القوافل تزحف والقطار يسير... يا بشار
ما ألفناه عن أبواق الأنظمة المستبدة عامة وأدواتها التي تستخدمها ، كيف تقوم بصناعة عمليات التجميل لممارسات النظام وتلميع صورته ، فتحول قمعه إلى أمن ، وظلمه إلى عدالة ، واستبداده إلى حرية ، وفساده إلى إصلاح ، وشموليته إلى تعددية ، وقبضته البوليسية إلى انفتاح وديموقراطية .
كما تحول تراب الوطن وحصبائه إلى ربيع أخضر، وهضابه وجباله إلى كنوز ومعادن ثمينة ، وبيدائه وصحاريه إلى واحات خضراء ترقد فوق بحار من النفط أو الغاز .... أو المياه .
و تحول هزائم النظام إلى بطولات وانتصارات ، ونكساته إلى أمجاد وأعياد وطنية ، وتخلفه إلى رقي ومدنية ، وعصاباته وطائفيته وشلليته إلى مساواة وعدالة اجتماعية ، وعمالته وتآمره وخياناته إلى تضحية وتفان ووطنية .
وتصور فقرالمجتمع وبطالته أنه نهضة اقتصادية ، وأزمة السكن حالة تطورعمرانية ، وانتشار الجهل والأمية قفزة علمية . والفساد المستشري إصلاحا وتقدمية ، وتزوير الانتخابات نزاهة وشفافية .
ويوصف الحاكم بأنه الزعيم الأوحد وملهم الأمة ، فهو هدية الأرض ومنحة السماء لهذا الشعب المعطاء ، الذي وهبه الله هذا القائد الفذ ليفخر به الوطن ويتيه به عجبا أمام الدنيا والتاريخ ، فيتشرف الشعب به ، ويفخرأمام العالم بزعامته ، حتى يسمّون الوطن باسمه فخرا واعتزازا، كأنما حاز ملكية الوطن وحوله اإلى مزرعة له ولحاشيته ، وأما الشعب المسكين فما هم إلا عبيد وأجراء مسخرون لخدمته ، بل إنهم يتشرفون بالعبودية لخدمة الزعيم الأوحد .
ويصور الشعب على أنه صفوة البشرية ، وخيرة بلاد الله في خلقه ، تمتد جذوره في الحضارة إلى آلاف السنين ، ولا تتسع الكتب والمجلدات الضخمة لتدوين بصماته الحضارية ، وانتصاراته المجيدة ، وتاريخه المشرق ، وموقعه الاسترتيجي المتميز، وشعبه الذكي المنتج .
كل هذا يتم في أيام الرخاء للحاكم عندما يكون الأمن مستتبا والكرسي مستقرا، فإذا ماهبت نسائم الفجر وانطلقت رياح التغيير، وتناثرت شظايا الثورات ، وسقطت عروش المستبدين وزملاؤه من الطغاة والمستبدين ، وشعر باهتزاز الكرسي وزلزلة الأرض وهي تموج من تحته ، عندها تتغير لهجة المستبد وأبواقه من النفاق إلى دجل ساذج وخداع ومراوغة للشعب مكشوفة وتملق رخيص ، ليلتف على مطالب الجماهير ويثيرالبلبلة بينهم ويقوم بتنازلات شكلية هامشية تفضلا وامتنانا ، وجرعات مسكنات رخيصة موضعية ، لتقدم موضوعا تافها للأبواق ، ليصدحوا به ويحعلوا منها الفرصة الثمينة ، وابتسامة الحظ الوحيدة للجماهير الثائرة .
ولكن من عجيب ما سمعناه من الرئيس بشار الأسد معلقا على ثورة التغيير التي تهب على العالم العربي ، يقول إن الشعب السوري غير معني بهذا التغيير، كما قالها من هو أكثر منه خبرة وحنكة سياسية وقدما في مصاحبة الكرسي والالتصاق به ، ثم أضاف سببا آخر فزعم أن شعبه منغلق ، وأنه غير مؤهل للتغيير في الوقت الحاضر ويحتاج إلى جيل آخرجديد حتى تحين ساعة الاصلاح الحقيقية ، ويصبح الشعب جاهزا للإصلاح والانطلاق نحو الحرية .
كلمات قالها من قبله عمر سليمان بأن شعب مصر غير مؤهل للديموقراطية ، فأثبت شباب مصر الأبي كذب ادعاء سليمان ودجله ، وأن شعب مصر أهل للديموقراطية والإصلاح والتغيير ، وأن الغيرمؤهل حقيقة لهذا الأمر هو عمر سليمان وسيده مبارك وأمثالهم من هؤلاء المستبدين الذين تؤذيهم رائحة الحرية ، وتسمم مزاجهم رياح الإصلاح والديموقراطية ، لأنها دخيلة عليهم وعلى أمثالهم ، فكان حق الشعوب أن تطرد هؤلاء المستبدين الذين لا يعيشون عصورهم ولا يواكبون التطورات الحضارية فهم أشبه بالمومياءات المحنطة ، حتى تنعم الجماهير بالحرية وتعيش حياة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية ، بعيدا عن هؤلاء المستبدين من أعداء الحرية والعيش الكريم
وأما النكتة الأخرى والتي حاول بعض حاشية النظام من أجهزة الأمن السرية المتخفية من أنصار الرئيس بشار أن يجعلوامنها حجة لرفض التغيير، ألا وهي دعوى الخوف من الحرية ! !
هكذا يقول أنصار النظام من المنتفعين والملتفين حوله ، وممن ربطوا مصيرهم بمصير هذا النظام البائس ، إنهم يخافون الحرية لأن الشعب غير معتاد على ذلك وقد تسيل الدماء ، وقد تؤدي الحرية إلى حرب أهلية .... وغير ذلك مما يجر الخراب والدمار للبلاد ! !.
يا لها من نكتة سمجة وتخريف مضحك لا تصدرحتى عن الأطفال ! .
إذن لقد كان ثوار سوريا الذين طردوا الاحتلال الفرنسي حتى ينال الشعب حريته مخطئون ومتجنون على هذا الوطن ، إذ منحوه الحرية وهو غير مؤهل للثورة والجهاد والتضحية لأجلها .
وإذا كانت سورية بشغبها الواعي الذكي الذي تمتد جذوره في الحضارة إلى آلاف السنين ، وبعد كل ذلك الاستبداد والاستعباد الذي يطبق عليها غير مؤهلة للحرية والإصلاحات ، فهل هناك دولة من حولنا محتلة أو مضطهدة مؤهلة للثورة ضد أعدائها حتى تنال حريتها ؟ !
إذا كان كذلك .... فهي دعوة مفتوحة لجميع الشعوب المحتلة والمضطهدة والمسحوقة أن تسارع فتصالح أعداءها وتعتذر عن سابق ثوراتها ونضالها ، وتحمد هذا المستعمر الصهيوني لفلسطين أو الاحتلال الأمريكي في العراق ، أو المستبد التونسي بن علي أومبارك أو القذافي أو غيرهم ، لما لهؤلاء المحتلين والمستبدين على هذه الشعوب الجاهلة والمنغلقة من فضل وأياد بيضاء بهذا الاحتلال والاستبداد ، لأنها بمصادرة هذه الحرية تجنبها المشاكل والخلافات الداخلية والحروب الأهلية ، وتحقن دماء المواطنين بدل أن تسير أنهارا في شوارع الوطن ! .
أليست طرفة جميلة ونكتة ظريفة يصدربعضها من رأس النظام ، وبعضها الآخر من أعوانه وأجهزة قمعه ، الذين بحسبون حساب ما بعد الثورة وينظرون إلى مواقعهم وما يحل بهم بسبب ما أوغلوا في ظلم هذا الشعب وانتهاك حقوقه بإذلاله واستعباده .
إن ثمن الحرية الحقيقي أرخص بكثير من ثمن العبودية ، إن ثمن الحرية يدفع مرة واحدة ويسجل أبطالها روادا للأمة ورموزا لتاريخها المشرق في صفحات الشرف والعزة والكرامة .
وضريبة الاستبداد والذل والاستعباد تدفع طول العمر كل يوم ، ويسطر تنابلها كغوغاء متخاذلين وعبيدا جبناء في صفحات التاريخ الكالحة السوداء ، لتبقى وصمة عار تلتصق بهم على مر الزمن .
إذا كان سيادة الرئيس يؤمن بما يقول بأن شعبه منغلق بسبب سياسته وسياسة أبيه من قبله الذين حكموا سوريا لأكثر من أربعين عاما ، فهو اعتراف بفشل سياسته وسياسة والده وسياسة الحزب الشمولي الذي يحكم باسمه ، وإذا كان الشعب منغلق فإن الرئيس بشار هو رئيس المنغلقين وسيد المعزولين وأمير المهمشين وقائد المتخلفين والمتطفلين وحاكم الغوغاء والدهماء المغيبين ، ومالك مزرعة العبيد والمسحوقين .
إنني أربأ ببني وطني شعب سوريا الأبي أن يوصف بهذه الصفات من الإنغلاق والعزلة والعيش متخلفا على هامش التاريخ ، وعهدي به شعبا أبيا ذكيا واعيا مثقفا متحضرا نشيطا فاعلا ، ولا أزعم هذا الكلام أو أدعيه عنصرية أو مجاملة ، إنما أقوله عن علم وتجربة وقناعة .
لو تفوه بهذه التصريحات مسؤول في بلد ديموقراطي حر متمدن ، لعزله شعبه في ساعة .
ولو صدرت من رجل يحترم نفسه ويهتم لمصلحة شعبه لبادر بالإعتذار لشعبه وسارع بالإستفالة من موقعه ، لكن حكامنا المستبدون في عالمنا العربي هم نسيج آخر قد أسكرتهم نشوة الكرسي ، فهم لا يحسون بما حولهم إلا إذا شعروا بزحزحة هذا الكرسي الذي التصق بهم والتصقوا به حتى جعلو منه إلها يعتصمون به من دون الله ، ولو تربعوا عليه فوق آهات هذا الشعب وأناته وآلاف الجماجم والمجازر، ولا يفيقون من سكرتهم إلا في الوقت الضائع وبعد أن يفوت القطار ويتخلفوا عنه مراحل ومراحل .
" حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت بالذي آمنت به بنو اسرائيل "
سيادة الرئيس إن العاقل من اتعظ بغيره ، والإعتراف بالخطأ فضيلة ، وعهدنا بك رئيسا شابا
فطنا ، ولعل ما صدر عنك كان زلة لسان ، فباب التغيير والإصلاح مازال مفتوحا ، وحبوب المسكنات من أسبرين الأطفال وأمثالها لا تجدي نفعا ، فالرياح تهب والتغيير قادم والقافلة تزحف والقطار يسير.
فهل ستلحق بالقطار ، أم سيفوتك كما فات غيرك ؟ ! .