تحية تقدير وإجلال لهيثم المالح
المطلوب إطلاق سراح سورية جملة وتفصيلا
الأستاذ هيثم المالح |
نبيل شبيب |
أطلق سراح هيثم المالح.. أطلق سراح قمّة سامقة من قمم المدافعين عن الإنسان وحقوق الإنسان وحريات الإنسان، ومنارة يعتزّ بوجوده في سورية كل من يعتزّ بسورية ويودّ أن تكون لها المكانة اللائقة بها على مستوى عالمي، فهو رمز من رموز الدفاع عن الإنسان، في سورية وفي كل مكان، وحصن من حصون الدفاع عن سورية وطنا وتاريخا وشعبا.. وهو الملقّب بشيخ الحقوقيين، البالغ ثمانين عاما من عمره.
لم تكن هذه المرة الأولى التي "يُسلب" فيها هيثم المالح بعض تلك الأعوام المعطاءة، بوضعه خلف القضبان ظلما وعدوانا. ولم تكن هذه المرة الأولى التي تشهد على شموخه، وقد تجلّى مجدّدا يوم إطلاق سراحه، عندما سئل ما إذا كان أعطى تعهّدا ما قبل إطلاق سراحه، فأكّد استحالة أن يصنع ذلك، وقال إنّه بلغ ثمانين عاما من العمر، لم يحنِ رأسه من قبل، ولا يمكن أن يحني راسه، ومن أراد إحناءه يمكن أن يكسره دون أن ينحني.
بل كان آخر ما طالب به قبل إطلاق سراحه بساعات في عريضةٍ وقّعها مع رفاق العزّة والكرامة داخل سجن عدرا، هو عينه أوّل ما كرّر المطالبة به فور وصوله إلى منزله في دمشق.. أن يتم إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين دون استثناء، مؤكّدا أنّ على السلطات السورية أن تغلق "ملف الاعتقال السياسي إلى الأبد، لأنّ المساجين هم أصحاب رأي، وليس لديهم أطروحات تدعو إلى العنف".. مضيفا: "وأعتقد أن كل إنسان له الحق في أن يعبر عن رأيه، وآمل من السلطات أن تفهم هذا الأمر".
وما زال يوجد وراء القضبان في سورية كثير من المعتقلين من رفاق هيثم المالح في درب الدفاع عن حقوق الإنسان والحريات الأساسية، من أمثال حبيب الصالح، ومصطفى جمعة، وعلي العبد الله، ومحمود باريش، وكمال اللبواني، ومحمد سعيد العمر، ومشعل التمو، وأنور البني، وخلف الجربوع، وسعدون شيخو، وإسماعيل عبدي، وكمال شيخو... وغيرهم كثير، ممّا جعل الحرية تستوطن السجون، و"التعدّدية" وراء القضبان.. فهؤلاء تتباين آراؤهم ووجهات نظرهم، إنّما يلتقون على المطالبة بتحرير سورية من الأوضاع الاستبدادية، وعلى مشروعية اختلاف الرأي، والتعايش على أساس ما يرونه مصلحة وطنية عليا.. على النقيض ممّن لا يرى ذلك ممّن يمتلك أسباب القوة الآنية لوضعهم خلف القضبان، وهم ممّن قضوا عقودا عديدة من أعمارهم على طريق العمل لتحرير الإنسان في سورية.. مثلما يوضع خلف القضبان أيضا من أهل سورية –ظلما وعدوانا- بعضُ من لا يزالون في مقتبل العمر، مثل طلّ الملوحي، الطالبة والمدوّنة التي لم تتجاوز العشرين من عمرها بعد.
هؤلاء المعتقلون السياسيون والمعتقلون لتكميم أفواههم وكسر أقلامهم، حجرا للحريات والحقوق، في البلدان العربية والإسلامية، بما فيها سورية، هم الأحرار في معتقل استبدادي كبير يشمل معظم الأرض العربية، ولا يمكن أن يسري عليهم وصف ارتكاب "جنح" أو "جرائم" أو "مخالفات جزائية" أو ما شابه ذلك من قبيل ما ورد على لسان وزير العدل السوري، أحمد حمود يونس، متحدّثا عمّا سمّي "قرار العفو" الصادر عن الرئيس السوري بشار الأسد يوم 7/3/2011م، أنّه "يأتي في إطار السياسة الاجتماعية الرامية إلى إعادة تأهيل وإصلاح من دفعته الظروف إلى الوقوع في خطأ يقع في دائرة المسؤولية الجزائية بهدف دفعه إلى جادة الصواب".
ربّما قصد الوزير من ارتكبوا جنحا وجرائم اعتيادية فعلا، فهم المستهدفون في الأصل بقرار العفو الرئاسي السنوي، إنّما كان عليه أن يتجنّب التعميم، استحياءً من أن يشمل كلامه، قامات حقوقية عملاقة، كهيثم المالح، الذي شمله "القرار الرئاسي" عبر فقرة استثنائية في نصه.
وكثيرا ما شمل الاحتفال بمناسبة الانقلاب الذي أوصل البعث إلى السلطة، فانفرد بها، وصنع من خلالها ما صنع لعدة عقود.. كثيرا ما شمل الاحتفال إصدار "مرسوم رئاسي" بالعفو عن فئة من السجناء ممّن صدرت في حقهم أحكام قضائية بالسجن على جنح أو جرائم ارتكبوها، أمّا من يُطلق سراحهم من "المعتقلين" السياسيين ومعتقلي الرأي جورا وعدوانا، بمرسوم ودون مرسوم، فلا يكاد يصل عددهم سنويا ما يعادل مَن يجري اعتقالهم خلال السنة ذاتها.
إن قضية مصادرة الأحرار وقضية الإصلاح الجذري المفروض في سورية لا يمكن أن تجد حلّها عن طريق "مراسيم رئاسية"، سواء اعتُبر ذلك جزءا من إجراءات استباقية لغضب شعبي أو لم يعتبر، بل إنّ كلمة "العفو" تقلب الحقائق رأسا على عقب.
إنّ الذي ينبغي أن يطلب العفو من الشعب، ومن القضاء النزيه العادل، ومن سلطة منتخبة انتخابا حرا على أساس دستور قويم، هو كلّ من ارتكب خطيئة الاستبداد بحق الشعب، ووظف القضاء لترسيخ استبداده، وحرم الشعب من التعبير الحقيقي عن إرادته، ومن دستور قويم يطمئن إليه.. بدلا من سلبه أمنه واطمئنانه وحرياته من خلال الحكم بحالة الطوارئ لعدّة عقود.
لم ينقطع مسلسل الاعتقالات في سورية طوال 48 سنة مضت على وصول حزب البعث إلى السلطة بانقلاب عسكري.. وكم من مواليد سورية خلال تلك الفترة مَن لم تحجبه المعتقلات، ولكن تحجبه منذ مولده قضبان "حالة الطوارئ" المزمنة عن الإحساس بمعنى الحرية في سورية، منذ الانقلاب الذي يُحتفل به سنويا.
أمّا المعتقلون الأحرار فلا يحتاجون إلى "إعادة تأهيل" –سواء قصدهم وزير العدل بما قال أم لم يقصدهم- فما يصنعون من أجل سورية ومن أجل الإنسان في سورية يؤهّلهم هم لتأهيل سواهم ليستوعب ما تعنيه الوطنية ويعنيه الإخلاص للوطن وشعبه وحاضره ومستقبله.. إنّما يحتاج إلى إعادة التأهيل السياسي والحقوقي والوطني والاجتماعي، أولئك الذين يستبيحون لأنفسهم مصادرة الحريات، والاعتقالات العشوائية، والأحكام العسكرية، فرجوعهم عن ذلك هو البوابة الأولى للدخول مجدّدا في الحاضنة الوطنية، التي يُفترض أن تتسع للرأي والرأي المخالف.. إنّما لا يمكن أن تكون مستقرّا لِمن لا يستطيع تقبّل الرأي المخالف أصلا، ناهيك عمّن يستغل سلطته لاغتيال لسان من يخالفه وقلمه والقليل أو الكثير من سنوات من عمره.
إنّ دخول بوابة الحاضنة الوطنية في سورية بالتخلّي عن المساس بسيادة الوطن ومصالحه، وعن المخاطرة بحاضره ومستقبله، وعن انتهاك كرامة أبنائه وحقوقهم، أصبح اليوم أشدّ إلحاحا أكثر من أي وقت مضى، وهذا ممّا تشهد عليه، وتنذر به، نسماتُ الحرية التي أودت بصروح الاستبداد في تونس ومصر، وتوشك أن تودي بها أيضا في ليبيا.. وسواها.