ليبيا تصرخ

أين العدالة الدولية؟!!

حسام مقلد *

[email protected]

يتابع العالم عبر شاشات التلفزيون بحور الدم الليبي تهراق منذ أيام في شوارع طرابلس وبنغازي ومختلف المدن الليبية الأخرى، ويرى الناس في كل أرجاء المعمورة وحشية ونذالة وجبروت السفاح المجرم القذافي ونظامه الظالم الذي يدك المتظاهرين الليبيين العزَّل المسالمين بالطائرات والمدافع والدبابات، بل وحتى بقطع البحرية كما تناقلت بعض وكالات الأنباء، إنها إذن حرب شاملة تدور رحاها برا وبحرا وجوا،  يشنُّها على الشعب الليبي الأعزل نظام فاشي يحكمه ديكتاتور مجنون أقل ما يوصف به أنه طاغية حاقد على شعبه والعالم، ذو شخصية سيكوباتية غير سوية، لديها نزعة سادية واضحة جدا، إضافة إلى كونه مصابا بجنون العظمة (البارانويا) كما ظهر جليا في خطابه الأخير!!

ورغم صور الجثث المتفحمة والأشلاء الممزقة والأعضاء المتناثرة التي تملأ وسائل الإعلام العالمية المختلفة، ورغم أصداء هذه الجرائم المروعة وغير الإنسانية التي اركبها السفَّاح القذافي، وهزت أرجاء الدنيا كلها أتت ـ حتى الآن ـ ردود الأفعال العربية والإسلامية والدولية باهتة باردة لا تتناسب أبدا وبحار الدم التي أغرق فيها هذا المجرم المعتوه شعبه الليبي الأعزل، فأين هي العدالة الدولية من هذه الجرائم الوحشية والمجازر البشعة التي يرتكبها تحت سمع وبصر العالم أجمع هذا الطاغية المجنون الجاثم على صدر ليبيا منذ نحو اثنين وأربعين عامًا؟!! أين هي الدول العربية الشقيقة وأنظمتها الرسمية المختلفة؟ بل أين الشعوب العربية من مأساة أشقائهم الليبيين؟! أين علماء العرب ومشايخهم ومثقفوهم ومفكروهم وفنانوهم؟! أين الملايين التي تهيِّجُها مباراة لكرة القدم، وتثير حماستها متسابقةٌ تافهةٌ في برنامج تافه على شاكلة ستار أكاديمي؟! أين المنظمات الإقليمية: كالجامعة العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، والاتحاد الأفريقي؟! أين الأمم المتحدة والاتحاد الأوربي والولايات المتحدة مما يفعله هذا المجنون الآثم بأبناء شعبه الأبرياء العزَّل؟! أين كل هؤلاء جميعا من جرائم الإبادة الجماعية التي يرتكبها النظام الليبي الغاشم؟!

 أين المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية (لويس مورينو أوكامبو) وهو المسؤول عن التحقيق والملاحقة القضائية لمرتكبي جرائم الحرب، وجرائم الإبادة الجماعية المرتكبة ضد الإنسانية؟! ألم يسمع بجرائم الإبادة الجماعية التي يرتكبها المجرم القذافي بحق أبناء شعبه الأعزل؟! ألم يسمع عن سقوط  نحو عشرة آلاف ليبي بين قتيل وجريح في خمسة أيام فقط من المظاهرات والاحتجاجات السلمية التي ينظمها الآلاف من شعبه مطالبين برحيله؟! ألم ير صور الضحايا من الأطفال والنساء والشيوخ والرجال؟! ألم يصدر (أوكامبو) مذكرة توقيف اعتقال بحق الرئيس السوداني عمر البشير متهماً إياه "بتعبئة كل أجهزة الدولة السودانية بقصد ارتكاب جريمة إبادة جماعية في دارفور"؟! ألم يهيج (أوكامبو) المجتمع الدولي ضد البشير قائلا: إنه استخدم أسلحة "الترهيب، والاغتصاب، والتجويع" لارتكاب جرائمه ضد ملايين النازحين في دارفور؟!! كل هذا قاله (أوكامبو)عن مشكلة دار فور رغم معرفته التامة أن جوهر القضية هناك ليس إبادة جماعية، وإنما صراع بين جماعات انفصالية مسلحة وبين حكومة شرعية للسودان، فإذا سلمنا بأن دوافع (أوكامبو) ليست سياسية وأنه إنما يؤدي دوره فقط في حماية الإنسانية في دارفور، فأين دوره في حماية الإنسانية في ليبيا؟! ما رأيه في كل هذه الجرائم البشعة التي يرتكبها مجرم الحرب القذافي؟! هل يبيح القانون الدولي ضرب رئيس لشعبه الأعزل بالطائرات والدبابات والعربات المصفحة ومختلف الأسلحة بما فيها القنابل المحرمة دوليا؟! أيسمح العالم في القرن الحادي والعشرين بارتكاب مثل هذه المجازر البشعة لمدنيين أبرياء عزَّل من السلاح كل جريمتهم أنهم تظاهروا ضد القمع والبطش والجبروت وانتهاك حقوق الإنسان وإهدار الحريات العامة؟! أليس التظاهر السلمي من حق أصيل لجميع الشعوب بموجب نصوص مواثيق حقوق الإنسان العالمية؟! هل يقبل العالم كل هذه الجرائم الفظيعة التي ارتكبها القذافي بحق شعبه لمجرد الحرص على النفط الليبي والحفاظ على المصالح الغربية مع هذا السفاح؟! لقد صدع الغرب رؤوسنا دائما بالحديث عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، بل وحتى حقوق الحيوان، ولا ينسى كبار ساسته أن يذكرونا في كل مناسبة بما يسمونه مأساة الأسير الإسرائيلي المدعو شاليط الذي تحتجزه حماس، في حين يتناسون تماما  المأساة الحقيقية لنحو أحد عشر ألف أسير فلسطيني تعتقلهم إسرائيل في سجونها!! فهل تكون القضية الليبية نموذجا آخر للكيل بمكيالين والتمييز الذي يمارسه الغرب والمجتمع الدولي كله ضد العرب والمسلمين في جميع أنحاء الدنيا؟! وهل يقدر حكماء العالم ومفكروه وساسته خطورة هذه المواقف غير العادلة وغير المسئولة على الأمن والسلم العالمي؟!!

ونؤكد هنا على عظمة الإسلام الخالد الذي حرَّم قتل النفس البشرية إلا بالحق، قال تعالى: "مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا" [المائدة : 32] وقال سبحانه: "وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا" [الإسراء : 33] كما يحرص الإسلام كل الحرص على تحقيق العدل بين الناس جميعا، ويحث أتباعه على قول الحق دائما، وإنصاف المظلومين، والحكم بين الناس بالعدل، قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ" [النساء:135] وقال عز اسمه: "وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ"  [البقرة:123] وقال سبحانه: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا" [النساء:58] وعن عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ قال: "بايعنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالعدل أين كنا، لا نخاف في الله لومة لائم" (رواه النسائي، وصححه الألباني).

وختاما أسأل الله تعالى أن يحقن دماء الشعب الليبي، ويحفظ أبناءه: كبارهم وصغارهم، ورجالهم ونساءهم، وشبابهم وأطفالهم، كما أسأله عز وجل أن يصون وطنهم من كل شر، ويحميهم ويعصمهم من كل فتن القذافي السفاح المجرم الذي لا يرقب في ليبي ـ ولا في أي إنسان...!! ـ إلًّا ولا ذمة، "وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" [يوسف : 21].

                

 * كاتب إسلامي مصري