تأملات في مجرى الرياح وما تشتهيه السفن
كامل المحمود
من ضمن ما أعجبني كثيرا ماورد عن مفهوم الديمقراطية ..
من تأريخنا وتراثنا العظيم :
(كان بين عمر بن الخطاب ورجل كلامٌ في شيء، فقال له الرجل: اتَّقِ الله يا أمير المؤمنين! فقال له رجل من القوم: أتقولُ لأمير المؤمنين اتّقِ الله؟ فقال عمر: دَعْهُ فلْيَقُلها لي! نِعْمَ ما قال؛ لا خير فيكم إذا لم تقولوها لنا، ولا خير فينا إذا لم نقبلْها منكم)
ومن الأدب العالمي :
(انني اختلف معك في كل كلمة تقولها لكنني سأدافع حتى الموت عن حقك في ان تقول ما تريد / فولتير)
ومن تأريخ نضال الشعوب:
(في إحدى رواياته، يروي ميلان كونديرا بالتّفصيل هذه الحكاية الّتي وقعت في نهاية خريف براغ سنة 1968، عندما اجتاح السّوفييت تشيكوسلوفاكيا. يصف كونديرا امرأة عجوزا في الطّريق، بين الدّبّابات الرّوسيّة الدّاخلة الى المدينة. تتّجه المرأة العجوز نحو حقلها لتتأكّد من أنّ أجّاصها قد نضج، دون حتّى أن تلقي نظرة على الدّبّابات الرّوسيّة. هل كان على المرأة العجوز أن تقاوم بدلا من أن تجمع أجّاصها؟ لا يجيب كونديرا على السّؤال. ولكن مهما يكن، فانّ جماعة سياسيّة تجبر أعضاءها على مقاومة الاضطهاد أو حتّى على جمع الأجّاص ليست ديمقراطيّة. فالدّيمقراطيّة هي النّظام الوحيد الّذي تستطيع فيه العجائز أن تختار بحرّيّة أن تجمع أجّاصهنّ أو تنخرط في المقاومة. الى حدّ ما ليس عدم المشاركة بأقلّ جدارة بالاحترام من المشاركة. لأنّ حرّيّة المشاركة أو عدمها في الدّيمقراطيات التّمثيليّة متروكة للمواطن).
في براغ وفي مصر والعراق وموسكو وشيكاغو وربما في كل مكان.. كنا نلمس دائما انتصار ساحق لسلطة المال والنّزعة الفرديّة. وكنّا وعلى مايبدو لازلنا كما يقول المؤرّخ فرانسوا فيراي: (مكرهين على العيش، في العالم الذي نعيش فيه ، مكرهين على أن نكفّ عن الحلم بـ « الغد الشّادي ». وإن بقينا في ضلالة ناجمة عن البؤس المستمرّ) .
ونتذكر كيف تورّط الاتّحاد السّوفييتي في جمود لا نهاية له سياسيّا وثقافيّا وإيديولوجيّا تشهد عليه سنة 1968 عندما سحق (خريف براغ) وسحق الأمل في (اشتراكيّة ذات وجه إنسانيّ)..في وقت نجحت الولايات المتّحدة من خلال معاركها على كافّة الجبهات في فرض نظام اقتصاديّ تسهر عليه المؤسّسات الماليّة العالميّة، وفي إزالة الثّقة في (النّموذج الاشتراكيّ )، وفي استنزاف الاتّحاد السّوفييتيّ في حروب مريبة أو في سباق التّسلّح، وفي تأمين مساعدة النّخب الجديدة الّتي أفرزها النّضال المعادي للاستعمار.
ولعل تعبير جون بول سارتر عن جوهر حقبة زمنية ماضية ولكنها تبدو وكانها تتكرر اليوم.. ففي توطئته الشّهيرة سنة 1961 لكتاب فرانتز فانون المعذّبون في الأرض، كتب أنّ عنف المستعمَر : ( ليس زوبعة عبثيّة ولا انبعاثا لغرائز متوحّشة ولا حتّى نتيجة للحقد: إنّه الإنسان نفسه وهو يتشكّل من جديد. (…) يتعافى المستعمَر من العصاب الاستعماريّ حين يرمي المحتلّ بالنّار ).
ويضيف الفيلسوف أنّ ( طفل العنف ) هذا ( يستقي من العنف في كلّ لحظة إنسانيته: فلقد كنّا نحن بشرا على حسابه وها هو يكون إنسانا على حسابنا. إنسانا آخر، من أفضل طينة ).
لقد حذّر الكثيرون من خطر مصادرة الثّورة، وشهّروا بأولئك الّذين يحملون فوق بشرتهم السّمراء قناعا أبيض. إلا إن الواقع قد تجاوز بكثير أسوأ كوابيسه المخيفة المفترضة .. ويروي لنا التاريخ البعيد والقريب كيف إن النّخب الّتي ولدت فعلا من معاناة الشعب وأعلنت انتماءها إلى الشعب الكادح والمكافح والتي نشأت من ( رحم المعاناة والحرمان والإضطهاد والتخلف والقهر) وربما حسب إدعاءات البعض منهم من إنتمائهم الى (الاشتراكيّة العلميّة)، كانوا قد اصطفّوا ثانية دون ضمير إلى جانب النّظام اللّيبراليّ والرّأسماليّ..
وحوّلوا الحلم الى كابوس..
وجَرَت رياحهم بما لاتشتهي سفن الشعب المحروم ..
واليوم يصطف أشباههم ومن يحالفهم في اماكن عديدة وملابس متنوعة وتحت اغطية مختلفة وعباءات ملونة مع المحتل والمستعمر ( والديكتاتوري ) والفاسد والقاتل والسارق والمزور والحاقد وتشكّلت في كلّ مكان طبقات جديدة جشعة بقدر جشع المستوطنين والإستعماريين والإمبرياليين والدكتاتوريين وأحيانا أكثر بكثير.
وتطور مع الزمن انعدام الثّقة في هذه (الديمقراطيات) ومنها (الدّيمقراطيّة البرجوازيّة) و (ديمقراطية الشعب) و(ديمقراطية الأقلية) وغيرها..
وإنعدمت الثقة حتى في الثورات التي صنعت هذه الديمقراطيات وفي شعاراتها البراقة التي لهث وراءها الشعب الطامح والمتلهف إلى ديمقراطيّة تعطيه خبزا وأمنا وأمانا ومستقبلا مضمونا ..
هذه الديمقراطيات التي لم يكن لها من صفة الشّعبيّة أو (تحقيق مطالب الناس المضطهدة والمسحوقة) غير الاسم وكان من أهم نتائجها ولعله الوحيد الذي تميزت به هو الطّابع الاستبداديّ المؤكّد فأصبحت غطاءا وتشريعا للتفرد والديكتاتورية والتسلط والنهب ..
ولأن هذه الديمقراطيات ولدت تحت شعارات ( التحرير ) و( التحديث) و(النهج الجديد في حكم الشعب) وحققت نصرا كاذبا ساهم بشكل كبير بشرعنة التفرد والإقتصاص من الأعداء والحلفاء للتوجه الى إسكات أيّ صوت مختلف حتى ولو جاء من ساحة أو ميدان عام ..
لقد تعلم المحسوبين على مفهوم (النضال) كيف تتحقق النزوات بفعل سلطة المال والمنصب والركض وراء المصالح والصغائر وكيف أن كل نقد هو بمثابة خيانة ..
مرة بتهمة عدم الإيمان ..ومرة الإصطفاف مع اعداء الثورة.. ومرة بتهمة تحريف مسارها وعرقلة برامجها لتصل في النهاية الى (خدمة الذين لايؤمنون بمساراتها)..
وإعتنق هؤلاء فكرة ان لا يتفهموا إنه إذا كانت حقوق الإنسان تقوم على أســاس أخلاقي وهي واجبة الوفـــاء فأنه لا بد أن يتمتع جميع البشر ومنهم كل مواطن بهذه الحقوق و على قـدم المساواة بدون تفرقة بين عدو وصديق وبدون تهميش وإقصاء..
وفجاة وبلا مقدمات أصبح محمد بوعزيزي حين أقدم على احراق نفسه في تونس رمزا للطغاة قبل المظلومين.. يتغنون بتضحياته ..ويتوعدون بإصلاح كبير وشامل!..
وأصبح بو عزيزي شهيدا في عيون الدكتاتوريات المتشبثة بالسلطة قبل الشعوب المسحوقة التي تستلهم من شهادته طريق الحرية .
وعندما تعالت أمواج المد الشعبي ورياح التغيير ووصلت الى كل البلدان تدافع الحكام لتقديم التنازلات الترقيعية ..
ونختم بما رواه المؤرخون عن السيدة نفيسة بنت الحسن رحمها الله، ورضي عنها التي قادت ثورة جموع العامة من الناس ضد أحمد بن طولون عندما استغاث الناس بها من ظلمه .
قيل : إنها خرجت بعدما علمت بمرور موكب ابن طولون؛ فاعترضت طريقه وفي يدها رقعة تلوّح بها له . وحين رآها عرفها؛ فنزل عن فرسه احتراما لها، وأخذ كتابها الذي جاء فيه :
( يا أحمد بن طولون ملكتم فأسرتم، وقَدرتم فقهرتم، وخُوِّلتم ففسقتم، ورُدت إليكم الأرزاق فقطعتم. هذا وقد علمتم أن سهام الأسحار نفّاذة غير مخطئة، لاسيَّما من قلوبٍ أوجعتموها، وأكباد جوّعتموها، وأجساد عريتموها؛ فمحال أن يموت المظلوم، ويبقى الظالم. اعملوا ما شئتم فإنَّا إلى الله متظلمون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون )...