دماؤهم في عنق المخلوع
أ.د/
جابر قميحةلا يختلف اثنان في أننا في عهد مبارك المخلوع كنا نعيش عصر "الدولة البوليسية " ، التى كان للسلطة التنفيذية فيهالمقام الأول في كل السلطات بمصر" المخروسة " .
وكم من مواطنين عذبوا حتى الموت ، وبعد ذلك هناك متسع رجال الأمن في ادعاء أن السجين مات منتحرا . وهو في الواقع مات " منحورا " ، لا منتحرا . ومن الضحايا : كمال السنانيري ،ومسعد قطب ، والمهندس أكرم زهيري . أحد ناشطي الإخوان المسلمين بمدينة الإسكندرية، والمحامى عبد الحارث مدني ، . وغيرهم كثيرون .
***********
ويجب ألا ننسى الشهيد سليمان خاطر :
وسليمان محمد عبد الحميد خاطر من مواليد قرية أكياد في محافظة الشرقية بجمهورية مصر العربية ، وهو آخر خمسة أبناء في أسرة بسيطة أنجبت ولدين وبنتين قبل سليمان.
وفي طفولته رأىسليمان آثار قصف الصهاينة لمدرسة بحر البقر الابتدائية في 8 من ابريل سنة1970. بسلاح الجو الصهيوني مخلفا 30 شهيدا من الأطفال. و ربما كانت هذه المشاهد من أهم ما أثر في سليمان الذي كان
حينها طفلا في التاسعة من عمره . التحق سليمان مثل غيره بالخدمة العسكرية الإجبارية، وكان مجندا في وزارة الداخلية بقوات الأمن المركزي.
وفي آخر أيام خدمته في سيناء في يوم 5 أكتوبر عام 1985م وأثناء قيام سليمان خاطر بنوبة حراسته المعتادة بمنطقة رأس برقة أو رأس برجة بجنوب سيناء فوجئ بمجموعة من السياح الإسرائيليين يحاولون تسلق الهضبة التي تقع عليها نقطة حراسته ، فحاول منعهم وأخبرهم بالانجليزية أن هذه المنطقة ممنوع العبور فيها قائلا: stop no
passing إلا انهم لم يلتزموا بالتعليمات ، وواصلوا سيرهم بجوار نقطة الحراسة التي توجد بها أجهزة وأسلحة خاصة غير مسموح لأي إنسان الاطلاع عليها، فما كان منه إلا أن أطلق عليهم الرصاص ،وكانت الشمس قدغربت، وأصبح من الصعب عليه تحديد لماذا صعد هؤلاء الأجانب وعددهم 12 شخصا الهضبة.
محاكمة سليمان
سلم سليمان خاطر نفسه بعد الحادث ، وبدلا من أن يصدر قرار بمكافئته علي قيامه بعمله ، صدر قرار جمهوري مستغلا سلطاته بموجب قانون الطوارئ بتحويل الشاب إلي محاكمة عسكرية ، بدلا من أن يخضع على أكثر تقدير لمحاكمة مدنية ، كما هو الحال مع رجال الشرطة بنص الدستور.
مصر يا أمي
وفي رسالة من السجن كتب أنه عندما سأله أحد السجناء "بتفكر في إيه"؟
قال "أفكر في مصر أمي، أتصور أنها امرأة طيبة مثل أمي تتعب وتعمل مثلها، وأقولها يا أمي أنا واحد من أبنائك المخلصين ..من ترابك ..ودمي من نيلك.
وحين أبكي أتصورها تجلس بجانبي مثل أمي في البيت في كل أجازة تأخذ راسي
في صدرها الحنون، وتقولي ما تبكيش يا سليمان ، أنت فعلت كل ما كنت أنتظر منك يا بني". وفي المحكمة قال سليمان خاطر "أنا لا اخشي الموت ،ولا ارهبه ..انه قضاء الله وقدره " .
وعندما صدر الحكم بحبسه 25 عاما من الأشغال الشاقة المؤبدة قال ."إن هذا الحكم، هو حكم ضد مصر، لأن جنديا مصريا أدى واجبه" .. ثم التفت إلى الجنود الذين يحرسونه قائلا "روحوا واحرسوا سينا .. سليمان مش عايز حراسة لغز انتحاره
قال تقرير الطب الشرعي أنه انتحر، وقال أخوه "لقد ربيت أخي جيدا وأعرف مدي إيمانه وتدينه، إنه لا يمكن أن يكون قد شنق نفسه لقد قتلوه في سجنه. "
وقالت الصحف القومية المصرية : انتحر سليمان خاطر بأن شنق نفسه على نافذة ترتفع عن الأرض بثلاثة أمتار .
ويقول من شاهدوا الجثة : أنه كان بها أثار خنق بآلة تشبه السلك الرفيع علي الرقبة ، وكدمات علي الساق تشبه أثار جرجرة أو ضرب .
وقال البيان الرسمي : أن الانتحار تم بمشمع الفراش . ثم قالت مجلة المصور: أن الانتحار تم بملاءة السرير . وقال الطب الشرعي : أن الانتحار تم بقطعة قماش مما تستعمله الصاعقة.
وأمام كل ما قيل، تقدمت أسرته بطلب إعادة تشريح الجثة عن طريق لجنة مستقلة لمعرفة سبب الوفاة، وتم رفض الطلب . مما زاد الشكوك . وأصبح القتل مؤكدا.
***********
ومن حقنا أن نعيش دقائق مع ما صرح به الرئيس مبارك المخلوع في حديث طويل جدا لمجلة المصور المصرية بتاريخ السبت ، يناير 18 / 1 / 1986 : تناول فيه مأساة سليمان خاطر. نقتطف منه ما يأتي :
س : قلت سيادة الرئيس لقد انتحر سليمان خاطر برغم طيب معاملته داخل السجن لأن نفسيته الهشة وعمره الصغير وتجربته المحدودة لم تتحمل هذا الفارق الشاسع بين حقيقة ما جري في تل برجة ...الظروف والدوافع وراء الحادث ، وبين الصورة التي رسمتها له المعارضة .
ج : الرئيس : كنت أتمني حكم البراءة لسليمان خاطر كما كان يتمناها الآخرون. ولكن الذي حدث أن سليمان خاطر قتل أطفالا ونساء ، وأن المحكمة أدانت الحادث وأصدرت الحكم ، ولم نتدخل من قريب أو بعيد ، ولم تكن هناك ضغوط من أية جهة . ونحن لا نقبل ضغوطا من أية جهة ..
وعندما جرت محاكمته ... وكان لابد من محاكمته ، لأن الحادث وقع علي الأرض المصرية ، ولأن هناك ضحايا ، ولأن سيادة الدولة تعني سيادة قانونها ، ولأن عدم محاكمته يعني أن ندخل في عمليات انتقامية ، وأن نقدم المبرر لكي يفعل نفس الشيء جندي إسرائيلي في موقعه علي الجانب الآخر من الحدود .عندما جرت محاكمته سارعوا إلي التشهير الكاذب بأن هناك ضغطا علي مصر، وأن إسرائيل ربطت بين قضية طابا وضرورة محاكمة سليمان خاطر
س : سيادة الرئيس بودي أن اسأل ؟ بماذا تفسر موقف المعارضة من قضية انتحاره ؟، ماذا يريدون علي وجه التحديد من إحاطة حادث انتحاره بهذه الشكوك الكثيفة ؟ مرة يروجون أن أجهزة ؛ الموساد تمكنت من التسلل إلي زنزانته لتقتله انتقاما ، ومرة اخري يروجون أنه قد لقي مصرعه في السجن الحربي ، لأن الدولة تريد أن تتخلص منه .
ج : الرئيس : كان عليك أن تسألهم - هم - عن أسباب هذا التشكيك . إنني لا أجد وصفا مناسبا لمسلك المعارضة في هذه القضية سوي أنه سخف وضحك علي عقول البسطاء . وللأسف فإن ذلك يجري باسم الديمقراطية ، ولكنهم في واقع الامر يضربون الديمقرطية في مقتل ......
س :كان سليمان خاطر في بداية لقائي معه يري أن قضاء 25 عاما في السجن هو الموت ، لكنه في نهاية اللقاء وقبل أن يذهب الي لقاء أفراد أسرته كان لديه الأمل في أن يجد التماسه لتخفيف الحكم قبولا . لقد كان آخر ما سمعته منه أنه سوف يطلب إلي قائد السجن أن يسمح له بدخول كتب القانون حتي يستكمل دراسته .
والحق ياسيادة الرئيس أنه كان يعاني طوال الساعتين اللتين امضيتهما معه قلقا نفسيا عبرت عنه الصور التي نشرها المصور. كان يتقلب بين الشرود والحضور واليقظة والغياب والأمل واليأس . لكنني أشهد أن سليمان خاطر لقي أطيب معاملة داخل السجن.
ج : الرئيس : إن احسست أنني سوف أمتثل لأي ضغوط من أي نوع، وإذا كان امتثالي للضغوط أمرا مستحيلا ، والجميع يعرف ذلك ... فهل يمكن أن تكون المحكمة نفسها قد وقعت تحت ضغوط معينة ؟! هذا ما يردده بعض من صفوف المعارضة ، ولكنني أقول : إن شيئا من ذلك لم يحدث . ولو أني استشعرت ذلك لغيرت تشكيل المحكمة علي الفور. لكن ما أسهل ان نشكك في كل شيء ، وما أسهل أن نعبث بكل قيمة لأن المقصود فقط الإثارة والتهييج !
***********
والآن من حقنا أن نسأل القاريء أن يجيبنا في ضوء ما ذكرنا ، وفي جو هذا الحكم الاستبدادي البوليسي الغاشم : ما رأيك فيما حدث للذين ذكرناهم آنفا : هل انتحروا أم نُحِروا ؟ ولكن عليك يا مخلوع أن تضع نصب عينيك قوله تعالى " وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ " الشعراء (227) .
وقوله تعالى " فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ " الروم (57) .