فلسفة التغيير في ضوء التاريخ و الواقع
عز الدين الديري
اصبحت فكرة التغيير و التغيير الجذري من المسلمات المطلوبة بشكل ملح، بعد سلسلة الثورات التغييرية التي بدأت في تونس ثم مصر و امتدت إلى ليبيا التي لا تزال ثورتها تشي بمزيد من الاحداث الدراماتيكية القابلة الحدوث ربما في اكثر من موقع آخر...
مطلب التغيير هذا اصبح اليوم مطلباً لأكثر من جهة على رأسها الشعوب، و الغرب كذلك يرغب في رؤية تغيير يضمن له مصالحه قبل أن يفاجأ بما ليس في الحسبان. بل و حتى على صعيد النظام نفسه فهو يريد التغيير و لكن كيف و إلى أي حد هذه مسائل متروكة للحسابات أو قل إلى المفاجآت، بالنتيجة ما هو حتمي أن يحدث بين ثورة على الذات أو ثورة تلغي هذه الذات... لا شك أن هناك حسابات لكل طرف في هذه المعادلة المعقدة، لكن أبسط حساب هنا هو الحساب الشعبي الذي ليس لديه ما يخسره، اللهم إلا عدداً من الضحايا قل أو كثر، أما بقية الأطراف و أهمها النظام الحاكم نفسه فلهم حساباتهم التي ربما تقودهم إلى فعل شيء ما أو الانسياق إلى القدر المحتوم...
ليس خافياً أن هناك نخبة حاكمة تتوزع في اتجاهات شتى، و هذه النخبة هي بالنتيجة لن تمثل إلا نفسها و بكل تأكيد و حسب التجارب التي رأيناها فإن أي جهة من هذه الجهات التي تنتمي إليها نخبة الحكم سوف لن تضحي بوجودها أو بمكتسباتها لحساب عدد من الأشخاص مهما كان مركزهم أو دورهم... نعم ربما يحصل خطأ في الحساب يدفع البعض إلى الاعتقاد بأن مسالة التغيير يمكن معالجتها ببعض العلاجات السطحية لكن نؤكد هنا أن عمق المشكلة أصبح بعيداً في هذه المرحلة، و لدينا أمثلة كثيرة ماثلة أمام الأذهان من الثورات التغييرية التي حدثت في أوروبا و الاتحاد السوفييتي إلى الثورات التغييرية التي تحدث اليوم في الشرق الأوسط... و هذا يعني ببساطة أن فلسفة الثورة على الاوضاع القائمة تستحوذ اليوم على أذهان الشعوب و بخاصة فئة الشباب، و لعل من نافلة القول أنه لا بد أن يكون هناك دافع وراء هذا الشعور و هو ذات الدافع الذي جعل الناس تثور على الاستعمار و تبذل كل شيء للتخلص منه، و ها هي اليوم تخضع لنوع جديد من الاستعمار، و الفارق فقط ان هذا استعمار داخلي و ذاك استعمار خارجي، أما النتائج فهي واحدة: سلب الحريات، امتصاص الثروات، تجهيل المجتمع و إهدار الكرامة و عد ماشئت من هذه المصطلحات التي لا تحصى و التي تقرؤها كل يوم على اللافتات التي يرفعها المتظاهرون في كل مكان. أضف إلى ذلك أن منظومة بلدان العالم الثالث و الشرق الأوسط جزء منها تشكل وحدة مترابطة بشكل أو بآخر، و لا غرابة في هذه الحالة أن تسري عدوى الثورات من بلد لآخر كما نشاهده تماماً.
نعود مجدداً إلى سوريا، ربما يتوهم البعض أن الإشكالية الحاصلة ترجع إلى حساسيات مذهبية أو طائفية أو عرقية أو ما شابه ذلك، لكن نظرة سريعة إلى الثورات التي تحدث في البلدان الأخرى و بينها بلدان سنية و إيران الشيعية تبين بوضوح أن المسألة لا علاقة لها بهذا البعد أو ذاك و لسنا بحاجة للعودة إلى التاريخ لنأخذ منه الشواهد فكم من أعراق و أقليات تولت الحكم في هذه البلاد و الناس يتفاخرون بها و يذكرونها بكل إعجاب و اعتزاز من محمد علي باشا في مصر و قبله صلاح الدين و نور الدين و غيرهم كثير، و لو تعمقنا قليلاً في دراسة التركيبات السكانية في الشرق الأوسط لوجدنا تمازجاً عجيباً بين العرقيات و الطوائف و هي تشكل بمجملها نسيجاً وطنياً واحداً، فسوريا مثلاً فيها العرب و الأكراد و الأرمن و الشراكس و الدروز و الآشوريون و المارونيون و غيرهم من الأعراق أو المذاهب... و لا زال الأرمن يعتزون بمؤازرة أهالي المناطق الشرقية في سوريا (دير الزور) في استقبالهم و إيوائهم بل و حتى خلطهم خلطاً تاماً بالمجتمع من تزاوج و غيره و هم يشيدون بموقف أهل المنطقة في كل مناسبة، فلا مشكلة إذاً ههنا، و قد رأينا بالأمس أن الفتنة بين الأقباط و المسلمين في مصر كانت فتنة مفتعلة و البحث جارٍ عمن أوقدها و أثارها. و ربما يحسن التذكير بأن أقدم المذاهب المسيحية على وجه الأرض تعيش في شمال العراق و في شمال شرق سوريا، و هم على حالهم من قبل الإسلام و حتى يومهم هذا مما قد لا تجد مثيلاً له في أرقى ديمقراطيات الغرب... إذاً ليست المشكلة في انقلاب مذهب على مذهب أو عرق على عرق، فآلة الظلم تطال الجميع و لا تدع من شرها أحداً. و لذلك نجد ان بوادر صحوة العراقيين اليوم إنما تقوم على أكتاف السنة و الشيعة جنباً إلى جنب بعد فتنة حصدت الأخضر و اليابس أثارها من أثارها ممن سيحاسبهم التاريخ و ستتوجه ليهم لعنات الشعوب، بل و امتدت الثورات نفسها إلى المناطق الكردية التي كانت بالأمس تسعى وراء حكم ذاتي أو دولة مستقلة و قد حصلت عليها و لكنها اليوم تطالب بالحرية و الكرامة.
و في سوريا مثلاً لا يجد المواطن غضاضة في أن يكون رئيس وزرائه نصرانياً مثلاً كما كان الحال في فارس الخوري المسيحي أو محمود الأيوبي الكردي، أو مفتياً عاماً للجمهورية مثل الشيخ أحمد كفتارو، أو رمزاً وطنياً كافح الاستعمار بشعره و لسانه مثل بدوي الجبل العلوي أو سلطان باشا الأطرش الدرزي، و هي قائمة لا تنتهي من الشخصيات الوطنية المعروفة، و لا نجد أحداً من أفراد الشعب إلا و يقبل بكل فخار بهذه الشخصيات و يعتز بها، فليست المشكلة إذاً كامنة في طائفة أو عرق أو ما شابه ذلك...
الرئيس بشار الأسد سيكون بكل تأكيد موضع فخر و اعتزاز إن هو قام بتلبية مطالب الجماهير، و هو نفسه لا ينفك يتحدث عنها لكن المشكلة في التطبيق و من يحول دونه، ما المشكلة مثلاً في تحجيم من يتسلطون على حرية المواطن و كرامته من أجهزة الأمن ذات السلطات المطلقة، فهل أضحى المواطن عدواً للدولة؟ تساؤل آخر ما المشكلة في إعطاء الأكراد مثلا حق المواطنة الكاملة من حيث الجنسية و الهوية الوطنية و الحقوق الثقافية و هو جزء لا يتجزأ من نسيج هذا الوطن، السؤال مرة أخرى من يحول دون هذا؟ رأينا في لبنان كيف خرج الجيش السوري و من ورائه مئات الآلاف من المواطنين السوريين بين عشية و ضحاها، و ما هذا إلا للشعور الجارف لدى الناس حينها بشدة الظلم و التعسف الذي فرضه النظام حتى في لبنان، لمصلحة من و نحن في بلد واحد و نمثل شعباً واحداً؟ هل صحيح أن شعوبنا تحتاج إلى عشرات السنين حتى تفهم مصطلح الحرية و الديمقراطية؟ و في هذه الحالة يمكننا أن نقول لقد كان عبثاً ثوراتنا ضد الاستعمار إذاً، على أية حال المشكلة أسرع و أعجل من هذا و تجارب الشعوب مهما اختلفت تبقى تدور في إطار واحد و لا يسع أي متفلسف أن يقول إن هذه التجربة تختلف عن تلك أو هذه التجربة لن تحدث في بلد آخر فهذه سنة الله في خلقه "و إن تتولو يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم".