قال: إن مجزرة (بو سليم) هي السبب
هل يعني هذا لكم شيئاً؟!
زهير سالم*
بالأمس كان محلل ليبي على إحدى الفضائيات العربية يتحدث عن أسباب تفجر الثورة الليبية فقال: سأكون صريحا، لم تكن أسباب الثورة الليبية مطالب معاشية كما كان شأن أهلنا في تونس، مع أننا مدينون بقبلة نطبعها على رأس والدة البوعزيزي. ولم تكن الثورة الليبية ناتج حراك شبابي على الفيسبوك كما كان حال إخواننا في مصر. كانت ثورتنا الليبية ناتج حالة الاحتقان الناشئة عن إصرار النظام الليبي على تغييب مصير ضحايا مجزرة ( بوسليم )، رغم مرور السنوات الطوال. يضيف المحلل الليبي لقد أصر النظام على تغييب قبور هؤلاء الشهداء حتى في حوارات المصالحة التي دخلناها مع سيف الإسلام منذ عامين..
يضيف المحلل كان في مقدمة المتظاهرين بالأمس في طرابلس أم عجوز تضرب صدرها على أولاد لها ثلاثة، لاقوا مصرعهم في المجزرة الرهيبة على أيدي قوات العقيد. انتهى كلام المحلل الليبي..
ومجزرة ( بوسليم ) لمن لم تُتح له الفرصة للمتابعة هي صورة مكرورة لأخت لها سبقتها بستة عشر عاما. وهي من أقسى وأبشع المجازر التي جرت في القرن العشرين.
ففي صبيحة التاسع والعشرين من حزيران ( تأمل التاريخ ) في سنة 1996 اقتحمت قوات من الوحدات الخاصة الليبية سجن ( بوسليم )، وفتحت النار من الأسلحة المتوسطة والخفيفة على المعتقلين الأبرياء في زنازينهم، وقتلت أكثر من ألف ومائتي سجين.
نفذت المذبحة بتعليمات مباشرة من العقيد معمر القذافي. ولكل من يريد معلومات أكثر تفصيلا عن المجزرة يستطيع أن يستعين بالشبكة العنكبوتية فهناك تقارير وافية تشرح أبعاد المأساة. أتبكي معي أو أبكي معك، أو نبكي جميعا مع متم بن نويرة..:
لقد لامني عند القبور على البكا رفيقاي لتذراف الدموع السوافك
وقالـوا أتبكـي كلَّ قبـر رأيته لقبـر ثوى بين اللوى والدكادك
فقلت لهم إن الشجى يبعث الشـجى دعونـي فهـذا كله قبـر مالك
وبعدُ أي درس هذا ؟! وماذا يقول الدرس؟! وأي تبعات مستقبلية ستكون لهذا الدرس؟ وهل يمكن للعقلاء أن يخرجوا منها؟ّ! وهل لذُناباها من تلاف؟؟ كيف ستجعل الأم التي تضرب الصدر تبحث عن أبنائها المدفونين في قلبها وفي ضميرها تنسى أو تغفر أو تتسامح..؟؟؟!! تحسبونه هينا وهو في فقه الأمومة والأبوة والأخوة عظيم..
يعتقد البعض أن سياسات الاستكبار والاستعلاء والغطرسة سوف تمكنهم من الاستمرار أو الاستقرار ولو على برميل البارود أو على فوَّهة البركان..
يعتقد البعض أن القليل أو الكثير من (البروغندا) الإعلامية يمكن أن تغطي على الجريمة، أو يمكن أن تجعل الضحية مجرما، وأن الكلمات المموهة يمكن أن تعفي آثار الدماء، بل الأعجب أن البعض يظن أن الكلمات الخدّاعات يمكن أن تخدع الأم عن ولدها أو تُذهل الشيخ عن بنيه..
يعتقد آخرون أن اللامبالاة والاستهتار سيخرجهم إلى الأبد من استحقاقات بعض ما قدمت أيديهم!! في عصر الدينونة الصغرى رأينا ابن علي وحسني مبارك ومعمر القذافي يقفون بين يدي المظلومين قبل أن يقفوا بين يدي المنتقم العزيز الجبار، وما أجمل وأكمل وأحسن تجليات المنتقم العزيز الجبار على هؤلاء المستكبرين الخوّارين الذين طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد..
حين تحدث المحلل الليبي (عن الأم تبحث عن قبورٍ لأولادها الثلاثة بين نواح ونحيب) وضع المستمعين جميعا أمام الاستحقاق الصعب الذي يتهرب منها المتهربون. يكتبُ إليّ كثيراً بعض الثقاة أنني أقسو وأشتد في الخطاب؛ ولكن ألا يشعر أولئك الأحباب أن الواقع الذي أتحدث عنه هو أشد وأقسى من كلماتي الواهنات..
هل أكشف سرا إذا قلت إن الصدمة التي أحدثها التقرير الذي أذاعته الناطقة باسم الخارجية السورية عن المواطنة ( طل الملوحي ) أصابني بصدمة منعتني من الكتابة ثلاثة أيام بقيت خلالها أحاول أن أستعيد توازني وألملم ذاتي..
كيف شعر المواطن العربي بعد أن استمع إلى الخطاب الذي ألقاه بالأمس معمر القذافي. هل كان معمر هذا ذنب شعبنا الليبي أو ذنب الذين يستقبلون رئيسا مثله منذ أربعين عاما في النادي الدولي؟!
المرأة الليبية التي دفنت أولادها الثلاثة في قلبها على مدى عقود، وخرجت مع المتظاهرين ضد القذافي لا تريد زيتا ولا رزا ولا ملحا ولا خبزا، إنها تريد أولادها، أو تريد لهم على الأقل قبرا، أفكر في نفسي: ماذا يمكن أن أقول لها لو وُكلت بها؟! وأي جواب يمكن أن يقنعها؟! ومن من أهل ليبية يزعم أنه يستطيع أن يتحدث باسمها، أو أن يفاوض عنها، أو أن يسامح أو يغفر بدلا عنها..؟!
لقد استوقفني بحق في دعوة الأستاذ عصام العطار، التي تقدم بها منذ أيام قوله (نتعاون) على الحل. والسر الحقيقي هو في كلمة (نتعاون ). تؤكد هذه الكلمة أن الحل للمأزق الوطني الذي نحن فيه، لا يملكه فرد ولا زعيم ولا حزب ولا جماعة ولا حكومة ولا فريق. وأن الحل ليس وصفة سحرية جاهزة، إنه دواء قلوب قبل أن يكون مطالب جيوب. الحل الإصلاحي هو ناتج تعاون الإرادات الخيرة إن توفرت، والعقول المتفتحة إن فكرت. إنه الحل الإبداعي الذي ينتجه العقل الجمعي والضمير الجمعي أيضا، يبدعه العقل وينضجه الحلم .
ومرة أخرى أكرر بأن الحلول (الترقيعية) ليست مطلبا، ولا هي بذات جدوى. إن تسهيل ظروف المعيشة، وحسن التعامل مع المواطنين، وإطلاق الحريات العامة، وإلغاء حالة الطوارئ، وفتح السجون والمعابر، وكشف مصير المفقودين، وإلغاء المادة الثامنة من الدستور والقانون 49 / 1980والمرسوم 49 / 2008 ومنح المحرومين من الجنسية من أشقائنا الكرد حقوقهم؛ كل تلك الأمور أقلُّ من أن تكون مطلبا، بل قل هي المدخل وليست المطلب..
إن مطلبنا الإصلاحي الأساسي الجمعي الوحيد هو بناء الأرضية القانونية والسياسية والثقافية لوضع شعبنا في نقطة البداية للسير على طريق البناء والتحرير. وإذا كان التغيير سنة من سنن التاريخ، وقد أطل استحقاقه؛ فإن من حقنا أن نلح على فرادةٍ سورية تلبي هذا الاستحقاق بلا دم ولا هجر ولا نبذ..
المطلب الجمعي الأساسي والوحيد ليس في المطالبة بردم الحفر، أو تسوية المطبات، وإنما هو بكلمات علمية موضوعية مباشرة: في الشروع في بناء سورية دولة حديثة لجميع أبنائها. دولة مؤسسات تقوم على تعدد السلطات وتحترم فيها حقوق الرجال والنساء والأطفال؛ فلسنا أقل من أحد خلق الله ولن نكون..
لقد عنى حديث المرأة الليبية أم الشهداء الثلاثة في مجزرة (البوسليم)، ليلة الأمس الكثير الذي لا يتسع له مقال..
فهل ذكرتكم مجزرة (البوسليم) بشيء؟! وهل يعنيكم من شأن أم الشهداء الثلاثة أمر؟! وهل توحي إليكم جبال الحوادث من حولكم بما أوحت الصخور الصلاب لابن خفاجة وقد أصاخ إلى جبل من حجر وتراب..
أصختُ إليه وهو أصم صامت فحدثني ليلَ السُـرى بالعجائب
* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية