاوز
الخلافات.. كما أنه يؤثِّر إيجاباً على تقبّل الآخر ومراعاة حالاته النفسية ما يؤدي
بلا أدنى شك إلى مزيد من الاستقرار الزواجي.. وعادة ما يُلقي كل ذلك بظلاله على
الأولاد كذلك.. فينشأ جيلٌ مستقر نفسياً وواعٍ ومثقف بل لعله يكون جيل رواحل هذه
الأمّة إن كانت دعائمه الإيمانية قوية..
وفي
خضَمّ هذه الثورة التكنولوجية والمعلوماتية وفي عصر السرعة والعلم لم يعد مقبولاً
أن لا يتماشى الزوجان مع بعضهما البعض في طريق التعلّم والثقافة ليؤسسا معاً أسرة
جيّدة..
أما
إن كان المستوى الفكري للزوجين عادياً فحينها يستطيعان التفاهم على قدر مستواهما
حتى لو كانا بسيطين..
ولكن الخطورة على العلاقة الزوجية تكمن حين يكون أحد الزوجين ذا مستواً عال فكرياً
وثقافياً بينما يكون الآخر متواضع الثقافة..
فحينها تظهر الهوّة بين الطرفين.. وقد يلجأ الضعيف إلى إظهار تفوّقه على قرينه في
محاور أُخرى قد لا يكون يملكها فعلياً ما ينتج عنه صراع وانفصال روحي بين الزوجين
قد يؤدّي إلى نهاية الحياة بين الزوجين..
لا
شك أن الزوجة المثقّفة الواعية هي نعمة لِما لثقافتها وفكرها من تأثير إيجابي على
الأسرة ككل.. فالثقافة عادة ما توسِع المدارك وتنمّي القدرات على التصرف بفاعلية
وتجنّب التهوّر.. حيث أن الثقافة هي مجموعة من القِيَم والمعارف والخبرات والتجارب
المؤثِّرة على السلوك.. فإن ملكت الزوجة هذه المهارات ستكون منبع السعادة لزوجها إن
هي تواضعت له ولم تقم بالتنظير والتكبّر عليه.. كما أن الزوجة المثقفة قادرة على
تربية الأولاد بشكل أفضل وتنشئتهم تنشئة سليمة أدبياً وعلمياً وتحرص عليهم سلوكياً
وتتابعهم حتى يشتد عودهم ويكملوا مشوار تعليمهم ليصبحوا عناصر فاعلة في المجتمع..
وقد
أظهرت الدراسات أن الزوجة المثقفة تتفهّم المشاكل وتعمل على إيجاد حلول.. وكذلك
تتعامل مع المتغيّرات بشكل أفضل.. وتتأقلم بسهولة مع متطلبات الحياة الزوجية..
وتقدِّر مشاغل زوجها وأحواله.. وترتقي في الخطاب والحوار.. فهي إذاً
تلعب
دوراً كبيراً في التوافق الزواجي..
كثيراً ما نسمع أن الشاب الذي تخرّج من الجامعة حتى لو بدرجة دكتوراه يفتش عن زوجة
له تكون من ضمن مواصفاتها صغر السِن لأنه لا يريد مَن تناكفه في الحياة.. ويرغب
بصبية "يربّيها على يديه" كما يُقال ويُطبِّعها بطباعه وتُريحه.. فلا حوارات عميقة
ولا نقاشات فكرية مرهِقة ولا عناد ولا تعالي ولا تمرّد ولا سيطرة.. وإنما لطفٌ
وتواضع وخضوع! فلن ننكر أن هذه الفئة من الرجال وإن كانت على مستوى عال من الثقافة
والعلم تفضِّل الزوجة البسيطة المطيعة التي لا تناقش كثيراً ولا تتدخل في أمور
البيت.. ولا متطلبات لها سوى أساسيات الحياة التي يمكن أن يوفّرها لها بسهولة..
أليس الرجل الذي يهرب من الفتاة المثقّفة رجلاً ضعيفاً؟..أليس هروبه دليلاً على عدم
معرفته كيف يتصرّف مع الآخرين على مختلف طبائعهم وشخصياتهم؟.. أليست هذه نقطة
تُحسَب عليه؟.. لو كان واعياً بما فيه الكفاية ومُدرِكاً لأهمية الثقافة العالية
والفكر الواسع في استقرار البيت وراحة الزوج وتربية الأولاد ألم يكن أولى به ألا
يتردد لحظة في اختيار مَن تمتلك هذه المعطيات حرصاً على مملكته التي سيؤسِّسها مع
شريكة حياته.. علماً بأن الفئة الأُخرى الواثقة من نفسها موجودة فعلياً في
مجتمعاتنا ولو بدرجة أقل من الأُولى!
إنّ
أي اختلاف في مستوى التكافؤ بين الزوج والزوجة قد يُتغاضى عنه إن كان لصالح الزوج..
هكذا درجت العادة في مجتمعاتنا العربية.. لأن الزوج هو القوّام المسؤول عن بيته
صاحب القرار فيه..
أما
إن كان أقل من زوجته في مختلف المناحي فإن ذلك سيؤثّر في نظرتها له من جهة القِوامة
وقد لا تتقبّل سيادته على البيت والأسرة.. وستثور على قراراته وقد تسيء التصرف معه
إن قولاً أو فِعلاً..
فهي لا تجده الشخص القادر على تأمين متطلباتها نفسياً قبل أن يكون مادياً.. فإن
تعاطت الزوجة مع عدم تكافئ زوجها معها بهذا الشكل ولم تتعامل بسلاسة وذكاء فلا شك
أن الزوج سيستاء من هذا الأمر وسيعتبر عدم رضوخها له إهانة لرجولته.. ما قد يؤدي
إلى صراعات مقيتة أو حرب باردة وفي نهاية المطاف قد يصلان إلى الطلاق الفعليّ أو
الصامت..
ولذلك نرى العديد من النساء اللواتي يفقن أزواجهنّ فكرياً وثقافياً يقدمن تضحيات
وتنازلات كبيرة لمجاراة الواقع وللاستمرار في الزواج من دون مشاكل وخلافات مستمرة..
كل ذلك على حساب أعصابهنّ وربما قدرتهنّ على التحمل! وقد تنجح الزوجة في تكملة
الحياة مع الطرف الآخر ولكن دون أن تشعر بالسعادة والسكَن.. هذا إن لم يحصل تحجيم
لقدراتها وإساءات لشخصها كخطوة لفرض النفس من قِبَل الزوج.. وطبعاً هكذا زواج يكون
على شفا حفرة وهو آيل للانهيار في أية لحظة..
وبالعودة إلى كل الدراسات التي أُجرِيَت للتفتيش عن أسباب الطلاق نجد أن عدم
التكافؤ الثقافي والتعليمي هو من بين الأسباب الرئيسة الأولى للطلاق في مجتمعاتنا
العربية..
ومن
المُلاحَظ أن الفتيات المتعلِّمات حين يصلن إلى درجة عالية في المستوى الثقافي
والتعليمي لا يرضين الزواج بمن هم أدنى فكرياً وثقافياً.. وقد يكون هذا سبباً
رئيساً في ارتفاع نسبة "العنوسة" –مع تحفظي على اللفظ- بين المتعلِّمات.. وهو وإن
كان كذلك إلا أنه من الطبيعي أن تشترط الفتاة هذا التكافؤ لإدراكها لأهميته في
استقرار الحياة الأُسريّة.. وقد يكون السبب الآخر لزيادة نسبة اللواتي لم يتزوجن
حتى سن متأخرة هو إعراض الرجال من الأساس عن المرأة المثقفة خوفاً من مقوّماتها
الشخصية أو خشية الرفض!
قد
يكون هناك عدة أسباب تجعل الزوج ينفر من زوجته المثقفة ويتحاشاها،
وربما يهرب من البيت لكي لا يتعاطى معها.. ومن هذه الأسباب:
-
محاولتها فلسفة الأمور وإظهار عمق تفكيرها
-
إبداء رأيها في كل شيء وإطالة النقاش في كل أمر
-
تدخّلها في حالاته النفسية والمادية ومحاولة فرض نفسها
-
عدم
استعدادها لتقبّل أوامره دون إشراكها في اتّخاذ القرار
-
محاولتها التملّك والسيطرة
-
إنشغالها عن الأعباء المنزلية بالإجتماعات والندوات
-
نظرتها إلى القِوامة أنها سيادة وتسلّط فإن قبلتها فهي خاضعة خانعة
-
شعوره ربما بأن أنوثتها غير مكتملة بسبب قوة شخصيتها
-
إهمالها لزوجها نتيجة رغبتها في تطوير ذاتها وتحقيق طموحاتها
-
جدّيتها المفرطة وتعاليها عن الأحاديث البسيطة الشيّقة
-
حملها لهموم المجتمع وشعورها الدائم أنه يقع على عاتقها الإصلاح والتغيير
-
غرورها في بعض الأحيان
وعلى الرغم من كل هذه الأسباب التي تبدو للوهلة الأولى أنها غير واقعية ومجحفة في
حق المرأة المثقفة، إلا أنها أنّات رجال يعانون ويخشون من ثقافة وذكاء الزوجة.. ولو
نظروا إلى النصف الملآن من الكوب لأدركوا أنهم يتعاملون مع امرأة راقية فكرياً،
تستطيع أن تكون المربي لجيل واعٍ، والقلب الذي ينصت، والعقل الذي يحلِّل، والسند
الذي يرافق في المسير..! إلا أن بعض –أو ربما أغلب- الرجال لا يريدون أن يروا في
المرأة إلا "الأنثى"!
وفي
هذه الحالة يجب أن يستوعب الزوج ذكاء زوجته وثقافتها، ولا يسخر من طموحاتها، بل
يشجعها على تحقيق أهدافها.. ولكن حين تنقلب هي لمعاملته بنديّة وغرور فحينها لا بد
له من أخذ خطوة جريئة تجعلها تعي أنها في الأساس زوجة قبل أن تكون مثقفة.. وأن
عليها واجبات، ولعل أهمها احترام الزوج وقبول قوامته.. فإن هي وعت وامتثلت بالذوق
والحسنى والحوار فنعمّا به، وإلا فلا بد من الحزم، المغلّف بالهدوء، لتحجيم
سيطرتها، ولإعادة الأمور إلى نصابها..
ومن
الجيد أيضاً أن يُشعِرها بقوّة شخصيته وثقته بنفسه، وأنه قادرٌ على إدارة دفّة
الأسرة بثبات ووعي.. وأنه بشخصيته وثقافتها يتكاملان ولا يتناحران!
وفي
الحقيقة فإنّ الفهم الخاطئ للدِّين وللقِوامة والطاعة هو مَن يربّي في نفس الزوج
أنه القوّام الذي يجب أن يقرر كل شيء في البيت بعد إلغاء شخصية الزوجة التي عليها
الطاعة العمياء دون أي نقاش.. ويعطي لنفسه المبرّر "الشرعيّ" كونه ربّ الأسرة..
ولعله إن علِم معنى القِوامة يهتدي إلى أنها مسؤولية سلّمها الله جل وعلا له ليقوم
بواجب الرعاية والحماية والكفاية والولاية كما لخّصها السيد محمد رشيد رضا في كتابه
تفسير المنار حين فسّر كلمة القِوامة.. ولو فهم معنى الطاعة في الشرع لعلم أن
الزوجة ليست أمَة يحرّكها كيفما يشاء!
أما
الموروثات الأخطر فهي الموروثات الاجتماعية التي ينشأ عليها الرجل من أنه ذكر وهو
الأفضل! وأن بيدِه زمام أمور كل شيء في حين أن المرأة لا يجب أن تتعدّى حدودها عتبة
المطبخ أو غرفة النوم! أما إذا اشرأبت وقوِيت فهذا يُمكن أن يهدّد عرشه الذكوري
القياديّ!
وبذلك يبقى الرجل على نظرته السلبية للمرأة نتيجة العادات والتقاليد.. وغيرة من
الزوجة المثقفة، أو خوفاً من أن تتفوّق الزوجة عليه فتنتابها حالة من الكِبِر إن هي
تثقّفت وارتقت.. وإضافة إلى الموروثات لا يجب إغفال النماذج السيئة التي تعطي
انطباعاً بشعاً عن النساء المثقفات، وكذلك دور الإعلام الذي يصوِّر المرأة المثقّفة
قوية مستبدة صعبة المراس والانقياد، ما يُشعِر الرجل بأن كبرياءه مهدّد!..
أما
كيف يجب أن تتعاطى الزوجة المثقّفة مع زوجها متدني الثقافة أو الموازي لها في
الثقافة لتحقيق الانسجام وردم الهوّة.. فبكل احترام وحب.. لتستمر الحياة، وتتحقق
مقاصد الزواج الذي شرعه الله جل وعلا من مودة ورحمة وسكن.. فلا فائدة من التعالي
والتمرد والفوقية، لأن ذلك لا يورِث إلا الشقاق والنزاع.. ولتعُد الزوجة بذاكرتها
إلى بدايات حياتها الزوجية، فهي كانت بدون شك قد وجدت في زوجها ما دفعها للزواج
به.. فلتركّز على إيجابياته، ولتضخّم حسناته، فهو إن فَقَد الثقافة فلا بد أنه يحمل
في طيات نفسه خيراً كثيراً.. وستجد العوض في نوع آخر من التكافؤ، قد يكون اجتماعياً
أو اقتصادياً أو غير ذلك.. ولتُبقِ في وجدانها أنها باحترامها لزوجها وتقديرها له
تساهم بشكل كبير في استقرار البيت والأسرة، وتُبعد شبح الضغوط التي يمكن أن تؤثّر
سلباً على نفسيتها ونفسيّته، ما قد يؤدّي إلى اضطرابات جسميّة نفسيّة المنشأ.. أما
إن أشعرته بالدونيّة فسيثور عليها ويقلب الحياة جحيماً أو يهجرها إلى مأوى آخر يجد
فيه الراحة والطمأنينة والتقدير..
ويمكن للزوجة أن تكثر من التعاطي مع زوجها في الأمور التي يتقنها.. تجعله ينخرط في
مجتمع يرتقي فيه من خلال العلاقات.. كما يمكنها إشراك زوجها فيما تقرأ لمحاولة رفع
مخزونات الثقافة لديه، دون أن تُشعِره أنها تعمل على تحسين وضعه الثقافي، لئلا
تتحوّل العلاقة بينهما إلى صقيع وجمود قاتلَين..
وللأسف فإن هناك من الزوجات من تُسفِّه زوجها في المجتمع.. وهي حين تحقِّر زوجها
بهذه الطريقة أمام الملأ فإنها تدق مسماراً تلو الآخر في نعش زواجها.. وحين تتصرف
بهذه الطريقة فهي تنافي الثقافة التي تدّعيها، لأنها لو كانت مثقفة وواعية لاستطاعت
أن تدرك خطورة تسفيه الزوج، ولعرفت كيف تتصرف بشكل لائق أكثر.. وهي بهذا التصرف
أيضاً تكون قدوة سيئة لأولادها الذين سيدرجون على عدم احترام الأب أو الآخرين،
لأنهم رأوا صورة مقيتة من عدم احترام أمهم لأبيهم!
وفي
حقيقة الأمر يجب مواجهة هذه المرأة بواقع الحال وسؤالها: ما الذي دفعها للزواج به؟
إن كانت الفروقات الثقافية والفكرية بهذا القدر فما الذي دفعها ابتداءً إلى
الارتباط بمن هو أدنى منها ثقافة وفكراً؟! إن ما دفعها لهذا الزواج يجب أن يكون
كفيلاً بجعلها تحترم هذا الارتباط وتستمر فيه، وإلا فتفريق بإحسان!
ولتعلم هذه الزوجة أن الثقافة الحقيقية للمرأة هي ثقافة الخُلُق والدِّين والأدب..
فبذلك ترتقي مدارج السالكين وتبهر من حولها.. وأكبر دليل على ثقافتها سيكون
احترامها لمن حولها وتقبلها لهم، خاصة إن كانوا ممَن يزرعون السعادة في محيطها
وينتظرون ثمرها..