السلطة العلمانية
م. شاهر أحمد نصر
[email protected]
السلطة (في المعاجم اللغوية): الُملك والقدرة. وفي المعاجم الفلسفية، هي مفهوم
سياسي اجتماعي اقتصادي،
يشير
إلى النفوذ المعترف
به
كليّاً لفرد، أو لنسق من وجهات النظر، أو لتنظيم، ذلك النفوذ المستمدّ من
خصائص معيّنة، أو من تقديم خدمات معيّنة. والسلطة أنواع: دينية، شرعية، ونفسية،
وروحية، وأبوية، واجتماعية، واقتصادية، وسياسية، واستبدادية، وشمولية، وديموقراطية
الخ...
كما أنّ السلطة عنصر هام من عناصر
الدولة، والسلطة العامة كوظيفة اجتماعية، تمارس من قبل جيش، وبوليس، وموظفين،
ومحاكم، وأنظمة العقاب والزجر المختلفة. وحسب الماركسية؛ في مجتمع تهيمن فيه
الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج تكون الدولة دائماً أداة قمع في أيدي الطبقة
المستغِلة السائدة، فالسلطة هنا تستخدم لقهر الجماهير المستغَلة، بغض النظر عن شكل
وطبيعة الحكم،
وترى أنّ "أشكال سيطرة الدولة قد تكون مختلفة. فرأس المال يظهر سلطته على صورة ما
حيث يوجد شكل ما، وعلى صورة أخرى حيث يوجد شكل آخر؛ ولكن من حيث الجوهر، تبقى
السلطة في يد رأس المال: فسواء وجد الحق المقيد، أو غيره، أو وجدت الجمهورية
الديمقراطية، وبالأحرى بمقدار ما تكون هذه الجمهورية ديموقراطية، تظهر سيطرة
الرأسمالية هذه بفظاظة أكبر وقحة أكبر. إنّ إحدى الجمهوريات الأكثر ديموقراطية في
العالم هي الولايات المتحدة في أمريكا الشمالية؛ وليس في العالم مكان تظهر فيه سلطة
رأس المال، سلطة قبضة من أصحاب المليارات على المجتمع كله بمثل الفظاظة التي تظهر
فيها في أمريكا، بمثل الرشوة السافرة التي تظهر فيها في أمريكا. فرأس المال، مادام
موجوداً، يسيطر على المجتمع كله، وليس من جمهورية ديموقراطية أياً كانت، ليس من حق
انتخابي أياً كان، يمكنه أن يغير شيئاً في فحوى الأمر".
وبيّن فوكو الطبيعة الحيوية ـ السياسية
لصيغة الحكم الجديد، أو السلطة؛ مؤكداً أنّ "القوة الحيوية هي أحد أشكال القوة التي
تنظم الحياة الاجتماعية من داخلها، عبر اتباعها، واستيعابها، وإعادة صياغتها.
فالسلطة لا تستطيع بلوغ القيادة الفعّالة لمجمل حياة السكان إلاّ حين تصبح وظيفة
عضوية حيوية يبادر كل فرد، طوعاً، إلى احتضانها، وإعادة تفعيلها: "لقد أصبحت الحياة
الآن... أحد أغراض السلطة" كما يقول فوكو. أما الوظيفة الأسمى لهذه السلطة فهي
إغناء الحياة أكثر فأكثر، في حين تتركز مهمتها الأولى على إدارة هذه الحياة.
وبالتالي، فإنّ القوة الحيوية تشير إلى حالة يكون فيها إنتاج نفسها، وإعادة
إنتاجها، موضوع الرهان المباشر في عملية السلطة.
حين تصبح السلطة سياسية ـ حيوية بصورة
كلية، فإنّ الجسد الاجتماعي كله يغدو متضمناً في آلية السلطة، ومتطوراً بصيغته
الافتراضية. و تبقى هذه العلاقة علاقة مفتوحة ونوعية ومؤثرة... وبالتالي يعبر عن
السلطة على أنّها رقابة تمتد إلى أعماق السكان، وتخترق كياناتهم على أصعدة الوعي
والجسد ـ وعبر العلاقات الاجتماعية بكليتها في الوقت نفسه". (انظر: الإمبراطورية ـ
إمبراطورية العولمة الجديدة ـ تأليف: مايكل هاردت، وأنطونيو نيغري ـ تعريب: فاضل
جتكر ، راجع النص: رضوان السيد ـ ص53-54)
ولقد عانت المجتمعات البشرية تاريخياً
من جور السلطات المطلقة (الاستبدادية)، فأخذت تبحث عن صيغ جديدة للسلطة العادلة،
فهل ستفلح في ذلك؟
السلطة المطلقة:
يرى الكثيرون من المفكرين، والباحثين
أن مختلف المجتمعات البشرية حُكِمَت في مراحل تاريخية مختلفة من قبل سلطات مطلقة
(استبدادية)، وأن السلطة المطلقة هي التي هيمنت في مختلف بقاع العالم، ومراحل تطوره
التاريخية، وقلما عرفت المجتمعات البشرية السلطة العادلة...
فما هي ميزات السلطة المطلقة، وما هي
عناصر قوتها، وهل هي مرتبطة بعرق، أو قومية، أو طائفة... وهل تستمد وجودها، وعناصر
قوتها من طائفة، أو قومية معينة في المجتمع؟ وكيف السبيل لتنعم المجتمعات البشرية
بالسلطة العادلة؟! وهل توجد سلطة عادلة وما هي ميزاتها؟
السلطة المطلقة نقيضة الحرية. إنّها
تستغل كافة جوانب الحياة والنشاط الاجتماعي، والديني، والاقتصادي، والسياسي لتعزيز
سطوتها؛ وهي مطلقة الصلاحيات، تكتسب عن طريق الانقلابات... يشمل العسف والظلم في ظل
سلطة الاستبداد جميع مجالات الحياة، الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، عن طريق
توحيد القوى المستفيدة منها: السياسية، والاقتصادية، والمالية، والدينية والعسكرية،
وفي الوقت نفسه تشتيت وإضعاف القوى المعارضة لنهجها.
وتمر عملية بناء السلطة المطلقة بمراحل
متعددة؛ تبدأ بالإجراءات المناهضة للحرية والديمقراطية، مثل إيقاف العمل بالدساتير
الديمقراطية، وسن دساتير تلائم السلطة المطلقة، والحكم بموجب قوانين استثنائية، وحل
الأحزاب، أو تحديد مجالات نشاطها، والهيمنة على وسائل الإعلام والصحافة.. وسن
القوانين والأحكام التي تعزز هيمنتها القانونية، والتشريعية على المجتمع، ويترافق
ذلك مع إجراءات على الصعيدين السياسي، والاقتصادي تؤمن لها جميع وسائل الهيمنة،
والتدخل في شؤون الاقتصاد والمجتمع، تساعدها في ذلك، غالباً، الهيمنة على قطاع
الدولة، الذي يعزز قوة السلطة، ويجعل قبضتها، كما يقول خلدون النقيب تمتد "إلى
تحديد أرزاق الناس، وماذا يأكلون ويشربون، حيث
أصبحت المواجهة بين الدولة، والمواطنين مواجهة
معيشية يومية متصلة، وغير متكافئة"،. (خلدون حسن النقيب، "الدولة التسلطية في
المشرق العربي"، ص202). و تلغي، على الصعيد الاجتماعي، مؤسسات المجتمع التي قد تشكل
خطراً عليها، وتبادر إلى تشكيل بنى اجتماعية، وجماهيرية، ونقابية، وتقيد نشاطها
بالقيود، والقوانين، وآلية الانتخاب، التي تجعلها خاضعة باستمرار لمراقبتها، والحد
من نشاطها... ولا تستثنى من ذلك المؤسسات الدينية، وكما يقول صادق جلال العظم؛ فإن
كل نظام حكم عربي، لا تنقصه
المؤسسة الإسلامية التي تفتي بأن سياسته تتفق مع
الإسلام. (انظر:
صادق جلال العظم، "نقد الفكر الديني" ـ بيروت: دار
الطليعة، 1969، ص 45-46( .. وهكذا تبنى ما اصطلح على
تسميتها "الدولة الأمنية" التي تقوم على القوة والعنف، وتستمد
أسباب استمرارها من القوة... (د. طيب تيزيني ـ من ثلاثية الفساد إلى المجتمع المدني
ـ دار جفرا دمشق ـ حمص ـ 2001)
وامتازت المجتمعات التي حكمتها
السلطات المطلقة بالركود، والأزمات
الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والتفاوت
الكبير في توزيع الدخل الوطني.. ووجود فئة طفيلية فاسدة قليلة تمتلك غالبية الثروات
الوطنية من أراضٍ وعقارات، وأموال، مع الجاه، والسطوة، والنفوذ، وتتحالف مع السلطة
السياسية
تطور مفهوم السلطة، وآلية الحكم في
الدولة العصرية، وأصبحت السلطة تحتاج إلى مجموعة من الصفات، والشروط، كي يعترف بها،
ولكي تمتاز بالشرعية، والديمومة، وتستطيع البقاء.. ومن أهم هذه الصفات: الرضا
والقبول من أبناء المجتمع، والتداول السلمي لها، والمساواة القانونية والحرية،
لتبنى دولة لجميع أبنائها. ويرى أحمد زكي بدوي انّ السلطة "تأخذ طابعاً شرعياً في
إطار الحياة الاجتماعية، والسلطة هي القوة الطبيعية، أو الحق الشرعي في
التصرف، أو إصدار الأوامر في مجتمع معين، ويرتبط هذا الشكل من القوة بمركز اجتماعي
يقبله أعضاء المجتمع بوصفه شرعياً، ومن ثم يخضعون لتوجيهاته، وأوامره
وقراراته". (انظر:
Ahmed Zaki Badawi, A Dictionary of the social
sciences English –
French – Arabic with an Arabic – English
Glossary and a French – English Glossary (Beirut: Librairie du Liban, 1978)
ومن المعروف تاريخياً
أنّ
الصراع الفكري حول أنظمة الحكم
والسلطة تركز
بين
مذهبين أساسيين:
ـ
مذهب الحكم المطلق:
الذي يرى في الحاكم استمراراً لسلطة الله على الأرض، ويستند في أيديولوجيته إلى
العهد القديم من الكتاب المقدس، الذي أسس للنظام الأبوي البطريارخي
Patriarchalism
، ووجد في السلطة الشمولية، والمطلقة استمراراً له.
ـ
مذهب " العقد الاجتماعي
Social
Contract
:
الذي يفسر نشأة الدولة،
والسلطة
على أساس تعاقد بين الأفراد كجماعة، أو بينهم وبين الحكام... ويمثل ذلك نقلة نوعية
باتجاه الحكم الديموقراطي، حكم الشعب الحر..
ومما لا شكّ فيه أن مذهب العقد
الاجتماعي ثمرة من ثمار العلمانية، والعلمانية شرط ضروري لتحقيقه.
فما هي العلمانية
يفسر البعض العلمانية بأنّها إقامة
الحياة بعيدا عن الدين، أو الفصل
الكامل بين الدين والحياة. ويستنتجون أن لا علاقة
للكلمة بالعلم إنما علاقتها
قائمة بالدين على أساس سلبي أي على أساس نفي الدين والقيم الدينية عن
الحياة، وهذا تفسير خاطئ. ويرى البعض أن الإسلام يرفض العلمانية من ألفها إلى
يائها، وهذا أمر غير سليم أيضاً، فقد دعا كثيرون من المفكرين المسلمين إلى الأفكار
العلمانية، فكان الشيخ رفاعـة رافع الطهطاوي، على سبيل المثال، من أوائل الداعين
إلى الأفكار العلمانية في مصر، بعد ذهابه إلى باريس ـ بترشيح من أستاذه الشيخ حسن
العطار ـ سنة (1241هـ/1826م) مع بعثة كبرى ليقيم الصلاة في أعضائها، فاطلع على كتب
المفكرين الفرنسيين كروسو، ومونتسكيو، وفولتير، وعاين الحياة الفرنسية وسعى لتطبيق
المفيد منها في بلاده. وأصبح القسم الأكبر من المصريين الذين دخلوا المدارس الحديثة
بين عامي (1831م و1880م) (1246هـ ـ 1297هـ) من تلاميذ رفاعة المباشرين أو غير
المباشرين، وهو من أوائل الداعين إلى (تحرير المرأة)، وساهم الطهطاوي في بزوغ وعي
وطني مصري بمفهوم حديث، فـ «كان هو الأول في تمييز (الوطن) عن (الأمة الإسلامية)...
وها هو كل شيء يبدو في صورة جديدة: لقد بدَّد ابن طهطا ظلمات القرون الوسطى التي
طغت في البلاد... ».
وساند محمد علي على (إصلاح) التعليم
فشرع في تأسيس المدارس النظامية والمعاهد المتخصصة. كما ساهم محمد علي في مجال
القضاء والتشريع: في بناء الدولة الحديثة في مصر، وسعى محمد علي لتقليص نفوذ
القضاء الشرعي، وشجع على سن القوانين العصرية.. وظهر العديد من المفكرين العرب
الذين دعوا إلى النهضة وبناء المجتمع على أسس علمانية متحضرة... والتفكير العلماني
ليس غريباً بتاتاً عن الفكر العربي كما سنرى لاحقاً...
تعود أجنة التفكير العلماني في أوربا
إلى القرن السابع عشر، فكان من الداعين إليها فولتير (1694- 1713) وروسو، وليسنغ
(1729- 1781) وجون لوك (1632- 1714) وهوبز ( 1577- 1679).
وتطورت على يد فيورباخ، والماركسية.
فالعلمانية
من Secularity
اللاتينية وСветский
الروسية، تعني الدنيوية، أو
الزمنية، وهي مفهوم يصف ممارسة شؤون الحياة وفق متطلباتها الزمنية، وعدم تقييدها
بالقيود الدينية، كالسفر واستخدام وسائل المواصلات يوم السبت، خلافاً للقيود
الدينية اليهودية، أو تقييد الاستحمام وأساليب وأنواع الأكل وعدم حضور دروس الأحد
في الكنيسة، أو دروس الجمعة في الجامع، وقص الشعر يوم الاثنين، وتنظيف المنزل من
الأوساخ ليلاً...الخ.
وكان أحد أسباب ظهورها وانتشارها تحول رجال الدين إلى طواغيت ومحترفين
سياسيين ومستبدين، ووقوف الكنيسة ضد العلم وهيمنتها على الفكر وتشكيلها محاكم
التفتيش واتهام العلماء بالهرطقة... مثال على ذلك تحريمها كتاب حركات الأجرام
السماوية لكوبرنيكوس الذي نشر عام 1543م...
والعلماني المتنور يضع الدين في مكانة
إنسانية ذاتية سامية، مع اعتقاده بأن من المتعذر إدارة شؤون الحياة اليومية وفق
التشريعات
الدينية، ومواكبة متطلبات العصر بما تقتضيه من تشريعات جديدة واستحداث
قوانين تنظم شؤون الحياة اليومية التي لم تكن
موجودة في النصوص الدينية، كتنظيم الإعمال التجارية والشركات، والمنظمات
الاجتماعية، والجامعات التي تتصف بالزمنية أي (العلمانية) فضلاً عن سن القوانين
العصرية الملائمة لحقوق الإنسان وفق المعايير الدولية الحديثة، لذلك
ولغيره من الأسباب يعتقدون بوجوب عزل الدين عن
السياسة. ونتيجة لذلك ظهرت الحكومات
العلمانية التي تتبع القوانين المدنية...
نعود ونؤكد أنّ العلمانية ليست معاديةً للدين، وهي ليست مرادفة للإلحاد، بل البعض
يعزز ضرورتها وأهميتها استناداً إلى قول السيد المسيح "أعط ما لقيصر لقيصر، وما لله
لله"، ويستند بعض الدعاة المسلمين في رفضهم العلمانية إلى ما جاء في سورة الأنعام
162(
قل إن صلاتي
ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين) سورة الأنعام: آية 162
مؤكدين أن
حياة المسلم كلّها لله. ومع ذلك لم أجد في تفسير الطبري لهذه الآية، أية دعوة
لتجنب العلمانية...
جاء في تفسير الطبري لهذه الآية: "قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى
الله عليه وسلم: (قل)، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام, الذين
يسألونك أن تتبع أهواءهم على الباطل من عبادة الآلهة والأوثان =(إن صلاتي ونسكي)،
يقول: وذبحي (ومحياي)، يقول: وحياتي (ومماتي) يقول: ووفاتي =(لله رب العالمين)،
يعني: أن ذلك كله له خالصًا دون ما أشركتم به، أيها المشركون، من الأوثان =(لا شريك
له) في شيء من ذلك من خلقه, ولا لشيء منهم فيه نصيب, لأنه لا ينبغي أن يكون ذلك إلا
له خالصًا (وبذلك أمرت)، يقول: وبذلك أمرني ربي =(وأنا أول المسلمين)، يقول: وأنا
أوّل من أقرَّ وأذْعن وخضع من هذه الأمة لربه بأن ذلك كذلك."
كما أنّ التأكيد على أنّ حياة المسلم كلها لله، لا يعني عدم تنظيم المجتمع على أسس
علمانية متحضرة، فضلاً على أنّه إذا نظرنا إلى الفكر نظرة موضوعية عامة نراه نتاجاً
إنسانياً عاماً، وبالتالي نستطيع القول إن العلمانية كمفهوم وكفكر هي نتاج إنساني
عام... وعلى الرغم من أنّها وجدت وطبقت في الغرب أولاً، فلا يعني ذلك أنّها حكراً
على الغرب، وأننا لسنا بحاجة لها، أو أنها غريبة عنا... فكما أن الفكر الإنساني
العام ليس غريباً عن أي شعب من الشعوب فهي ليست غريبة عنا، وإنني أدعو الداعين
لرفضها، إلى الاقتداء بالخليفة عمر بن الخطاب، عندما جاءه أبو هريرة وكان والياً
على البحرين، ومعه مال كثير، فخطب عمر بالناس وقال جاءنا مال كثير، فإن شئتم كلناه
كيلاً، وإن شئتم نعده عداً، فخشي بعض الصحابة ألا يكون للغائب عن القسمة نصيب، فقام
إليه رجل زار فارس فقال: يا أمير المؤمنين، قد رأيت هؤلاء الأعاجم يدونون لهم
ديواناً، فقال عمر دونوا الدواوين!". ألا تدل هذه الواقعة على أنّ الخليفة العادل
والمشهود له بالغيرة على الإسلام لم يجد حرجاً أن يقتبس نظاماً من الأعاجم، ولم
يستنكره بدعوى أنّه "مستورد"؟! ألا يبرهن ذلك على حاجتنا للاستفادة من العلمانية؟!
أجل يوجد من يقول إنّ
العَلمانية غريبة عن مجتمعاتنا... لكننا نرى أن
العَلمانية مثلها مثل الديمقراطية، والاشتراكية، فكرة، وقيمة إنسانية عامة تهم
البشرية جمعاء، بل إن جميع المجتمعات، والشعوب بما فيها الشعوب العربية،
والإسلامية، عرفت في حياتها العملية، النزعات الديمقراطية، والاشتراكية،
والعَلمانية، بهذا الشكل أو ذاك.
ويؤكد البحث العلمي في
تاريخ تطور الحضارة العربية إبان العصر الوسيط والتنقيب المجرد عن الهوى في الواقع
الموضوعي الذي عرفه العرب، مع انتقالهم إلى المجتمع الطبقي منذ عصر الدولة الأموية،
أنّ أسس بناء الدولة أخذت تتناقض عملياً، مع الأيديولوجيا الغيبية... وبدأ العرب
ببناء الدولة على أسس أقرب إلى الزمنية العقلانية، منها من الغيبية، وأخذت تتطور
نزعات فلسفية تقارب العقلانية، وأكد بعض المفكرين كالمعري أن "لا إمام سوى العقل"،
وتبنى البعض نظرية القدرية التي تؤمن بحرية إرادة الإنسان ضد الجبرية... وتبنى، بل
طور ابن رشد نزعات مادية في فكر أرسطو، فأكد أن المادة، والحركة خالدان، وساهم في
وضع أجنة المنهج الديالكتيكي... ووضع ابن الهيثم أسس البحث العلمي القائمة على
الموضوعية والشك والنقد والتجرد عن الهوى، وطور ابن سينا المعارف التجريبية. كل ذلك
يدل على أن للعلمية والعقلانية، وللزمنية (العلمانية) جذور في الفكر العربي
الإسلامي، وهي ليست غريبة عن مجتمعاتنا، ولا عن شعوبنا، أو فكرنا... ولولا تلك
النزعات العلمية، وبعض الأسس التي استندت على مقومات زمنية (عَلمانية) لم يستطع
العرب بناء دولة يصل إشعاعها إلى أوربا والصين...
العلاقة بين الفكر الديني
والفكر العلماني
ولم يقتصر الهجوم على
العلمانية على مفكرين مسلمين، بل وعلى مفكرين من مختلف الديانات...
ومرت العلاقة بين الفكر الديني والفكر العلماني في العالم أجمع، وليس في البلدان
العربية والإسلامية وحدها، بمراحل متنوعة، ففي أواسط عصر الثورة الصناعية أزاحت
القوى العَلمانية في أوربا مؤسسات الدين المنظم عن السلطة، وحَدَّت من هيمنته على
المؤسسات التعليمية، وعلى مؤسسات الدولة بشكل عام... فتقلصت سلطة الدين الاجتماعية،
والأخلاقية، والسياسية... ووصلت الأمور في أواسط القرن العشرين إلى درجة تهجم
الصحافة على الدين، فهبت الكنيسة والمؤسسات الدينية الأخرى للرد، ووجهت هجوماً
عنيفاً على العلمانيين، وعلى الفكر العلماني...
أما اليوم، فإننا نرى تراجع
العَلمانية، إذ أخذت اللوحة تتبدل منذ أواخر القرن العشرين، الذي شهد صعوداً
للتيارات الدينية والفكر الغيبي، في مختلف أنحاء العالم بما فيها الدول الصناعية
المتقدمة، والذي مهد لظهور التطرف، وولادة المنظمات الإرهابية في مختلف أصقاع
العالم: من اليابان، والهند الصينية، وشبه القارة الهندية، إلى أوربا، وأمريكا
والشرق الأوسط... ومن المفيد والضروري التمعن في أسباب ذلك؟
مما لاشك فيه أنّ هذه الظواهر تعبر عن
أزمة تعيشها المجتمعات البشرية... ولم يكن الهجوم المتعصب ضد العَلمانية ليجد "صدى
له لو أنّ الحضارة الصناعية، وهي مهد العَلمانية، لم تكن هي نفسها تعاني من أزمة ـ
أخلاقية، واجتماعية، وفكرية ـ ولم تعد تقدم نموذجاً جذاباً يحفز بقية العالم،
والواقع إن الدول الصناعية الممزقة في أعماقها لم تعد تظهر كما كانت من قبل وكأنّها
قوى لا تقهر... وفي اللحظة التي أخذ عصر الصناعة يمضي نحو أزمته هوجمت فلسفته
العَلمانية المسيطرة من الداخل، ومن الخارج في آن واحد، في حين استعادت النزعة
الأصولية والدين مركزها الأول". ( ألفين توفلر ـ تحول السلطة ـ ترجمة حافظ الجمالي
ـ أسعد صقر ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 1991 ـ ص 673:680)
ولقد أصبح واضحاً أنّ بلدان أوربا
الشرقية والاتحاد السوفيتي، أو ما عرف بالمنظومة الاشتراكية العَلمانية، كانت تعيش
أزمة اقتصادية وسياسية وفكرية خانقة أوصلت مجتمعاتها، ومن سار في فلكها إلى طريق
مسدود، كما أنّ المجتمعات الصناعية الأخرى في أوربا وأمريكا واليابان لم تستطع
معالجة مشاكل الاستغلال والتمييز في داخلها، وأخذت تطغى وتهيمن فيها مرحلة تقانة
المعلومات على المرحلة الصناعية... وما يتركه ذلك من أثر على الوعي الاجتماعي،
فضلاً عن استمرار معاناة شعوب العالم الثالث من مخلفات الاستعمار والاحتلال، والذي
أخذ أبشع صوره في الاحتلال الإسرائيلي الصهيوني لفلسطين والجولان وباقي الأراضي
العربية المحتلة، والتعامل الإرهابي الوحشي من قبل الحكومة الإسرائيلية التي تدعو
لإقامة دولة دينية لليهود، تحت ستار العَلمانية، تلك الحكومة المدعومة من حكومات
غربية تتبنى العَلمانية وتدعم قيام دولة على أسس دينية عنصرية في الوقت نفسه... خلق
ذلك كله الظروف المناسبة لزعزعة ثقة الناس بالعَلمانية، ومهّد السبيل للبحث عن
بدائل أخرى...
وهكذا أخذت تظهر على الصعيد العالمي
حركات تعبر عن الأزمة التي تعيشها الإنسانية: ففي الولايات المتحدة الأمريكية ظهرت
حركة عبدة الشيطان، والحركة الهيبية التي شنت هجوماً عنيفاً على منجزات العَلمانية،
وعلى ثقافة المجتمع الصناعي، وانتشر التصوف، والمخدرات، والتنجيم، والإيمان بأديان
تكاد لا تكون معروفة... وأخذت الحركة الهيبية تبشر بالعودة إلى ماضٍ أسطوري مليء
بالمفاتن، يلتصق بالأرض بعيداً عن بهارج المجتمع الصناعي. و"في اليابان أصدرت وزارة
التربية في عام 1989 قراراً مثيراً للجدل يقضي بأن يتعلم التلاميذ احترام
الإمبراطور الذي هو الكاهن الأكبر للشنتو". ومع بدء عملية الإصلاحات في الاتحاد
السوفيتي (السابق)، ورفع القيود، وتنفس نسيم الحرية بدأ لهيب الأصولية الدينية
الإسلامية، والمسيحية يلفح البلاد، وأخذ الأذريون المسلمون والأرمن المسيحيون
يتذابحون في القوقاز، مع بروز علامات أصولية مسيحية.
و"قد شنّ الأصوليون المسيحيون الغاضبون
من الرفض الإلحادي الذي أعلنته الحركات الهيبية ضد المسيحية التقليدية التي بلبلها
تصدع عالمها المألوف، شنوا حرباً مضادة مضنية ضد العَلمانية اتخذت في الحال شكل عمل
سياسي فعال إلى درجة قصوى...
"إنّ ما نشهده هو هجوم منظم، إنّه
تعتيم في سماء وأفكار عصر الأنوار... وإذا كانت جميع هذه الحركات تختلف بوضوح فيما
بينها، وتصطدم كل منها بالأخرى في كثير من الأحيان. وإذا كان بعضها متطرفاً والبعض
الآخر غير ذلك، فإنّ جميع المتطرفين الذين... يتفقون في نقطة هي عداؤهم للعلمانية،
وهي الأساس الفلسفي للديموقراطية".( ألفين توفلر ـ تحول السلطة ـ ترجمة حافظ
الجمالي ـ أسعد صقر ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 1991 ـ ص 673:680)
ومن الأمور التي زعزعت عملية صعود
الفكر العَلماني، ووجهت ضربة له: الصراع الذي شهده العالم إبان الحرب الباردة، بين
المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، وتسعر الصراع بين الطبقتين العاملة،
والبرجوازية...
ويبقى تآلف العلمانيين والمتدينين
المتنورين وسيلة ضرورية لتقدم الحضارة الإنسانية، وعاملاً مساعداً في خروج
الإنسانية من أزمتها ومن خبلها. يوجد من يعترض على هذا التآلف، واصفاً مثل هذه
الأفكار بالطوباوية بحجة أنّ رجال الدين المنظم كانوا يحتكرون مصادر إنتاج، ونشر
المعرفة في المرحلة الزراعية، وما قبل الزراعية، قبل عصر التنوير وحلول الديمقراطية
في الغرب، فحاصروا العلم واضطهدوا العلماء، وهم يعملون اليوم على إعادة "إحياء هذه
السلطة الاحتكارية على العقول"، وهم بذلك يسدون جميع سبل الاعتراف بالآخر
العلماني...
لكن، ومن جانب آخر فقد أثبتت التجربة
التاريخية أنّ الدين حاجة اجتماعية إنسانية، من الخطأ تجاهلها، أو محاربتها، مع
التأكيد على أنّ الدين وحده لا يبني دولاً ومجتمعات متقدمة متطورة... ومن الضروري
بناء الدول على أسس علمانية ديموقراطية تسمح بتفتح، وتطور جميع مؤسساتها
وبنيانها... كما أنّ الدين ليس عدو الديمقراطية، وفي مجتمع متعدد الأديان، ومع فصل
واضح بين المؤسسات الدينية، ومؤسسات الدولة، يضيف تنوع المعتقدات، واللامعتقدات
أفقاً جديداً إلى التفاعل الاجتماعي الديموقراطي المثمر. وفي كثير من البلدان تشكل
الحركات الدينية قوة أساسية إن لم تكن وحيدة تعارض استبداد الأنظمة... بل يلعب
الدين دوراً وطنياً مهماً في مقارعة الاستعمار، والاحتلال... مما يؤكد ضرورة تآلف
القوى الوطنية من دينية وعلمانية لإنجاز مهام كل مرحلة تاريخية تنتصب أمام الشعوب
والمجتمعات، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّه خلاله اليقظة الدينية العملاقة في كثير من
البلدان يتكاثر المتعصبون الذين يحاولون بضراوة إحياء سيطرة ثيوقراطية قاتلة على
العقول والعادات التي لا تنسجم مع مبادئ الديمقراطية... وهذا لا يقتصر على الحركات
الدينية، بل إنّ بعض الحركات العَلمانية لا تنسجم مع الديمقراطية أيضاً بما فيها
الأيديولوجيات السياسية التي تخلط الشمولية بالعَلمانية. إن التمعن العميق في هذه
اللوحة يبين وجود هوامش مشتركة بين المتدينين المتنورين، والعلمانيين، من الضروري
تطويرها، وتعزيزها، على أسس الحوار الديمقراطي، لبناء مجتمع سليم معافى بعيداً عن
التطرف، والاستغلال... والسلطة العلمانية الديمقراطية المتطورة العادلة هي أساس
مجرب يمكن البناء عليه لتحقيق ذلك ..
السلطة العلمانية الديمقراطية:
إنّ بناء المجتمع والدولة
على أسس حضارية حديثة تنسجم مع متطلبات العصر، دولة ذات بنية سياسية تعددية تداولية
دستورية عادلة، يحتاج إلى اعتماد مبادئ العَلمانية في التفكير والممارسة.. مع عدم
تجاهل حقيقة أن المذهب العَلماني، ووجود العَلمانيين يتطلب توفر الظروف الاقتصادية
الاجتماعية المتطورة في أي مجتمع كي تتجذر فيه بشكل سليم... ومن المعروف أنّ أساس
الحكم في الدولة العلمانية هو العقد الاجتماعي الذي يتجلى في السلطة الديمقراطية
العادلة.
لقد أثمر نضال الشعوب الأوربية بناء
دول تقوم على القوانين والدساتير وفصل السلطات، مما حد من السلطة البطريارخية،
والمطلقة، وأسس للسلطة الديمقراطية... والوسيلة الأساسية للانتقال إلى الديمقراطية
هي إعمال العقل، وعقلنة العلاقات الاجتماعية، والاقتناع بأنّ الحكام ليسوا مقدسين،
ولا يملكون أي حق إلهي في حكم الشعوب.. والتوصل إلى المبادئ الديمقراطية في
الحكم...
نستطيع إجمال المبادئ التي حددها المفكرون، لخلق مجتمعات وبنى اجتماعية تكفل مبدأ
العدالة والمساواة في الفرص المتاحة لجميع الناس في الأنظمة الديمقراطية، فيما يلي:
ـ
بناء نظام سياسي اجتماعي وفق عقد اجتماعي أساسه التراضي بين الحكام والمحكومين..
ـ
فصل السلطات التشريعية، والقضائية، والتنفيذية، وتنظيم العلاقة بينها وفق أسس
وقوانين واضحة، وعدم هيمنة أية
سلطة على الأخرى..
ـ
سيادة القانون والمساواة أمامه، والتطوير المستمر للقانون بما ينسجم مع التطور
الاجتماعي..
ـ
الحرية بالمعنى العام هي منطلق الديمقراطية، والمساواة في الاستفادة من الفرص
المختلفة لتطور الفرد، والمجتمع..
ـ وجود معارضة وطنية تساهم مساهمة
فعالة في تبيان النواقص وتعزيز أسس العدالة وتساند الدولة في معالجة المهام
الوطنية... والتداول السلمي للسلطة بين أحزاب تبنى وفق دستور يؤكد على التعددية
وتداول السلطة، بعيداً عن احتكارها من قبل حزب محدد أو مجموعة من الأحزاب، ووفق
قانون أحزاب وطني عصري، ينبذ كافة أشكال التفرقة والتمييز... فالمعارضة عنوان
الأوطان، وجودها عنصر قوة للدولة والوطن، وغيابها يضعف الدولة والمجتمع.
لقد أثبتت التجارب أنّ العلمانية ضمانة
لوحدة الأوطان وتقدمها، في حين أن إقامة الدول على أسس تتخلف عن العلمانية يخلق
الممهدات والظروف التي تؤدي إلى تفتت الأوطان؛ وما المخاطر التي تحيق بالسودان
الشقيق إلاّ برهان على ذلك... والتي تعود بعض أسبابها إلى أساليب الحكم التي لم
تعتمد العلمانية، بل ذهب بعض الحكام إلى تسمية أنفسهم أمراء المؤمنين، في بلد قسم
كبير من أبنائه لا يعترفون بتلك الأمارة، هذا فضلاً عن التدخل والتغلغل الخارجي
المعادي الذي خلقت له أساليب الحكم غير العلمانية الظروف المناسبة لتنفيذ
مشاريعه... فالبلدان، وخاصة ذات التعددية الدينية والقومية بحاجة إلى حكم علماني
يوحد نسيجها الاجتماعي على أسس حضارية مجربة سليمة.
واقع العَلمانية في الوطن العربي
ويبقى السؤال مطروحاً بإلحاح: لماذا لم
ينجح المشروع العَلماني في بلادنا؟ وما السبل لنجاحه. سنحاول طرح بعض الأفكار التي
نراها مفيدة للبحث والنقاش جواباً على هذا السؤال.
لم ينجح المفكرون العرب في غرس الفكر
العلماني في المجتمعات العربية، ولعلّ أسباب ذلك تعود إلى عوامل ذاتية، وعوامل
موضوعية في البنية المجتمعية. وعند البحث عن الجانب الذاتي من الضروري التعرف إلى
مناهج التفكير التي اتبعها هؤلاء المفكرون، وتبقى أسئلة مشروعة تنتصب دائماً في وجه
الباحث: كيف استطاع الفكر الأوروبي أن ينهض ويؤسس لحالة متجددة واسعة الآفاق، في
حين أن الفكر العربي، منذ عهد النهضة، لم يستطع تجاوز ما تم إنجازه من قبل الفكر
الغربي، بل بقي تابعاً يتكأ على ظلال الفكر الغربي، وبالتالي على ما يترجم من ذلك
الفكر؟
ومن أسباب ذلك أنّ الفكر الأوربي،
إبان، وبعد نهضته، قام على جملة من الأمور المتكاملة أساسها العقل والعقلانية، أمور
تشمل العلوم الرياضية، والعلوم الطبيعية، والميكانيك وعلم القانون والمنطق،
والفلسفة بمختلف اتجاهاتها العقلانية والتجريبية غير غافل لقوانين الطبيعة.. وتم له
ذلك في كنف نهضة اقتصادية وصناعية واجتماعية.. في حين اكتفى العقل العربي بمقولات
عامة مترجمة وشبه لفظية، ولم يتعرض بعمق لأسباب الانحدار والانحطاط، وابتعد عن
دراسة بنية المجتمع والأمة، لمعرفة الأسباب الكامنة في البنية الاقتصادية
الاجتماعية السياسية لهذا الانحطاط التي ولد في كنفها..
الخلل الجوهري في نشاط الأحزاب اليسارية:
تعد
الأحزاب اليسارية والقومية من الحوامل الأساسية للفكر العلماني والاشتراكي في
العالم العربي، وتوقف على نشاطها بشكل أساسي مستقبل هذا الفكر... فكيف تجسد عملها
ونشاطها لنشر مبادئ اليسار، والعَلمانية، ولماذا لم توفق في تحقيق مشروعها، ولم
تستطع نشر وتجذير، وتبيئة هذا الفكر في المجتمعات العربية؟
إنّ
أحد جوانب الخلل في نشاط الأحزاب اليسارية، والقومية في البلدان العربية، الذي أدى
إلى ضعف القوى العَلمانية في العالم العربي، والأنظمة التي بنتها، هو عدم إعارتها
الاهتمام الكافي لمسائل الديمقراطية، والمجتمع المدني..
ومع
وجود خلل في تناولها
للمسألة الاجتماعية، مع تكرارها لشعارات مترجمة ترجمة باهتة،..
بقي هذا الخلل يرافق نشاطها
ولم
تستطع التحرر من الجمود الفكري... وتستدعي معالجة هذا الخلل وقفة نقدية موضوعية
جريئة، تستند على الأسس الموضوعية التي عرفها العالم والعرب إبان بناء دولتهم التي
عم إشعاعها العالم...
وفي سياق الحديث عن نهضة العرب الفكرية
والحياتية لا يمكن تجاهل فعل المشروع الصهيوني في المنطقة، وأثره السلبي الكبير
على تطور المنطقة بشكل عام، انطلاقاً من أنّ أحد مرتكزات نجاح المشروع الصهيوني
العنصري هو زيادة تخلف العالم العربي، والتخلف الفكري هو من أسس كل تخلف... من غير
المنطقي أن نعترف بأثر وتأثير الصهيونية على أقوى بلدان العالم، ونتجاهل دورها
وأثرها في البلدان العربية...
إنّ أحد سبل مواجهة التحديات التي
تواجه العالم العربي على كافة الصعد، بما فيها مواجهة المشروع الصهيوني العنصري
العدواني، هو تحقيق النهضة الشاملة على كافة الصعد التنموية الاقتصادية،
والاجتماعية، والسياسية، وأساس هذه النهضة هو البنية السياسية الاجتماعية
الاقتصادية المدنية السليمة، في دولة علمانية مبنية على أسس ديموقراطية عصرية
عادلة، ويعد ذلك من الشروط الضرورية واللازمة لنشر الفكر العلماني الديموقراطي
المتنور، وهو من أسس نهضة العرب وتقدمهم..