البعث والحرية عودة إلى الأصول
رسالة إلى رفيق:
عز الدين بن حسين القوطالي
قد تكون المرحلة التاريخية الراهنة التي يمرّ بها الوطن العربي والعالم والإنقلاب الملحوظ في منظومة المفاهيم الفكرية والعقائدية خصوصا بعد إندلاع ثورة الجماهير العربية في تونس ومصر وتأثيرها على باقي الأقطار العربية مشرقا ومغربا في المدى القريب والبعيد أحد أهمّ الدوافع الى مراجعة شاملة لنظرية الحرية وتمثّلاتها على مستوى الواقع وتطبيقاتها لميدانية وأساليب تفعيلها من الناحية العمودية في إطار مجتمع التنظيمات والأحزاب السياسية العاملة ومن الناحية الأفقية ضمن إطار علاقة تلك الأحزاب والتنظيمات بسائر مكونات المجتمع المدني وعلاقة هذا كله بمفهوم السلطة والحكم والممارسة الديمقراطية .
وهذه الحاجة التاريخية للمراجعة الشاملة لنظرية الحرية تفقد بالضرورة قيمتها وجدواها وفاعليتها إذا لم تنطلق من الخاص لتستهدف العام بمعنى ممارسة النقد والنقد الذاتي كطريق لا بدّ منها للعبور الى فعل النقد وتحويل النظرية الى ممارسة يومية وفعل يومي بشكل يسهم بقدر كبير في خلق التوازن المطلوب بين لنظرية والممارسة والإنسجام الضروري بين الفكر والواقع والتماثل الحيّ والإيجابي بين إرادة الفعل وفعل الإرادة .
وعلى هذا الأساس كان لا بدّ من معالجة مواقع الخلل والقصور التي صاحبت الممارسة البعثية لنظرية الحرية ورصد الإنحرافات التي طرأت على جملة الأفكار والأطروحات العقائدية الحاضنة للحرية كمفهوم وممارسة في مدرسة البعث العربي الإشتراكي إنطلاقا من المعادلة العلمية التي أرسى قواعدها ووضع أسسها مؤسس البعث العربي الأستاذ أحمد ميشيل عفلق رحمه الله حينما قال : لا يمكن لحزب مريض أن ينجح في معالجة أمراض الأمة ...
فالحزب المريض في عقيدة البعث العربي الإشتراكي وتراثه النضالي القومي التقدمي ومنهاجه التنظيمي وأدبياته النظرية هو ذلك الحزب الذي لم يوفق في تجسيد الشعارات التي يرفعها على مستوى ذاتي داخلي قبل تحقيقها على المستوى الخارجي الموضوعي فنجده يرفع شعار الوحدة وهو لم يحقق بعد الحد الأدنى المطلوب من مقومات هذا الشعار بين أعضائه ومنخرطيه وأنصاره وقواعده .. ويرفع شعار الحرية في الوقت الذي يقمع فيه مجرد الرأي المخالف والتصور المخالف والطرح المخالف تحت ذريعة الإنضباط الحزبي والضرورات التنظيمية ... ويرفع شعار الإشتراكية والعدالة الإجتماعية ومصلحة الجماهير الكادحة ليبقى في نهاية المطاف أسيرا لعقلية بورجوازية صغيرة وقيادات بيروقراطية لا علاقة لها بآلام ومأسي الجماهير ومعاناة البروليتاريا الرثّة في المجتمع القائم .
ومثل هذا الحزب المريض لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتقدم قيد أنملة ويختطّ طريقه وفق السياقات الثورية السليمة وطبق ما تفرضه مصلحة الجماهير الشعبية الكادحة على إعتبار أنه حزب غير جدير بالإنتساب الى الفكرة الثورية في حدّ ذاتها ولهذا قال مؤسس البعث : ) إن الذي لا يصارع الواقع في داخل نفسه قبل أن يصارعه في المجتمع والذي لا تخلق منه الصفة القومية صورة مصغرة وسباقة لمجموع الأمة لا يكون جديرا بالإنتساب الى الفكرة العربية الثورية ( ….
وهكذا فإن نظرية الحرية التي تشكل العمود الفقري للتنظيم الحزبــــي في مرحلة النضال السلبي ) السرّي( والنضال الإيجابي ) العلني( تجد أساسها منذ البداية في سمتي الأخلاقية والنضالية وهما سمتان لا إنفصال ولا إنفصام بينهما ذلك أن الأخلاقية تصبح غير ذات معنى إذا لم تلتحم بعقلية نضالية تترجمها على مستوى الممارسة اليومية في العائلة والشارع والحزب والمجتمع والأمة كما أن النضالية تبقى بدون روح وتتجرد من مضمونها المبدئي إذا ما قطعت صلتها الحية بالأخلاقية كسلوك وأداء إجتماعي ومنظومة كاملة شاملة يتقاطع فيها السياسي بالديني والمادي بالروحي والنظري بالتطبيقي .
ومن خلال هذا الإنصهار بين سمتي الأخلاقية والنضالية تتولّد التركيبة النموذجية للجيل لعربي الجديد الذي طالما بشّرت به مدرسة البعث العربي الإشتراكي وقادتها المؤسسين .. ذلك الجيل الذي يستطيع تمثّل المستقبل وهو بعد يعيش الحاضر ويصارعه سعيا نحو تغييره وتحقيق النموذج – الفكرة في ذاته وذهنه وفعله المباشر أولا قبل تحقيق كلّ ذلك في الواقع المعاش والمجتمع القائم عبر معادلة جدلية يخوض فيها العقل البشري صراعا مريرا بين فكر جامد مستسلم للواقع وخاضع له وفكر حيّ خلاّق يحمل في مضامينه أبعادا مستقبلية ذات علاقة بجملة الأهداف والغايات السامية التي تشكل جوهر وجود الإنسان في حد ذاته ..
وهنا بالتحديد يصل الجدل الى أقصاه من خلال نفي الإلتقاء بين الواقع الموضوعي المستهدف بالتغيير وبين إنعكاساته على مستوى الفكر أي بنفي عقلية الإتكال والخنوع والجمود والإستسلام والخضوع للواقع السائد بدلا من تغييره والإنقلاب عليه .. وعبر هذه المعادلة بالذات يتنزل المعنى الحقيقي للحرية كما يراها البعث العربي الإشتراكي على إعتبار أن الحرية في نهاية المطاف هي نتاج لنضال الإنسان من أجل وحدة العالم الموضوعي مع العالم الذاتي وإرتقاء الموضوع لمستوى الذات أو إرتفاع الواقع الى مستوى العقل ولهذا قال الرفيق الدكتور منيف الرزاز رحمه الله إن : ) قدرة العقل على رفض الواقع القائم والعمل على تبديله بواقع أكثر عقلانية منه هو الذي يمثل المعنى الحقيقي للحرية (.
إن الحرية من خلال هذا الفهم ووفق هذا التصوّر هي جوهر التاريخ ومضمونه طالما كان التاريخ نفسه يتلخّص في تقدّم الإنسان وسعيه نحو الخلاص والإنعتاق إعتمادا على وعي الواقع وتناقضاته ووعي الضرورة المتمثلة في حتمية التغيير والعمل المباشر على إحداث التغيير وهذا بالتحديد ما يسمى بديالكتيك العقل والواقع كما عالجته العقيدة العربية الثورية قولا إن مهمة العقل البشري تختصر عمليا في فهم ما هو موجود وقائم وكائن ومستمر وما هو ممكن لتنفيد ما يعتبر ضروريا .
إن فهم الموجود وإدراك الممكن هما الشرطين الأساسيين الذين لا يمكن الحديث عن الحرية في ظلّ غيابهما كما أن وعي الذات من خلال القطع مع العوامل النفسية والذهنية الجاذبة الى الخلف والمتأثر بالواقع الموضوعي الفاسد هو السبيل الى تنفيذ ما يعتبر ضروريا في مسار التاريخ .
ومن هذا المنطلق كانت الحرية ولازالت مطلبا وغاية ووسيلة ولسوف تمضي عقود وعقود والإنسان يصارع من أجل حريته التي لا تهدى ولا تمنح وإنما تؤخذ غلابا وفي هذا السياق يتنزل قول الرفيق الدكتور إلياس فرح بأن الحرية هي : ) معركة دائمة من أجل تحقيق إنسانية الإنسان والإنسان يولد داخل هذه التجربة وعلى أرض هذه المعركة فهو معاناة دائمة الى حدّ يصحّ معه القول بأن لا إنسان بلا معاناة لتجربة الصراع الداخلي والخارجي من أجل الحرية ...( .
ولأنها كذلك كان من الضروري بالنسبة للمناضلين في هذه لمعركة أن يدكوا أن بلوغ الهدف الأمثل وللوصول الى الغاية الأسمى يقتضيان المرور حتما بطريق مليء بالأشواك والعراقيل والحواجز والتناقضات ناهيكم عن المغريات والمفسدات والمعيقات التي قد تؤثر في سلوك المناضل فتجعله يرضى بما تحقق وكأنه بلغ هدفه وهنا بالضبط يذوب النضال ويخفت وتذهب ريحه ويختفي المناضلون ليحل محلهم الإنتهازيون والبيروقراطيون وأصحاب المصالح والوصوليون وبذلك تضيع الحرية كمطلب وغاية بين أدراج المكاتب وتختفي في دهاليز الحكم ومؤسساته وتضحي مجرد كلمات إحتفالية تقال في المهرجانات الخطابية ويتوقف بالنتيجة ديالكتيك العقل والواقع ليفسح المجال واسعا أمام سلوكيات كانت الى وقت قريب تشكّل عوائق مركزية في طريق الحرية .
وبعد ؛ أليس هذا ما حدث ويحدث في بعض المنظمات الحزبية العاملة في الساحة العربية ؟؟؟ ألم يتوقف ديالكتيك العقل والواقع بوصول الحزب الى سدّة الحكم في سورية أولا وفي العراق ثانيا ؟؟؟ ألم تتسرّب عقلية التسلّط والفردية الى داخل الهياكل الحزبية ومنها الى علاقة الحزب بالمجتمع والدولة ؟؟؟ ثم وفي الأخير ألم تحلّ الدولة في كثير من الأحيان محلّ الحزب ويحلّ البيروقراطيون محلّ المناضلين الحزبيين الحقيقيين ؟؟؟
إن الإجابة عن كل ذلك تقتضي بالضرورة الرجوع الى تاريخنا الذي نتشرف به وبكل ما أحتواه من مكاسب وإنجازات وإنتصارات وإنكسارت ... الى المنابع الفكرية والعقائدية التي نادى بها البعث العربي الإشتراكي ... الى الأصول والبدايات ... الى ذلك الزخم النضالي العظيم الذي رواه مناضلوا البعث والرسالة الخالدة بدمائهم الطاهرة ومدّوا به الجسور نحو تحقيق أهداف الأمة في الوحدة والحرية والإشتراكية فالحكم والدولة والسلطة لم تكن يوما من الأيام غاية في حد ذاتها ولن تكون كذلك فغايتنا كبعثيين وأصحاب رسالة هي أعظم وأجلّ وأرقى من الدولة القطرية وطموحنا كجيل جديد أبعد من مجرد إنجاز مهمة التحرر الوطني والإستقلال الداخلي ليتعداها الى التحرر القومي وتحقيق الحرية للجميع في وطن الجميع وطننا العربي من محيطه الى خليجة من خلال دولة الوحدة الديمقراطية الإشتراكية .
ومن أجل هذا كله كانت الحرية كمفهوم وممارسة في حاجة مؤكدة الى المراجعة الدائمة والتذكير الدائم والنقد الدائم أيضا ؛ وكان من الحتمي تسليط النقد بصفة مباشرة على مواقع الخلل عبر تسمية الأشياء بمسمياها الحقيقية فلا نلطّف ولا نبرّر ولا ننافق على حساب المبادئ تحت أيّ عنوان كان وفي أيّ ظرف نكون . وبدون هذه المعادلة التي يفوز فيها النقد والنقد الذاتي بموقع الصدارة لن يكون لنضالنا أي معنى أو حتى مجرد هدف .
ولعلّنا لا نضيف جديدا إذا قلنا إن ما تقدّم هو جوهر البعث العربي الإشتراكي وعقيدته الثورية الأصيلة والأساس الصلب الذي بني عليه الحزب منذ نشأته الأولى حيث لم تمر مناسبة أو ذكرى ولم يتحقق إنتصار أو تفع هزيمة دون أن يذكر مؤسس الحزب الرفيق القائد أحمد ميشيل عفلق بهذه الحقيقية وينبه الى مضمونها ومعانيها وضرورتها ويدعو المناضلين على إمتداد الوطن لعربي الى عدم الحياد عنها أو التفريط فيها فنجده يردد جازما في أغلب الأحيان إن : ) الحزب الذي يضطلع بمهمة تاريخية لا يخاف أن ينقد نفسه وأن يرى أخطاءه لأنه يعرف أن هذا شرط أساسي من أجل أن يصحح سيره وأن يسرع في تحقيق أهدافه ليس كلّ الذنب على الآخيرن وليس كل التقصير من الآخرين يجب أن نعترف بقسطنا وأن نتحمل نصيبنا من الخطأ ...(.
فالنقد والنقد الذاتي هما والحالة تلك المدخل الرئيسي الذي تمر عبره الحرية كغاية بل إن الحرية ذاتها لن يكون لها معنى إذا لم تتجسد عمليا من خلال ممارسة النقد وتصويب الإعوجاج ووضع الإصبع على مواقع الداء وليس هناك فرد مهما علا شأنه أو تقدم مركزه أو إرتفع مقامه فوق النقد أو بمنئ عنه وليس بمقدرة كائن من كان أن يحد من حرية المناضل لحزبي أو يلتف حولها ليحوّلها الى ديكور وشكليات . كما أن المناضل الحزبي مطالب بالإستماتة في ممارسته حريته على مستوى التنظيم وفقا لما تقتضيه العقيدة والنظام الداخلي والتصدي لكل الإنحرافات ومظتهر التشويه التي قد تؤثر سلبا على الحرية كمطلب والحرية كغاية وهدف وذلك قبل أن يتفاقم الوضع ويتوالد التشويه ويعشش الإستبداد فيصل الى مرحلة متقدمة يصعب فيها التصويب والإصلاح .
ولقد أثبتت التجربة الحزبية الممتدة عبر تاريخ طويل أن غضّ الطرف عن خطأ ما أو سلوك إنحرافي ما من شأنه أن يساهم في تطور ذلك الخطأ والسلوك ليصبح ظاهرة مرضية خطيرة ومعدية يمكن أن تتسع وتتمطّط وهي تتدحرج ككرة الثلج لتجرف في طريقها كل القيم والمثل والمبادئ النبيلة التي نناضل من أجل وتحطّم الأسس التي بنينا عليها لبنة الحرية بعرقنا وجهدنا وتضحياتنا ودمائنا في أغلب الأحيان .
إن التنازل في مسألة الحرية أو التهاون في التعامل مع التجاوزات العرضية أو تأجيل الحسم فيها من خلال عدم إتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب وبأسلوب صارم يؤدي بالضرورة والفعل الى تنامي الظاهرة المرضية وتحولها الى تيار تسلطي تخريبي إستبدادي في المنظمة الحزبية كما حصل مع الطغمة الشباطية في سورية سنة 1966 ذلك أن تردد القيادة في إتخاذ قرار الحسم مع عقلية التكتل في وقت مبكر ومنذ اللحظات الأولى التي أكتشف فيها وجود ما سمي حينها باللجنة العسكرية قد أدى في النهاية الى توجيه الدبابات نحو الحزب وقيادته القومية والإستيلاء على الحكم تحت مسمياة شتى أهمها إدعاء اليسارية الذي أخفى بين جنباته عقلية إنتهازية وصولية جسّدها إنقلابيو 23 شباط وعلى رأسهم صلاح جديد وحافظ الأسد الذين جعلا من السلطة هدفا والحكم غاية مندفعين الى إخراس كل صوت نقدي بقوة السلاح مستعملين وسائل السلطة وأدواتها ترهيبا وترغيبا فكان الغرور والتعالي ورفض الحوار والإستهتا بالحرية هي أهمّ تجليات الردّة الشباطية التي إتخذت بعدا ديكتاتوريا يتناقض أصلا مع المضامين الثورية لفكرة البعث العربي وأهمها الحرية كسلوك يومي وممارسة ميدانية وغاية إستراتيجية كبرى من ضمن غايات الثورة العربية ورسالتها الخالدة .
وهنا يتبين بوضوح أن أهمّ عدوّ للحرية كمفهوم وغاية هو السلطة وأدواتها وتحوّل المناضل الحزبي االى حاكم مستبد تحت فعول الإغترار بالنصر وتحت نأثير مغريات النفوذ والجاه والحال أن المناضلين الحقيقيين لا يزيدهم النصر والوصول الى الحكم إلاّ تواضعا وتضميما على التقدم في سبيل تكريس المزيد من الحريات في المجتمع والدولة وجعل الحزب في موقع المراقب الدائم للإنحرافات والتشوهات التي تطال حرية المواطن وتنتقص منها ذلك أن مهمة الحزب في كل الأوقات والظروف هي التصدّي لكلّ تعدّ أو إنتقاص للحرية الإنسانية ولن يتحقق شيء من هذه المهمة إذا طغت سماة الدولة والسلطة على سمات الحزب والتنظيم فالإنتصارات كما يقول القائد المؤسس أحمد ميشيل عفلق رحمه الله : ) لا تسكر إلاّ الأفراد السطحيين المغرورين الدخيلين على الثورة والحزب لأن المناضلين الحقيقيين يزدادون تواضعا عند كل نصر يحققونه ويعرفون أنهم لن يكونوا سوى أداة لهذا النصر وأن الشعب هو المنتصر الحقيقي ... والحزب مفجر الثورات هو فوق الثورات وإذا أخطأت الثورات فالحزب موجود لكي يصحّح(.
وهكذا يتّضح أن نظرة البعث العربي الإشتراكي للحرية تتناقض كليا مع الفهم الهيغلي الذي يعتبر أن الدولة هي الحلّ لجميع التناقضات الإجتماعية بإعتبارها فوق تلك التناقضات والكلّي الوحيد المتعالي فوق جزئيات الصراع والمصالح الفردية ... والحقيقة أن الدولة كمؤسسة تقف بالضدّ تماما لمبدأ الحرية ذلك أنها عنوان أبدي للقهر والظلم والإستبداد خصوصا إذا كانت دولة قطرية أنشئت في ظل منطق التجزئة الإستعمارية .. ولهذا كان من الضروري بقاء المنظمة الحزبية في حالة إستنفار دائم حتى لو كانت السلطة بيد الحزب بإعتبار أن الدولة في مثل هذه الحالة سوف تكون مرحلة إنتقالية تمهد الطريق وتوفر المستلزمات الضرورية لصراع الجماهير العربية من أجل حريتها وتجسيد تلك الحرية في تحقيق الوحدة أولا والإشتراكية ثانيا .
ولو خير البعثيون بين الحفاظ على السلطة بطابعها الإستبدادي التسلطي القهري وجوهرها الإقليمي القطري وبين الحفاظ على الحزب بطابعه الثوري وجوهره القومي التقدمي الإنساني لأختاروا بدون تردد الحزب إنطلاقا من نفس القاعدة القائلة بأن الحزب هو صانع لثورات وملهمها ولا يمكن أن تحتويه السلطة أو تقوم مقامه لأن ذلك يعني حتما تحوّل الحزب في حد ذاته الى سلطة قهرية تتنافى مع الحرية كمبدأ والحرية كمعنى والحرية كقيمة سامية ... ولهذا رفع البعثيون منذ الردة الشباطية عام 1966 شعار الحزب أولا وهو الشعار الذي ترجمه الرفيق الدكتور قاسم سلاّم من خلال قوله : ) بوسعنا أن نفقد السلطة أما الذي لا يمكننا أن نضيعه البتّة فهو الحزب ...( .
تلك هي المنابع الفكرية والعقائدية الأصيلة للبعث العربي الإشتراكي كحركة تاريخية أسيء في أغلب الأحيان فهم مضامينها من طرف البعثيين أنفسهم في كلّ من سورية والعراق بإعتبارهما القطرين الذين تمكّن البعث من حكمهما والوصول الى موقع السلطة فيهما إذ مع الأسف الشديد حاد بعض البعثيين عن الطريق التي إختطها الحزب لنفسه عبر مؤتمراته القومية وعبر مسيرته النضالية الطويلة في سبيل الوحدة والحرية والإشتراكية ووقعوا تحت تأثير الحكم ومغرياته فأبتلعتهم السلطة وجعلتهم أدوات من أدواتها بدل أن تكون السلطة في حد ذاتها أداة لخدمة أهداف البعث ووسيلة لممارسة الحرية وتوفيرها للجماهير الشعبية بإعتبارها صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير .
وفي هذا الصدد كان لا بدّ من التذكير بجملة من المنطلقات النظرية التي أقرها الحزب عبر مؤتمراته القومية والتي تصب كلها في إطار توضيح المبادئ الأصيلة والعقيدة العربية الثورية الخلاقة كما أرادها البعث أن تكون بالفعل والقوة عبر تحديد العلاقة المفترضة بين الحزب والحكم في مرحلة النضال الإيجابي .
ومن هناك أقرّ المؤتمر القومي السادس ضرورة تميّز الحزب عن الدولة تميّزا كاملا وحذّر من إبتلاع السلطة للحزب وإنغماس الحزب في الشؤون اليومية المباشرة التفصيلية لأعمال أجهزة السلطة كما حذّر في الوقت ذاته من سقوط بعض العناصر الحزبية في إغراءات السلطة وما تحمله من مخاطر تدير الرأس وتدفع الى الإستعلاء على الجماهير .
وجاء المؤتمر القومي التاسع ليؤكد هذه الحقيقة ويعمقها من خلال الإشارة الواضحة الى وجوب التخلي عن الصيغة القديمة التي تتناقض مع ظروف المرحلة وحاجات الضال القومي ومع ظروف الحزب كما تشكل عائقا في وجه تفاعل الحزب مع المنظمات الجماهيرية والنقابية والسياسية الأخرى ) كصيغة الحزب الواحد والحزب القائد( . وبالإضافة الى ذلك أكدت مقررات المؤتمر القومي التاسع على نبذ الصيغة الستالينية في العمل الثوري والتي تقول بوجود حزب في السلطة وأحزاب ملحقة لأن في مثل هذه الصيغة تجاهل لطبيعة التركيب القومي للحزب زيادة على إنطوائها لتشويه منهجي للمعنى القومي الديمقراطي .
ثمّ تعمّق هذا التوجه المبدئي وإتضحت معالمه في المؤتمر القومي العاشر الذي دعى الى ضرورة التحديد الدقيق لموقف الحزب من الحكم في قطر ما عبر إيجاد نظرة توازن بين إستقلالية الحزب من جهة ومراعاة ظروف الحكم في ذلك القطر وحمايته من التآمر من جهة أخرى .
وهكذا يتبين أن مبدأ إستقلال الحزب عن الحكم والسلطة هو القاعدة الأساسية التي بنيت عليها نظرية الثورة العربية وأن تقاطع الحزب مع الدولة من شأنه وفقا لما سبق بيانه أن يشكل عقبة مهمة في طريق الحرية كغاية لنضالنا وكهدف لوجودنا وأن النضال من أجل الحرية في المنطلق والجوهر لا يمكن أن يتبوّءه العسكريون والمغامرون وأصحاب المطامع الذين لا تربطهم أهداف ولا تجمعهم عقيدة ذلك أن مثل هؤلاء سوف ينحرفون بمجرد تسلّم السلطة والحكم ويشيدون الحواجز بينهم وبين الجماهير مما يساهم في عزلتهم شعبيا وميدانيا وهو الأمر الذي يدفعهم بالنتيجة الى إتباع سياسة الهروب الى الأمام عبر إستعمال وسائل القهر والإرهاب والتسلط والدوس على كرامة الشعب .
فلا حرية إذن في ظلّ حكم العسكر والعسكريين ولا ديمقراطية في ظل الحكم الفردي التعسفي القائم على عبادة الأشخاص أو ديكتاتورية الحزب الواحد والتنظيم الواحد والقيادة الواحدة والرأي الواحد ؛ وهذه الحقيقة التاريخية هي التي إستقرّ عليها فكر البعث العربي الإشتراكي عبر قراءة نقدية لتجارب الحكم العسكري في بعض الأقطار العربية إذ جاء مثلا في النشرة الداخلية الصادرة عن قيادة الحزب في سورية سنة 1952 : )) لقد إنكشفت للشعب خدعة الإنقلاب وإغتصاب رجاله الحكم الشعبي وخيانتهم لأهدافه... إن كلّ تفكير لا يستند الى مبدأ أن الثورة الشعبية لا تتم من دون الشعب هو إنحراف خطير ...((. وجاء أيضا في بيان آخر صادر عن الحزب : )) إن ما تهدف إليه الدول الإستعمارية من وراء الحكومات العسكرية الديكتاتورية والرجعية التي تقيمها وتحميها مفوضياتها وشركاتها وشبكات تجسسها هو أن تطبق على البلاد العربية ما تعده من مشاريع إستعمارية إقتصادية وعسكرية ...(( . ونقرأ في نشرة حزبية صادرة عن قيادة قطر لبنان إن : )) الإنقلابات العسكرية في وطننا العربي تسيرها أيادي المستعمرين وهي ترمي من ورائها فرض الديكتاتوريات العسكرية وبالتالي إحكام الضغط والإرهاب والتنكيل بالعناصر المناضلة... إن الحكم العسكري معاكس لنهضة العرب القائمة على تثبيت أسس الحكم الشعبي الصحيح (( .
وإذا ما رجعنا الى مصادر هذا الموقف الثوري التقدمي من الإنقلابات العسكرية وحكم العسكر وتماهي الحزب في مؤسسات الدولة وذوبانه فيها فسوف تكون كلمة السرّ هي المصلحة الجماهيرية التي تشكل مبرر وجود الحزب نفسه كحركة تاريخية وسيلتها وغايتها الجماهير الشعبية العربية المستعبدة والمضطهدة والباحثة عن حريتها في أعمق وأجلّ وأرقى معانيها ذلك أن البعث كتنظيم وفكرة وعقيدة وجد منذ البداية لكي يجعل من الإنسان العربي هدفا للتغيير ووسيلة له في الوقت ذاته وطالما أنه كذلك فإنه لا تنازل ولا تفريط في الحرية كطريق حتمية لتحقيق إنسانية الإنسان .
وعلى هذا الأساس كان الموقف الحازم من سلطة الدولة كمؤسسة فوقية متعالية على الجماهير ومن إندماج الحزب في أجهزة الدولة وذوبانه فيها ومن تحول المناضلين الحزبيين الى مجرد خدم للدولة وأجهزتها بدلا من أن يكونوا خدما للأمة والشعب فحركة البعث كما قال الرفيق الدكتور منيف الرزاز رحمه الله : )) هي في الأساس إيمان بالإنسان العربي وإيمان بإمكاناته وإيمان بأن طريق البعث الحقيقي يمر حتما عبر بعث هذا الإنسان ...(( .
ومن هذا المنطلق فإن الإيمان بالإنسان كقيمة عليا هو جوهر الفهم البعثي للحرية على إعتبار أن تحقيق إنسانية الإنسان يمرّ بالضرورة عبر طريق واحد هو المشاركة الشعبية في صياغة القرار وصنعه وتنفيذه ومتابعته والإستفادة من نتائجه في نهاية المطاف ؛ ومثل هذه المشاركة الفاعلة والفعّالة للجماهير تشكل في الحقيقة ضمانة مهمة لإستمرار الثورة والفكر الثوري ناهيكم أنها توفر المناخ الملائم لتجسيد الحرية كهدف وغاية ومفهوم وتقف في الوقت ذاته سدّا منيعا أمام الإنحرافات والتشوّهات التي قد تطال حرية الشعب في ممارسة حقوقه كاملة بدون نقصان بشكل يدفع التنظيم الثوري الى مراجعة مسيرته بإستمرار ويعدّل وجوبا مسارها بإتجاه الإعتماد المباشر والكامل على الجماهير وعدم الإكتفاء بدور المشير والموجه والقائد لنضالاتها والإبتعاد عن النظرة الإستعلائية المتكبرة والمستهترة بقدرة الشعب وخبرته وإمكاناته الجبارة التي تجعل منه مدرسة للمناضلين عوضا عن أن يكون قطيعا يساق من طرف النخبة أو الطليعة .
إن إدامة العلاقة مع الجماهير الشعبية تعني حتما رفد الحزب والمناضلين دوما بعناصر جديدة ولا تزيد من إمكاناتهما المادية فحسب بل تكسبهما خبرة مضافة وتجعل الفكرة قادرة على مواكبة المتغيرات بل وأكثر من ذلك تجعل من الفكرة – والفكرة هنا هي فكرة الحرية طبعا – مستمدة من الجماهير نفسها بحيث أن الجماهير في مثل هذه الحالة تصبح ملزمة بالدفاع عن أفكارها وليس عن أفكار فوقية مفروضة عليها لم تشارك في صياغتها والتعبير عنها .
ولهذا كان الحزبيون الذين فقدوا إيمانهم بالشعب وحرموه حرياته الأساسية قد فقدوا بالضرورة إيمانهم بالحزب أيضا ومارسوا عليه دكتاتورية رهيبة بقوة السلاح كانت أشدّ من دكتاتوريتهم على الشعب نفسه كما حصل في حركة 23 شبّاط 1966 في سورية ومن أجل ذلك ولتفادي مثل هذه المنزلقات أكدت القيادة القومية للحزب في أكثر من مناسبة على ضرورة الإهتمام بحياة الجماهير الشعبية وتحقيق الديمقراطية الفعلية في صفوفها بإعتبار أن الخطّ الصحيح هو في الإعتماد على الشعب وتفجير طاقاته الكامنة وإستخدام عقول وذكاء المواطنين وإطلاق حرية العمل والمبادرة والإبداع والقبول بالرأي المخالف والنقد الموضوعي البناء إعتمادا على قاعدة العلاقة الجدلية القائمة بين التنظيم الحزبي الطلائعي والجماهير الشعبية والتي يمكن إستعراض سماتها الرئيسية من خلال القوانين النظرية التالية :
-1- إن علاقة التنظيم الحزبي بجماهير الشعب هي بالضرورة علاقة تفاعل وتلاحم وليست علاقة وصاية وتسلّط .
-2- إن التنظيم الحزبي هو جزء من الجماهير ولكي يكون ذلك الجزء فاعلا ومؤثرا وقدوة بالخصوص يجب أن يجسد الحرية والديمقراطية في داخله أولا وفي صلاته مع منظمات المجتمع المدني والأحزاب التقدمية والمؤسسات الجماهيرية ثانيا .
-3- إن الحزب كتنظيم ثوري تقدمي جماهيري يجب أن يعلم الجماهير ويتعلم منها وفي ذلك تجسيد مباشر لمعنى الحرية وممارستها على أرض الواقع والمناضل الحزبي مطالب والحالة تلك أن يكون في الوسط الذي يعمل فيه تلميذا ومعلما في الوقت ذاته .
-4- إن الحرية كمطلب حزبي وشعبي ووسيلة لتحقيق إنسانية الإنسان لا تتحقق عمليا وبصفة كاملة ومطلقة بمجرد وصول الحزب الى سدة الحكم في بلد ما ذلك أن الحرية تتجاوز في مضمونها ما يتسع له الحكم من مجالات لتحقيقها ولهذا يجب أن تظلّ المبادئ شاخصة والإحساس بإيقاع الحياة مستمرا والنضال من أجل الحرية متواصلا حتى في حالة وصول الحزب الى الحكم فليس هناك أخطر على الحرية كفكرة وتطبيق من إبتلاع مؤسسة الدولة للتنظيم الحزبي وتأثيرها فيه .
-5- إن الحرية الحقيقية تقوم على الحكم الشعبي المبني أساسا على قاعدة العمل من أجل خلق مجتمع منتج متحرر من قيود الإستغلال الطبقي إذ لا حرية بدون نضال مستميت ومتواصل ضدّ أشكال الإستغلال بأنواعه والإستبداد بألوانه وتجلياتهما الإقتصادية كما أنه لا حرية أيضا في ظل الإحتلال والإستعمار المباشر والإستيطاني وتمظهراته الميدانية .
ومن خلال ما تقدم وكترجمة لمضامينه جاءت حركة البعث لتؤكد على ضرورة الإقرار بالحقوق المطلقة للجماهير في نقد الحزب والإشراف عليه ومراقبة أعضائه لأن في ذلك ضمان لتجنب بروز ونمو الإتجاهات البورجوازية التسلطية والقمعية والإنتهازية الوصولية داخل التنظيم الشعبي وفي الوقت ذاته غربلة للمناضلين الحزبيين وعزل للعناصر الرجعية المتخفية والتي تشكل خطرا مستقبليا محتملا على الحرية كغاية ووسيلة .
ولن نتمكن كبعثيين وأصحاب رسالة من فعل ذلك إذا لم نؤمن منذ البداية بأن الثورة العربية هي من حيث الجوهر ثورة مثلثة الأضلاع قومية ديمقراطية إشتراكية تقتضي أول ما تقتضيه أن يشع التنظيم الحزبي على أعضائه ومنخرطيه فيرسخ في أذهانهم وسلوكياتهم وممارساتهم اليومية الفعل الحرّ الديمقراطي والتفاني في خدمة قضايا الأمة والتضحية بكل غال ونفيس من أجل مطالب الجماهير ذلك أن حزب الحرية بالنسبة لمدرسة البعث العربي لن يكون قادرا على حمل لواء التحرر ما لم يشعّ من خلال تنظيمه ومن العلاقات السائدة داخله ومن طريق تعامله مع القوى والمؤسسات الأخرى أعمق مظاهر الإيمان بالحرية والديمقراطية التي تخلق ثقافة نابضة بالقيم الجديدة تنتهي بدورها الى ممارسة أعظم للديمقراطية وهذا هو بالتحديد المفهوم الجدلي الذي أهدته الثورة العربية وإيديولوجيتها الجديدة لكلّ القوى الخيرة في الوطن العربي والعالم إذ كانت الحرية هي البداية والنهاية المنطلق والغاية لوجود الحزب وإستمراره وتقدّمه .
كما أن الإيمان العميق بالحرية كشرط جوهري لإنبعاث الأمة العربية يستلزم إطلاق جميع الطاقات الجماهيرية الكامنة تجددا وإبداعا وخلقا وإثراء والحرص الشديد على تحقيق التوازن والإنسجام والتفاعل الجدلي الثوري بين حرية الجماهير في إطار المصلحة القومية وبين حرية الفرد وتمثلاتها الإجتماعية والثقافية والفكرية داخل المجتمع وهذا ما يستوجب بالضرورة إلغاء كافة أشكال التسلط والإستبداد والإستغلال الطبقي وتصفية قواعد ورموز الرجعية والتخلف عبر نفي تمظهراتهما الإنتهازية والتسلقية والوصولية التي يمكن أن تتسرب الى الجهاز الحزبي فتعيق تقدمه وتشوّه نظرته الى الحرية كغاية وهدف ومطلب .
وبهذا المعنى فإن الفهم الثوري التقدمي للحرية يتجاوز المفاهيم التقليدية التي تجعل من الحرية رهينة لقالب مفاهيمي جاهز عفى عليه الزمن من حيث المدى والمضمون وهو ذاته القالب الذي إكتفى بالنظر الى الحرية من زاوية واحدة تحشر المعنى وتقتضبه في التحرر من القيود في حين أن للحرية معنى أشمل وأعمق وأكثر تعبيرا عن إنسانية الإنسان .
فالتحرر من قيود الإستبداد والتسلط والقهر والظلم لا يمكن أن يحقق الحرية التي نروم إليها ونعمل من أجلها ونناضل في سبيلها إذا لم يقترن فورا ومباشرة بتفجير طاقات الإبداع والخلق وتشجيع روح المبادرة وإعمال الرأي والقبول بالنقد والخضوع الى المحاسبة ... وفي ذلك تتحدد المعالم الجديدة للحرية كمفهوم وممارسة في حركة تصاعدية لا تهدأ أبدا ولا تتراجع مطلقا جارفة في طريقها جميع مظاهر الخلل التي تعتري العمل الحزبي والتنظيمي وتعيق سبيل التمثّل الحي للعقيدة العربية الثورية فتكون الحرية والحالة تلك هي معرفة الضرورة وتحقيق الضرورة بداية من المعرفة الفكرية والوضوح النظري مرورا بالمعرفة الأداتية أي سبيل تحقيق تلك الضرورة وصولا الى المعرفة الأدائية ممثلة في الحركة والنشاط الملتزم بفكر الحرية وفكر الضرورة .