أحزاب المعارضة والموالاة بحاجة للتغير
م. محمود الدبعي
أتصور أن على كل شخص تحمل مسؤولية في حزب سياسي و تنظيم ديني إن يضع قائمة أسئلة أمامه لتقيم آداءه الوظيفي بعد التغيرات الجارية في الأقطار العربية من المحيط للخليج . بالتالي فكلامي في هذا السياق ينبغي أن يحمل على أساس إحياء فكرة النقد الذاتي حتى يتحقق التوافق بين الفكرة و الممارسة الشعبية، حيث لمسنا بونا شاسعا بين تحرك شباب التغير و مناشط الأحزاب و التنظيمات المعارضة. وما يهمني في اللحظة الراهنة هو لفت الانتباه إلى الكيفية التي تعاملت بها الأحزاب العربية مع قضية التغيير التي يفترض أن تشكل المرجعية التي تهتدي بها جموع الكوادر في تعاطيها لهذا الجانب الإنساني.
وقبل أن أتطرق إلى هذا الجانب التغيري أشدد على أن أكثر ممارسات العمل الحزبي في الوطن العربي هي عمل تقليدي مستورد من الشرق أو الغرب و بدون صقل و لا يتم تحريكه إلا بتوجيهات من قيادات لا تعيش هم المواطنين و لا تعي واقع معيشتهم في الوقت الراهن والتي لا تتطلب بالضرورة عقلاً عبقريا لترشيدها، وإنما يكفيها وينهض بها أي عقل رشيد وضمير وطنيمخلص يفهم الناس و القانون و لا يشترط سوى الاستقامة أساسا. وهو ما ينسحب على أهم قضايا الساعة في اقطارنا العربية وما يسمي اصطلاحا بترتيب البيت العربي المتهدم.
وإذا ما احتاج المواطن أي تغيير أياً كانت وجهته إلى مرجعية سياسية، فثمة قواعد ومبادئ استقرت في الموروث الثقافي والديني، والتي هي على النقيض تماماً من الصورة (الحركية لمفهوم البيعة و الولاء) الشائعة، و التي تقدم مسعى التغيير بحسبانها مغامرة انقلابية، و نراها كردة فعل ، لا تبقي على شيء إلا و تصبغه بصبغتها بين يوم وليلة و تتسابق مع الزمن لاحتواء كل عمل شبابي مثمر.
لتوضيح الفكرة أريد الإستعانة بدراسة قيمة للشيخ العلامة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله، وهو أبرز العلماء و المجاهدين و الفقهاء المعاصرين، نشرتها مجلة (الدوحة) القطرية في عدد أول يناير/ كانون الثاني ،1986 وقدم فيها قراءته لموقف الفقه الإسلامي من قضية التدين الناقص و التغيير، التي استخلص منها ثلاثة مبادئ هي:
أولاً:
مبدأ الضرورات التي اعترف بها الشارع، وهو ما عبرت عنه بعض القواعد الفقهية، التي قررت مثلاً أن: الضرورات تبيح المحظورات، وأن الضرورة تقدر بقدرها، والحاجة قد تنزل منزلة الضرورة. ولهذا المبدأ أدلته الشرعية العديدة، ولم يعد هناك خلاف حوله. وللعلم فإن الضرورات الشرعية ليست كلها فردية، كما قد يتوهم البعض. فلكل مجتمع ضروراته، كما للفرد ضروراته. إذ أن هناك ضرورات اقتصادية وسياسية وعسكرية واجتماعية، لها أحكامها الاستثنائية التي توجبها الشريعة، مراعاة لمصالح البشر، التي هي أساس التشريع الإسلامي كله. و اليوم نرى الشيخ القرضاوي يطبق هذه المقولة عمليا عندما ساهم في دعم ثورة الشباب التغيرية في تونس و مصر و ليبيا و اليمن و كانت كلماته هاديا للشباب للسير في طريق الحق.
ثانياً:
مبدأ السكوت على المنكر، إذا ترتب على تغييره منكر أكبر منه. دفعاً لأعظم المفسدتين، وارتكاباً لأخف الضررين. وبناء على هذا المبدأ قرر الفقهاء طاعة الإمام الفاسق إذا لم يمكن خلعه إلا بفتنة وفساد أكبر من فسقه. وفي صدد تأييده لهذا المبدأ العام يذكر ابن القيم في أعلام الموقعين (ج 2) أن النبي شرّع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله. فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه لا يسوغ إنكاره. وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله.
وهو ينقل عن شيخه ابن تيمية أنه مر مع بعض أصحابه في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر صاحبه عليهم ذلك، لكن ابن تيمية عارضه في ذلك قائلاً: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة. وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال، فدعهم. وبهذا المنطق يقول ابن القيم أنه إذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو أو لعب، فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإلا كان تركهم على ذلك خيراً من أن تفرغهم لما هو أعظم منه. وإذا كان الرجل مشتغلاً بكتب المجون ونحوها، وخفت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسحر. فدعه وكتبه الأولى.
ذلك كله يعني أن التغيير لا يكفي فيه مجرد حدوث المنكر، بل لا يكفي فيه أيضاً أن يكون الفرد أو الدولة قادراً على تغييره. وإنما الأهم من هذا كله هو الاطمئنان إلى أن التغيير يقود إلى الأفضل، وتجنب حدوث ما هو أسوأ. وإذا لم يتحقق ذلك، فإن منطق الشريعة وحكمتها يدعواننا إلى القبول بالمنكر كما هو حتى تتوفر شروط التغيير المنشود، وتصبح المصلحة راجحة على المفسدة. و لنا في ليبيا مثالا حيا فثورة الشباب السلمية في مصر لا يمكن أن تحقق المنشود اما طاغية مستعد أن يحرق بلاده على رأس اهلها من أجل كرسية و لذلك راينا الثورة تحولت للسلاح لمقاومة الظلم و الهمجية و تسلحت لإيقاف جرائم القذافي و نجله سيف الإسلام بحق المواطنين العزل.
ثالثاً:
مراعاة سنة التدرج: وهو مبدأ نهجه الإسلام وهو يبني مجتمعه الأول. إذ تدرج بهم في الفرائض. كالصلاة والصيام والجهاد. كما تدرج بهم في تحريم المحرمات كالخمر ونحوها. وكما أنه حدث تدرج في التشريع، فإننا نستطيع أن نمضي على السنة ذاتها ويكون هناك تدرج مماثل في التنفيذ. ومن الشواهد التي تذكر هنا، ما رواه المؤرخون عن الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز. إذ قال له ابنه عبد الملك يوماً: مالك لا تنفذ الأمور، فو الله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق. فقد كان ابنه الشاب يدعوه لأن يقضي على المظالم، وآثار الفساد الأموي دفعة واحدة، دون تريث أو أناة، وليكن ما يكون. ولكن عمر بن عبد العزيز رد عليه قائلاً: لا تعجل يا بني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة. وأني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة فيدفعونه جملة، ويكون من ذا فتنة. و من هنا ارى أن الحكمة يمانية و تمارس على أرض الواقع و رغم أن الشعب اليمني مسلح ، فإن الثوار لم يلجأوا للتحاكم للغة السلاح و ارتضوا التظاهر و الإعتصام السلمي من اجل التغير. و هم حقا يمارسون سياسة التدرج مع الرئيس علي صالح.
إن هناك شواهد كثيرة تحدثت عن انتصار شباب التغير وهزيمة الظالمين في مصر و تونس، مستشهدين باعتصام ملايين الشباب في ميادين التحرير، لكن قلة أدركت حقيقة أن المنتصر الأول في المشهد هو المواطن على أعوان الشيطان الذي نجح بأن يشغل الناس عقود كثيرة بأنفسهم. و ما كان لهم أن يحققوا النصر إلا في ظل القيادة الحكيمة غير المسيسة و التي ليس لها اطماع شخصية.
و لو راجعت احزاب المعارضة قائمة الإنجازات ، و أنزلتها على الواقع لوجدت أن غالبية إنجازاتها مجرد مخطوطات رائعة كتبها منظرون لا يهمهم سوى رضي شخص القائد عن عطاء حزبه.
لقد تحدثت إلى بعض قادة الرأي الحزبيين فوجدتهم مدركين لجسامة المسؤولية التي يتحملها قادة الميدان المنسيون، وأنهم بحاجة إلى عون الجميع ونصحهم، ولا يحتاجون لمنظرين احترفوا الضرب على الأوتار. نعم إنها نيران و لكنها كما وصفها احد الثوار بأنها “نيران صديقة”، و هو يردد على الهاتف الدعاء الشهير: (اللهم احمني من أصدقائي، أما أعدائي فأنا كفيل بهم). و نصيحتي لكل احزاب المعا رضة و أحزاب الموالاه أن يعيدوا ترتيب بيوتهم من الداخل و يعيدوا تدريب الكوادر على تحمل مسؤلياتها و يدربوهم على معنى القيادة والمسؤلية و الحاجة للتغير و أن يمارسوا الديمقراطية كحاجة لإستقرار الوطن و ليس لإيصال شخص الرئيس لسدة الحكم. نحن بحاجة الى إنقلاب داخلي قبل المطالبة بالتغير الخارجي. و هذا الحال يمس كل التنظيمات الدينية و الساسية و الوطنية و النقابات. علينا أن نصنع القادة من خلال مسيرة الألف ميل و رفض تسلق الإنتهازيين على مراكز اتخاذ القرار في تنظيماتنا و أحزابنا. و لنا في حراك الشباب السلمي عبرة بقدرتهم على التغير.