أزمة العقل والموروث الشعبي

أ. د. عبد الله الفَيْفي

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيْفي

[email protected]

أشرتُ في مساقٍ سابقٍ إلى حالات ثقافيّة خبرتُها، وجدتُ من خلالها أن تربيتنا الثقافيّة في مجال قبول الرأي الآخر، والحوار، والحُريّة، لا تحكمها قِيَمٌ ناضجة، لا لأنها بالفطرة كذلك، ولكن لأن المؤسّسة التربويّة والاجتماعيّة لم تُدرِّبها على ذلك، والقوانين المدنيّة- إن وُجدت- لم تَأْطُرها عليه. الحالة الأُولى من تلك الحالات- على سبيل المثال- ما ثار ويثور حول ما أكتبه عن المدّ العامّيّ العارم في السنوات الأخيرة وشِعره الاستهلاكيّ. والثانية حين كتبتُ عن استحياء طقس (الدوخلة) الأسطوريّ(1) في شرق المملكة والخليج العربيّ، وما يكتنفه من تربيةٍ للعقل الخرافيّ في كبارنا وأطفالنا، واستعادةٍ لطقوسٍ وثنيّةٍ معروفة الأصول في تراث مصر والعراق والجزيرة العربيّة، وما يمثّله ذلك من حَجٍّ إلى البحر، وتضحيةٍ في ضُحَى العِيْد، ودعاءٍ باسم النباتات والماء لحفظ حُجّاج بيت الله، وذلك باسم التراث الشعبيّ، مع تدشين مهرجان وطنيّ سنويّ باسم تلك الفكرة الخياليّة الخرافيّة، تُستنزف فيها العقول والجيوب(2). ولا شكّ أن تربيتنا الاجتماعيّة على "الوساطة"، والشفاعة، والتزلّف، والوصوليّة، والثُّلَلِيَّة، والتواكل، والاتّكاء على ظهرٍ، أو ظهور- ولو وهميّة- من أجل الوصول إلى المآرب والأحلام.. كلّ تلك الثقافة التربويّة الاجتماعيّة قد طبعت العقول والنفوس بتصوّر كلّ شيءٍ في الكون قائمًا على هذا النحو.. غير أن الأدهى تكريسُ ذلك في عقول الأطفال. فلا قانون، إذن، ولا نظام، ولا أسباب، وإنما هو الحظّ والنصيب، أو "الزٌّلْفَى"، و"دوخلتي حِجّي بي.. حِجّي بي.. حِجّي بي..."! إنه حَجٌّ- بالفعل- ولكن إلى مبدأ إهانة العقل جهارًا نهارًا، في ضُحَى عِيْد الأَضْحَى، وإلى الإيمان بمستوياتٍ "متدوخلة" من الخرافة، حتى أصبح ذلك مرضًا نفسيًّا واجتماعيًّا مشرعنًا، لم يَسْلَم منه حتى تصوّرُ بعض الفِرَق الإسلاميّة لعلاقة الإنسان بالله، أو المسافة بين الخالق والمخلوق؛ ذلك أنها لا تُتصوّر لديهم العلاقة بالله إلاّ على تلك الكيفيّة الطفوليّة التي نُشِّئوا فيها ورأوا المجتمع قائمًا عليها، متدوخلاً بها متخوزقًا فيها، من المحسوبيّات، والوسائط، والأبواب، والحُجّاب وحجّابهم، لا من العمل والتأهيل والشفافيّة والعلاقة المباشرة.

على أن الصورة ليست قاتمة دائمًا؛ فها هو ذا الأستاذ حسن دعبل، يكتب إليّ ليُعْلِمَني عمّا كتبه هو كذلك بتفصيلٍ وتأصيلٍ إضافيٍّ حول ذلك الطقس الوثنيّ للدوخلة، الذي يُحوَّل لدينا- للأسف- إلى تراثٍ وطنيّ، ويتعصّب له المتعصّبون حينما يُنتقد، ويتشنّجون حينما يُمسّ، حتى لكأن ناقديه انتقدوا أصلاً من أصول الدِّين، أو كأن قد طُعن في مجدٍ أثيلٍ تلزمهم الغيرة عليه والذبّ عنه! وممّا ذكره السيّد دعبل عن جذور الدوخلة الأسطوريّة نجتزئ:

"يرى (جيمس فريزر) في كتابة القيّم "الغصن الذهبي" عن حدائق أدونيس، التي تقام على الساحل السوريّ، حيث مؤثّرات الحضارة الفينقيّة؛ وكانت تلك الحدائق عبارة عن سِلالٍ عريضة، تُملأ بالتراب وتذرّ فيها حبوب القمح والشعير والخسّ والحلبة وأنواعًا أخرى من الحبوب التي تنمو بسرعة، ويُعتنى بها من قِبَل النساء لثمانية أيام... وفي اليوم الثامن تحملها النساء مع تماثيل الإله "الميّت" أدونيس، لتُلقيها في مجرى الماء أو البحر... ولم يكن هذا الطقس فينيقيَّ المنشأ انتشر في الخليج وسواحل المتوسط،  فهذا الموروث أو الطقس السومريّ انتقل بكلّ موروثاته وأدبيّاته؛ إذ أنه سومريّ المنشأ وبابليّه، انتقل إلى الفينيقيّين كانتقال أيّ حضارةٍ أخرى بطقوسها ومؤثّراتها. فالأكيتو، أو الأجيتو، وهو لفظ قريب للفظة "الحَجّ" العربيّة، هو العِيْد الذي تُخلِّص فيه الآلهةُ عشتار تموزَ من العالم السُّفلي، أي بَعْثُ الحياة والخِصب لعشتار والأرض. وهو نفس العِيْد الذي تبنّته الحضارة الفارسيّة باسم: (عيد النيروز). أمّا السومريّون فقد أسموه: "خجيتي زيغوركو"، أي "الحَجَّة الصغيرة"، أمّا في الأكديّة أو البابليّة الآشوريّة فكان يسمّى: "ريش شاتين"، أي "رأس السنة"، حيث كانت تُرتّل وتُنشد الترتيلة البابليّة: "اينوما ليتش"، "عندما في الأعالي"؛ فهذه الترتيلة المقدّسة في الإنشاد والمجسِّدة لخلود سيد الآلهة، التي كانت تُتلى في المعبد المقدّس "إيساغيلا، أو البيت الشامخ، أو بيت الآلهة"، للإله مردوخ، في اليوم الرابع من الاحتفال المقدّس (الأكيتو أو الأجيتو)... أمّا اليهود- أو ما دُوِّن في التلمود القديم، والذي دُوِّن بمؤثّرات بابليّة عن عِيْد التشيليك أو البربيتو، حسب التلمود البابليّ عن احتفال البربيتو- [فنجد الحديث] عن سلالٍ تُصنع من الخوص، وتُوضع بها الرمال والسماد وتُزرع بها الحبوب كالشعير والقمح والفول، حيث تتمّ زراعتها من قِبَل البنين والبنات، وفي عيد رأس السنة يتمّ رميها في البحر، بتلويحةٍ وإشاراتٍ فيما بينهم، كرمزٍ عن أضحيةٍ تُقدّم في هذا العيد."(3) أفليست هذه هي (الدوخلة) ومهرجانها لدينا؟!

وهذا الضرب من النقد الثقافيّ لم يعتده قومنا، ولا يتقبّلونه طبعًا، وهذا في حدّ ذاته يشخّص حالتنا الثقافيّة المنغلقة، المتشبّثة بموروثاتها وإن ناقضت العقل والدِّين والحضارة. على أن المسألة في مثل طقس الدوخلة لا تتعلّق بتربيةٍ رمزيّةٍ على التضحية بالمكتسبات عبثًا فحسب، ولكن أيضًا بتربيةِ عقلٍ خرافيٍّ لدى الأطفال، وعبث بأذهان أعزّ فئات المجتمع، وآمال مستقبله.. وذلك هو الأخطر. وفي هذا نكوصٌ عن نقاء العقيدة التي جاء بها الإسلام لتحرير الروح والعقل من الخرافة والتعلّق بالترّهات والأوهام، هذا أوّلاً، ثم تراجعٌ عن نصاعة العقل نفسه وما يحرّرنا بها العِلْمُ من الطفوليّات الفكريّة والتعلّق بها؛ فلدينا من تلك الوباءات ما يكفي وزيادة، ولا ينقصنا البحث عنها في دهاليز الموروث الشعبيّ! وطقسٌ كالدوخلة إنما يعكس في حقيقة الأمر طفولة عقلٍ اجتماعيّ، لا طفولة فئةٍ عمريّة!

إنها، إذن، ليست مجرّد لعبةٍ بريئةٍ للأطفال، إلاّ إنْ استمرأنا السذاجة، وانعدام الرؤية، ودسّ الرؤوس في الرمال، بل هي فكرة جوهريّة ميثولوجيّة أقيم عليها مهرجان وطنيّ، وسوف تَرْسَخُ في الأذهان وتستشري في المخيال العام لأجيالٍ قادمة، وإنْ ذهب المهرجانُ بما له وما عليه؛ فليس موقفنا من المهرجان ولا من الفرحة ولا من عمل الخير، بل الموقف من الفكرة، ومن الخلفيّة الأسطوريّة التي بُني عليها المهرجان، أمّا المهرجان، كاحتفاليّة، فحُكمه حُكم غيره من الاحتفاليّات. إذ كيف يقدّم الترفيه باسم التخريف؟! وتقدّم الأموال- وما يُزعم من أعمال الخير- تحت شعارٍ من تدوير الجهل السحيق؟ وكأنْ قد فُرض على أُمّتنا إمّا فقرها أو جهلها! فيُشترى العقل بالمال، ويباع النور بالظلام! نعم، هي فكرة تبدو تافهة، غير أنها ذات أبعاد غير تافهة على المستوى الفكريّ والتربويّ، ومن الاستخفاف بالعقول، أو المكابرة، الْتِماسُ المسوّغات لإحيائها، وكأنْ قد كُتب علينا أن نظلّ مقدِّسين كلّ ماضٍ، ممجّدين ما وجدنا عليه آباءنا، مهما كان! كما أن من الخيانة للأمانة الثقافيّة الاكتفاء بالفُرجة والمجاملة والسير مع القطعان، دون التعبير عن موقفٍ واعٍ ومسؤولٍ لكشف جراثيمنا الثقافيّة، حيثما استكنّت، وأنّى كمنت، وكيفما لُبّست بأزياء تغطّي عوارها. على أنه لا ينبغي ربط الأمر بطائفةٍ، أو بجهةٍ، أو بمذهبٍ، أو بمنطقةٍ. ولا في المقابل أن نستنكف من نقد ثقافتنا وموروثاتها والرجوع فيها إلى الحقّ، لا لشيء سوى أنها: ترتبط بمنطقتنا أو جماعتنا أو موروث آبائنا؛ فنبدأ نندب تحت وطأة عُقَدٍ من شعورٍ بالاضطهاد التاريخيّ، وحساسيّة مفرطة تجعل أصحابها "يحسبون كل صيحةٍ عليهم هم العدوّ"! فكلّنا يعلم ما في ماضينا من جهالات وهمجيّات، من السَّفَه إحياؤها، بغثّها وسمينها، والتعصّب لها، بدل التوجّه إلى منافسة العالم، ولو على المدى البعيد، في طلب العِلم والنور الخالص من خزعبلاتنا البائدة، التي لا نُحسد عليها.. بل لو كانت ميدان تنافسٍ عالميّ ما غلبنا فيها أحدٌ من العالمين!

                

(1)  ينبغي هنا التفريق بين مفهوم (الأسطورة) و(الخرافة)، باقتضاب. فالأسطورة: قصّة، مسطورة، أي مكتوبة، أو مرويّة متوارثة، ولعلّها جاءت منها الكلمة الإنجليزية، Story، وكذا: History. وقد سمّاها العرب: "أساطير الأوّلين". وتقوم الأسطورة على ما تقوم عليه القصّة، من: البطل، والمكان، والزمان، والحدث، إلاّ أنها تتكئ على الغيب والخوارق، ولها أهداف تفسيريّة في الحياة والكون، وأهداف تربويّة تعليميّة اجتماعيّة. في حين لا ترتبط الخرافة بذلك كلّه، وإنما هي مجرّد فكرة بسيطة (غير معقولة)، أو (غير مصدّقة) لدى نسبة من المتلقّين، ودون أن يكون لها شكلها القصصيّ بالضرورة. وأصل مصطلح "خرافة" لدى العرب ضربهم المثل بـ"حديث خرافة"، وهو: "رَجُلٌ من بني عُذرة، زعموا أن الجنّ استهوته، فلبث فيهم حينًا ثم رجع إلى قومه، فأخذ يحدّثهم بالأكاذيب. وزعم بعضهم أن (خرافة) اسمٌ مشتقٌّ من اختراف السَّمُر، أي استطرافه." (العسكري، أبو هلال، جمهرة الأمثال، عناية: أحمد عبدالسلام ومحمّد زغلول (بيروت: دار الكتب العلميّة)، 2: 235، المثل 1971 "أمحلُ من حديث خُرافة"). والاستطراف: الاجتناء. هذا على سبيل الإيجاز، الذي يقتضيه المقام. غير أن مصطلح (الأسطورة) قد يُطلق بتوسّع ليشمل (الخرافة) أيضًا، كما أن الخرافة قد تكون ذات جذورٍ أسطوريّة، أي متعلّقة بقصصٍ أسطوريّة، كما هي حال فكرة "الدوخلة" هاهنا. (انظر مثلاً: وهبة، مجدي، (1974)، معجم مصطلحات الأدب، (بيروت: مكتبة لبنان)، 338- 339).

(2) راجع "الجزيرة" على الرابطين:

http://www.al-jazirah.com.sa/culture/2009/30042009/fadaat30.htm

http://www.al-jazirah.com.sa/culture/2009/14052009/fadaat24.htm

(3) مقاله على الرابط:   http://www.womengateway.com/arwg/e-+library/features/Ejtema3ya/artical2.htm