توبة الفنانين والفنانات.. ظاهرة صحية.. ولكن

د. عامر حسين أبو سلامة

 تطالعنا الأخبار – صحفياً أو إذاعياً أو تلفزيونياً – بين الفنية والأخرى بتوبة الفنان الفلاني، أو الفنانة فلانة ، من ممثلين وممثلات أو راقصين أو راقصات, من الذين كانوا أعلاماً يشار لهم بالبنان, وتعقد عليهم الأنامل في هذا الشأن, وخصوصاً منهم أولئك الذين تميزوا بصورة ظاهرة بالفساد والتخريب ، عن عمد وسابق إصرار ، وهذا من خلال كلمات بعضهم, وهو يتحدث عن قصة توبته ووصوله إلى بر الهداية الربانية ، فرأي النور بعد الظلام ، ووقف على الجادة بعد صبر, وفتح صفحة بيضاء, بعد تلك الصفحات السوداء, التي انطبعت بها حياته السابقة.

 وهذا الشرود والتيه عن طريق الحق, وترك المنهج الرباني ، المتمثل أصالة بكتاب الله تعالى ، وسنة النبي صلي الله عليه وسلم ، إنما هو نتيجة التلبيس الشيطاني ، والعشعشة الإبليسية, التي عمل لها خفافيش الليل ، ليل نهار ، من أجل غزو هذه الأمة في الجانب السلوكي ، الذي مبعثه الأصلي مايعرف (بالغزو الفكري )أ والحرب التوجيهية.

 فكان الذي كان, ولاغرو في هذا ، فالعلماء قالوا : التوبة واجبة من كل ذنب ,وهذا من مستندات وأدلة الكتاب والسنة ، من مثل قول الله تعالى : ( وتوبوا إلى الله جميعاً أيه المؤمنون لعلكم تفلحون ) ( النور : من  الآية 31) وقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً ) ( التحريم : من الآية 8 ) .

 وروي مسلم ، عن الأغر بن يسار المزني رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه ) .

وهذا الأمر الطيب المبارك ,أمر المتابعة والمراجعة للنفس والذات مع الله تبارك وتعالى ، بحيث إنه يحقق من خلال هذا, عودة صادقة إلى الله عزوجل ... أمر يعتبر محمدة وإيجابية, عندالله تبارك وتعالى أولاً ، وهذا هوالمهم بالنسبة للإنسان المسلم, ثم عند الناس ثانياً, وهذه عاجل بشرى المؤمن .

 جاء في الحديث الذي رواه مسلم :( لله أشد فرحاً بتوبة عبده حيث يتوب إليه, من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة, فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها ، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها وقد آيس من راحلته, فينما هو كذلك إذا هو بها ،قائمة عنده ، فأخذ بخطامها ثم قال, من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي, وأنا ربك ) .

 ومن رحمة الله تبارك وتعالى بالناس ، أن فتح الله تبارك لهم باب التوبة ,مالم يغرغر هذا الإنسان ، أو  تطلع الشمس مغربها. روى مسلم، من حديث أبي موسى الأشعري, رضي الله عنه ، عن النبي صلي الله عليه وسلم : ( إن لله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويسط يده بالنهار ليتوب مسئ الليل ,حتى تطلع الشمس من مغربها )0000000000000

 إلا أن هذه الظاهرة الطبيبة ,إن شاء الله تبارك وتعالى , تحفها سلبية جلية لمن يتابع هذه الظاهرة- التي نسأل الله تعالى دوامها- هذه السلبية ,هي أن هذا التائب ,أو تلك التائبة -جزاهم الله خيرا- يتحولون بين عشية وضحاها ,إلى مفتين كبار, ويتكلمون عن الإسلام في باب الحلال والحرام ,والجائز وغير الجائز, حتى في أدق التفاصيل في باب الفتيا .

 تحول هؤلاء في فترة من الفترات, إلى ( شيوخ الإسلام !؟..) كما عبر عن ذلك بعضهم .أو إلى مشاريع (لمجمعات الإسلامية ) ,كما هو واضح وجلي من خلال التركيز عليهم في هذا .

ترى أحدهم بالأمس كان غافلاً شارداً ، واليوم بحكم التوبة ، يتصدر للإفتاء والتوجيه الإسلامي, وتفاصيل ربما يتحرج بعض العلماء في الحديث عنها, وهذا مما لايجوز من الناحية الشرعية . لأن مسالة الفتوى والتوجيه الإسلامي لابد أن يكون من قبل المؤهلين لهذا المنصب, من علم بكتاب الله تعالى, وسنة نبيه, والفقه, واللغة العربية ,وما إلى ذلك من علوم, ذكرها الأصوليون في باب الاجتهاد والتقليد, وغيرها من الأبواب التي تتناول هذه المسألة .

 لذلك فالذي يتكلم عن مسائل الحلال والحرام ، بغير هذه الأدوات ،إنما هو متكلم بغير علم ، وهذا لايجوز ... قال تعالى : ( ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب ) ( النحل : من الآية 116)

وأحياناً ,تكون هذا الظاهرة كنتيجة من نتائج الاستسهال في الحديث عن الإسلام ؛وشاع – نتيجة للجهل والتجهيل – بأن الكلام عن قضية شرعية , هي من أسهل ما يكون ، وكل واحد من أفراد الناس إذا ما عرضت عليه مسألة من المسائل ، فانه مؤهل للرد عليها, ودين الله يسر. ومن يسره أن كل أحد يفهمه, ويفتي فيه.

فجعلوا باب الفتوى لمن هب ودب, وصاروا يمارسون هذا الأمر بكل جرأة ، بينما الأمر أكبر من هذا بكثير، وإن أمره لأمر خطير وجلل, ويحتاج إلى مطلعين وعلماء, وأهل اختصاص في علم الشريعة : (وأجروكم على الفتيا ، أجرؤكم على النار) .

ومن تمام عقل الإنسان ,أن يعرف قدر نفسه, فلا يتعداه. وينبغي أن يدرك أن لكل علم وشأن ,أهله ومختصيه, وعالمين به.

 من هنا ,كان أهل العلم يدققون في هذا المسألة أيما تدقيقً, ونشأ كأثر عن مثل هذا, علم الجرح والتعديل ,وعلم الرجال, وزكوا الكبار والثقات من أهل العلم, وحذروا من الجهلة ,والمفتي الماجن ,وما إلى ذلك من قضايا ومسائل تدخل في إطار مانذكر ,مما لا مجال لتوسيع الكلام عنه في هذه العجالة .

 وإن من يتصفح كلام العلماء في هذا الأمر, يجده قد انضبط بطريقة فيها من الدقة, والتثبت ,وخشية الله عزوجل والحرص على حماية الدين ,من عبث العابثين ، ما يؤكد صدق حقيقة ما ذكرناه .

 يقول الذهبي في ( السير ) ( 7/153) : ( قوم انتموا إلى العلم في الظاهر, ولم يتقنوا منه سوى نزر يسير, أوهموا به ,أنهم علماء فضلاء, ولم يدر في أذهانهم قط, أنهم يتقربون به إلى الله, لأنهم ما رأوا شيخاً يقتدى به في العلم, فصاروا همجاً رعاعاً ،غاية المدرس منهم ,أن يحصل كتباً مثمنة يخزنها, وينظر فيها يوماً, فيصحف ما يورده وما يقرره, فنسأل الله النجاة والعفو).

فانظر إلى هذا الكلام الذي فيه من التحذير والإنذار .. ما يجعلنا ندرك خطورة هذا الأمر .. وإذا كان هذا الكلام فيمن ربما يكون قد عرف شيئاً من العلم ، وأدراك قدراً من أحكام الشريعة ... فما بالك بهؤلاء الذين ما زالوا على أول الطريق – مع احترامنا وتقديرنا لهم ،وجزاهم الله تعالى خير الجزاء – ولكل شئ بابه ومجاله .

لهذا كان للعلماء موقف من القصاص ، من غير المحدثين ,أو من الوعاظ إذا لم يكونوا علماء ,لأنهم بحكم جاذبية عباراتهم ,وقدرتهم الفنية في الأداء الكلامي, والخطابة التأثيرية ، ربما أضلوا الناس, لأنهم لاينظرون إلى هذه القضية نظر تمحيص, وخشية.

 قال ابن الجوزي في التلبيس صــ 127 : ( كان الوعاظ من قديم الزمان, من العلماء والفقهاء ،و قد حضر

عبدا لله بن عمر-رضي الله عنهما- مجلس عبيد بن عمير ، وكان عمر بن عبد العزيز, يحضر مجلس القاص مع العامة ,بعد الصلاة, ويرفع يديه إذا رفع, حتى إذا خست هذه الصناعة, تعرض لها الجهال ,فأعرض عن الحضور المميزون من الناس؛ وتعلق بهم العوام والنساء ).

وهؤلاء الأخوة والأخوات ,من الفنانين والفنانات ,التائبين والتائبات, وبحكم أنهم ظاهرة لافتة لأنظار الناس واهتمامهم ,اندفعت بعض وسائل الإعلام الخيرة, إلى تسليط الأضواء على هذه الظاهرة المباركة ، فأصابت من حيث العموم ,وأخطأت في بعض التفاصيل.

 فمن الأمور التي أصابت فيها ,تلك الإظهارية الرائعة لجمالية علمية التوبة هذه ,بحيث  إن الذين يتابعون هذا الأمر, وعلى التحديد أولئك الذين كانوا من المعجبين بهذا التائب ، أو تلك  الآيبة ، يدفعهم هذا, إلى أن يراجعوا حساباتهم ,في شأنهم وأمرهم وحالهم وطورهم ,مع منهج الله تبارك وتعالى.

كشأن تأثيري, له في عالم السبب انسحاباته العلمية المعروفة المعلومة؛ وإن لم يكن مطرداً ، وقانون الهداية أولاً وآخراً, بيد الله تبارك وتعالى.

 لذا في كثير من الأحيان, يتأثر هؤلاء المعجبون بهؤلاء المذكورين ، فتحدث التوبة ، ويدركون أنه لا طريق لهم إلا المنهج الإلهي ، ولا ملجأ لهم من الله إلا إليه .

 فيقبلون على الله تبارك وتعالى, ومن هنا كان الحديث مركزاً ، من قبل بعض الباحثين على هذه الظاهرة ، وإنها من أسباب ( الظهور الإسلامي ) في وجه من وجوهه, أوهي عامل من عوامل إنعاش ( الصحوة الإسلامية), خصوصاً في أوساط النساء. في بلورة ظهور الالتزام الشرعي, وعلى الأخص فيما يتعلق بظاهرة الحجاب, التي – والحمد لله رب العالمين – قد انتشرت في أوساط الفتيات ,في المدارس, والمعاهد, والجامعات .

 ومما زاد الأمر جمالاً وترغيباً ,في هذا الذي نتكلم عنه, هو أن هؤلاء الإخوة والأخوات ، ما وصلوا إلى الذي وصلوا إليه من شهرة ، إلا لأنهم كانوا موهوبين في مجموعة من المواهب ,التي أهلتهم للعب ذلك الدور. أي أنهم استخدموا هذه الموهبة, في خدمة الشر في الغالب الأعم, ولا نقول بلغة التعميم ، لان هذا ربما لا يكون دقيقاً ,ونحن نتكلم هنا, ونراقب الله تعالى, فلا بد من الإنصاف .

 ومن أبرز هذه المواهب :

القدرة اللسانية أو الموهبة الكلامية اوالصحة التعبيرية: وهذا جانب في غاية الأهمية, في قضية التأثير في  الآخرين, فجانب التأثير من خلال الكلمة الموهوبة, يعمل عمله الذي لا ينكره إلا جاهل لحقائق الأشياء .

لذا إذا تكلم أحدهم بطريقة معينة, يتكلم بوصفه فناناً ,له تأثيره البالغ ,وأسلوبه الجميل الأخاذ ,وطريقته المحببة إلى النفوس .

 وأخص بالذكر, الإخوة المصريين ,لأنهم يجمعون إلى حسن التعبير, وجمال العرض, ( النكتة )

 و( الظرافة ) فيزيدون الكلام جمالاً وروعة ، يؤديان  إلى جذب ا لسامع وشده للموضوع ,بذلكم الأسلوب الأخاذ المشوق ,وإن كان  غالبه باللهجة العامية .

القدرة على التمثيل: فالفنان موهوب ومتمرس في رسم الأدوار, بحيث إن الذي يراه يمثل ، كأنما يعيش الحدث حيأ, وهؤلاء التائبون بحكم الموهبة والمراس ، مازالوا يتمتعون بهذه الخاصية ,مع فارق كبير بين الحاليين ,حال التمثيل الخالص من نظر الإخلاص ,وحال الذي يعيش حالة إيمانية عالية .

ج- العاطفة الجياشة : وهذه إذا ما أضفناها إلى التي قبلها ,تظهر الأمر أكثر وضوحاً, فالفنان لديه القدرة أن يبكيك, أو يضحك, أو يفرحك ,أويحزنك, وهذا سر من أسرار الموهبة , فلسان ذرب, وتمثيل مؤثر, وعاطفة تدخل إلى الأعماق ,فتحدث الآثار المعروفة المعلومة في هذا الشأن.

اجتماع هذه الثلاثة, بآن واحد على السامع, لاشك أنها سوف تترك بصماته عليه ..إن خيراً فخير, وإن شراً فشر.ومن الخير إشعار الناس بتفاهة وحقارة الطريق الذي كانوا عليه, ومنه أن السعادة لا تكمن في المال, والشهرة واللهو والعبث ، إنما السعادة في طاعة الله تعالى وعبوديته, ومنه توجيه السامع,و تحذيرهً من أي نفق فسقي يدخله ، فإن نهاية ذلك وخيمة .. ومنه ... ومنه ..إلخ ,من قائمة الإيجابيات لمثل هذا الأمر في حدود تغطيته, من الناحية الإعلامية .

أما الخطأ الذي وقعوا فيه ، هو الدخول في بعض التفاصيل ,التي ماكان ينبغي الدخول يها, بحال من الأحوال ، من مثل توجيه الأسئلة إليهم, عن الإسلام نفسه, في باب الحكم. وهنا وقع الخلط والحرام والافتئات, على منهج  الله تبارك وتعالى.

 المهم أنه كان من نواتج مثل هذا, أمور مرفوضة من الناحية الشرعية ، وانتشرت فتاوى ما أنزل الله بها من سلطان ،وأطلقت عبارات خطيرة تمس جناب العقيدة في بعض الأحيان.

كل هذا ,والناس يتابعون بشغف, ويتأثرون تأثراً كبيراً ، بحكم ثالوث الموهبة الذي تكلمنا عنه .

ومن هذه الفتاوى: في أن الأصل في كل شئ القلب ، والقلب فقط ,أما باقي الأمور فشكليات ...

 وقل مثل ذكر كثير, في مسائل الحلال والحرام, والجائز وغير الجائز, وأحياناً يدخلون في تفاصيل تتعلق بصفات الله, وغير ذلك من مسائل الاعتقاد ،فيكون الكلام فلسفياً بعيداً كل البعد عن منهج الإسلام الحق, في تقرير العقائد .

والعلم والعلماء وما يتعلق في هذه القضايا التي من نواتجها في باب الفضيلة ، الفتوى. ليست عبارة عن كلمات تلاك, أو مفاهيم عائمة ,أو تصورات متفلسف ,أو كلام من كلام أهل الدنيا, في شأن من شؤونهم .

الأمر ليس كذلك على الإطلاق ،لا، هذا العلم – أي علم الدين والشريعة – دين ، هذه نقطة فاصل لا بد من إدراكها ، لأجل أن نفهم خطورة أن يتكلم المرء المسلم عن الدين بالرأي المجرد ، أويتكلم عنه بجهل .

 من هنا أمر الله تعالى, بطاعة العلماء, لأنهم مبلغون عن حكم الله . لذا ذهب كثير من أهل العلم ,إلى أن المقصود بأولي الأمر منا, في قوله تعالى : ( يأيها الذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا ا الرسول وأولي الأمر منكم ) ( النساء : من الآية 59) .

أنهم أهل الفقه والدين, وأهل طاعة الله, الذين يعلمون الناس معاني دينهم ، ويأمرونهم بالمعروف, وينهونهم عن المنكر, وممن ذهب إلى هذا الصحابي الجليل ابن عباس رضي الله عنهما .

 ولاغرو في هذا! لأنهم يسمعون ويسمع منهم ,ويسمعون ممن يسمع منهم .

 ومن ذات المنطلق ,وصيانة للدين من عبث العابثين, وانتحال المبطلين ، وفتوى الجاهلين ,أمر الله سبحانه تعالى, استفتاء أهل العلم, والرجوع إليهم في قضايا الدين. فقال جل وعلا : ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون ) ( الأنبياء : الآية 7) .

 وكيف لا يكون الأمر على هذه الصورة ,والعلماء ورثة الأنبياء .

 ولو كان الأمر فوضى, وكل أحد يفهم في قضايا التأصيل والفتوى ,في عالم( الاستسهال ) الذي نوهنا لمعناه مراراً ، لما عظم الله تعالى قدر العلماء, وأشهدهم فقال : ( شهدا لله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ) ( آل عمران )

 ولما كان الأمر كذلك, نفى الله التسوية بين الذين لا يعلمون, والذين لا يعلمون ، فقال : ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب ) ( الزمر : من الآية 9)

 وكيف يسوى بين هذا وذاك ,بطريقة خلط الأوراق, فتحدث العشوائية ,التي من آثارها أن يتخذ الناس رؤوساَ جهالاً,يفتون بغير علم, وذلك في حال غياب العلماء .

جاء في الصحيحين ، عن عبدا لله بن عمرو- رضي الله عنهما -قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد, ولكن يقبض العلم بقبض العلماء, حتى إذا لم يبق

عالماً ، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً, فسئلوا فأفتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا ).

 إذاً الأمر يحتاج إلى تمهل ,لأنها ليست عملية سباق في أمر كهذا, ولكنها مسألة تكليف. فليراقب الله امرؤ قبل أن ينبس ببنت شفه, في أمر من أمور الحلال والحرام ، أوقضايا التأصيل, إلا إذا ملك أدوات ووسائل هذا الأمر, فيكون بعد ذلك, قد عمل الذي عليه وتكلم بعلم ,وبعدها له أجران إن أصاب, وأجر لو أخطأ .

ورضي الله عن ابن عباس لما عبر عن هذه الحقيقة بقوله : أتدرون ما ذهاب العلم ؟ فقال الحاضرون :لا.

 قال : ( ذهاب العلماء )

يقول ابن القيم – رحمه الله – في كتابه ( إعلام الموقعين عن رب العالمين ) ( 1/8) : (( إذا كان منصب التوقيع عن الملوك, بالمحل الذي لا ينكر فضله, ولا يجهل قدره ,هو أعلى المراتب السنيات ، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات ,فحقيق بمن أقيم في المنصب ,أن يعد له عدته, وأن يتأهب له أهبته, وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه ) .

 وقال في موضع آخر من كتابه المذكور ( 1/63) : ( والمقصود أن الله سبحانه حرم القول عليه بلا علم, في أسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه, والمفتي يخبر عن الله عزوجل, وعن دينه, فإن لم يكن خبره مطابقاٌ لما شرعه, كان قائلاً عليه بلا علم ,ولكن إذا اجتهد واستفرغ وسعه, في معرفة الحق, وأخطأ ,لم يلحقه الوعيد وعفي له عما أخطأ به, وأثيب على اجتهاده ).

ومن هذا كان الصحابة- رضي الله عليهم- يتدافعون الفتيا. حتى إذا ماعرضت مسألة, تمنى كل واحد أن

 لو كفاه أخوه ذلك .

 قال عبدالله بن المبارك : حدثنا سفيان بن عطاء بن السائب ,عن عبدا لرحمن بن أبي ليلي قال : ( أدركت عشرين ومائة ,من أصحاب رسول الله, أراه قال: في المسجد ، فما كان محدث إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا ).

 وهذا الصحابي الجليل ابن عمر- رضي الله عنهما -وهو من هو في الفقه, والعلم والرواية ، كثيراً ماكان يقول لا أدري ,عندما يسأل عن مسألة .

قال عقبة بن مسلم : صحبت ابن عمر أربعة وثلاثين شهراً, فكان كثيراً مايسأل فيقول : لاأدري .

ويذكر الشاطبي في الموافقات : ( 4/468) عن الإمام مالك رحمه الله ,قوله : ( ربما وردت علي المسألة تمنعني من الطعام والشراب والنوم ,فقيل له ياأبا عبدالله, والله ماكلامك عند الناس إلا نقر في حجر، ماتقول شيئاَ إلا تلقوه منك، قال : ( فمن أحق من يكون هكذا ، إلى من كان هكذا ).

 وحتى لا يفهم أحدهذا الأمر خطأً ,نقول : وليس المقصود من هذا أن نقدس العلماء ، أو أن نتخذهم أرباباً من دون الله, والعياذ بالله, كل هذا لايكون ,بل هو محال عندنا, في تصوراتنا الإسلامية ,فلا كهنوت في

الإسلام ,ولا نؤمن بمفهوم( رجال الدين) بالتصور الكتابي .

 والقاعدة الضابطة عندنا نحن المسلمين: ( إذا صح الحديث فهو مذهبي) .

 والمراد أنه لا يحوز لأحد أن يتكلم في الدين إلا بعلم .

ومن روائع مايذكر في هذا الميدان ,أنه طالما أمرنا الله تعالى, بسؤال أهل الذكر, وطاعة أولي الأمر منا, واشهد الله العلماء, وبين عظيم قدرهم عنده جل وعلا ، وأنهم ورثة الأنبياء, وغير ذلك من الذي يدلل على فضلهم وخيرهم. لأجل حملهم للعلم, ويحمل هذا العمل من كل خلف عدوله .

 من هنا ,حذر العلماء من أخذ العلم ,إلا عن العلماء, أما الذين يأخذون العلم من بطون الكتب والصحف,

 ( المثقفون ثقافة عامة, بلغة عصرنا) هؤلاء لايركن إليهم في اخذ العلم الشرعي ( الفتوى والتأصيل ) عنهم .

وكان الشافعي – رحمة الله تعالى, ورضي عنه. يقول - : من تفقه من بطون الكتب ضيع الأحكام .. وكان بعضهم يقول : من أعظم البلية الصحيفة ، أي الذين تعلموا من الصحف فقط. ورحم الله القائل :

 ومن يأخذ العلم عن شيخ مشافهة             يكن الزيغ والتصحيف في حرم

ومن يكن آخذاَ  للعلم من  صحف             فعلمه عند أهل العلم   كالعدم

 قد يعاجلنا بعض الإخوة ,بالسؤال قائلين :هل تريدون إسكات هؤلاء الفنانين ؟ هل تطلبون من الإخوة الذين فيهم خير, أن لا يتكلموا عن هذه الظاهرة, في وسائل الإعلام ,التي لهم نفوذ بها ؟ .

 نقول : إذن فهمتم كلامنا على غير الوجه الذي أردناه, لذا لزم البيان قليلاً, قائلين لكم يا أيتها الإخوة الأكارم :

 إننا نريد تسليط الأضواء على هذه الظاهرة, الطيبة المباركة ، نريد لها الإبراز ، وأخذ الدرس والعظة والعبرة, واستثمارها في الدعوة إلى لله عزو جل :خصوصاً ,وإن هؤلاء الفنانين, يمتلكون من و سائل التأثير في المقابل, بشكل عجيب ،بلغتهم وحركاتهم وعواطفهم ، حتى رأينا كثيراً من الذين يتابعون هؤلاء وهم يتكلمون تذرف دموعهم, كأثر عن هذه التجربة, ويحمدون الله تبارك وتعالى لذلك , وآخرون تصيبهم دهشة الوقوف والمراجعة .. وهكذا.

 إذن نحن نريد هذا بكل أبعاده .. وهذه إيجابية يحمد عليها الذي يقوم بها ، وجزاهم الله تعالى خيراً ، إذ فيها حكاية الجاهلية ,على سبيل الاسترجاع الندمي, وفيها بذات الوقت حكاية المستقبل, مع حاضر المراجعة الإيجابية.

 لكنا نريد منهم ، أن لا يتجاوزوا حد أنفسهم, ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه ، لانريد منهم أن يتحولوا إلى مفتين , نريد منهم ألا يتشعبوا بما لم يعطوا فيصيروا ( شيوخ الإسلام ) بين عشية وضحاها, هذه هي السلبية التي نطالب تجاوزها, وما هدفنا من  هذا إلا ضبط الأمور, حتى لا تتحول إلى فوضى, فليست المسألة قضية تكميم أفواه ، أو رفع البطاقة الحمراء, تعميقاً لمبدأ ( إرهاب الفكر والكلمة ) كل هذا ليس مراداً ، وتكلمنا عن المراد من هذا قبل قليل, إلا أن هذا لا يدفعنا إلى أن ننساق وراء عواطفنا, بما يدغدغها بمثل هذه الأمور المفرحة, فننسى ثوابتنا وضوابطنا ، ونتنازل عن قيمنا ومبادئنا, فلا بد من لجم هذه العواطف بإنارات العقول ، وأدلة الشرع ,فوق الجميع : ( وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون )( آ ل عمران : 132) .

 وربما يقول آخر ألم يقل النبي صلي الله عليه وسلم : ( بلغوا عني ولو آية )

فنقول : نعم ! والحديث في صحيح البخاري, من حديث عبدا لله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -

 ونقول بفقه هذا الحديث ,ونطالب بشيوع مفهومه, في إطار استفراغ الوسع في الدعوة, إلى الله عزوجل .

 ( ومن دعا إلى هدى, كان له من الأجر مثل أجور من تبعه ,لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ) كما جاء في الحديث الصحيح, الذي رواه مسلم. )  ( والدال على الخير كفاعله ) و( لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك من حمر النعم ) و( من سئل عن علم فكتمه ، ألجم يوم القيامة بلجام من نار )

 هذا فقه نبوي رباني, لا شك فيه ولا ريب, بل يمثل قيمة إيمانية عالية, في إطار ما يذكر .

 ولكن هذا لا ينفي ما ذكرناه آنفاً في الحكم, بل يدعمه ويؤكده ، في جانبه الإيجابي, والذي حذرنا منه هو الجانب السلبي. والإسلام يؤخذ جملة ,ولا يفهم على أساس ( العضين )فهذا تلبيس, لا يجوز من الناحية

الشرعية .

***

أما عن أولئك الذين ظهروا بصورة حاقدة, على ظاهرة الالتزام والتوبة, وبالذات على ظاهرة الحجاب, من صحفيين وأدباء وكتاب ، فهؤلاء يمثلون ظاهرة التخذيل, عن كل ما هو خير وفاضل وإيماني ورباني, لذا

 ينفثون سمومهم هنا وهناك, بأسلوب لا يعرف الحرية ,ولا تشم منه رائحة حضارة .       

فعملوا على الإساءة إلى الظاهرة ,كظاهرة وكحالة, في أحايين كثيرة ,يكون ذلك بلمزوغمز وهمز, وتجريح وتعريض ببعض هؤلاء.

 ومن أساليبهم في حملتهم هذه ,التركيز على ماضي هذا أوذاك, أو هذه أوتلك ، لكن بطريقة رخيصة لا تعبر إلا عن حقيقة ( وكل إناء بالذي فيه ينضح ) .

ويتندرون باحثين في أنابيش الماضي ,محاولين لي أعناق الحقيقة ,عن عمد وسبق إصرار ,وعن إدراك لأينية أكل الكتف, ليقولوا : أبعد كل ماعمل فلان ، أبعد كل تخريب فلانة ، أبعد ما غاصوا إلى الركب ,في الشهوة والرذيلة والزيغ ,أبعد كل هذا يريدون أي يصبحوا صالحين ! عابدين ! متقين؟!

 ويبحثوا عن رضوان الله والجنة ؟؟ إن هذا لشئ عجاب, ومن دواعي الضحك والسخرية ، وإثارة الدهشة في نفس الإنسان .

    وتراهم يكتبون :ياللهول فلان يصلي ، اسمعو آخر صيحة .. فلانة محجبة ... فلان يذم الخمرة ,والليالي الحمراء .... ( حاميها حراميها ) ...

وغير ذلك من نفثات السخف الشيطاني, الذي مارسه هذا الصنف من الناس .

وكتبوا كثيرا من المقالات, وتكلموا في عدد من الندوات ,عن هذه المسألة. وحاولوا جاهدين، أن يفرغوا هذه الظاهرة من محتواها الحقيقي الطيب, ليجعلوا منها قضية تصب في واد, غير واديها الحقيقي الصحيح .

 ولعل أشهر شبههم في هذا ( تجيير ) الظاهرة لصالح ما سموه بــ( الإسلام السياسي) ,وهذا هو الاصطياد بالماء العكر ، وهذا هو جهد وأسلوب ,المنافقين قديمًاً وحديثاً ، حالاً ومستقبلاً ، إنها سنة الله عزو جل في الصراع بين الخير والشر, والحق والباطل ، ليبلوا الناس أيهم أحسن عملاً .

 وهذا الأمر له منحيان :

الأول : إبراز الظاهرة بهذه الصورة السيئة, لأجل تحطيمها  وتحجيمها وتقييدها, وعد م انتشارها وتكرارها, لأنها أرعبت أعداء الله ,وأحدثت الخذلان في نفوس شياطين الإنس والجن, من جيوش الباطل, الذين يعملون ليل نهار ، لأجل نسج خيوط الفتنة, في كل زاوية, فإذا بهم يفاجوؤن بأنه من وسط هذا النسيج الذي أتقنوه وأحكموه ، يخرج لهم من يقول لهم .. ( يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون )  (التوبة : 32)

وهاهم يخنسون ,وإذا ذكر الله تعالى الإنسان, خنس الشيطان وخذل.

الثاني : هذا ربما يكون جهلاً بدين الله, وربما يكون مقصوداً ,خدمة للمنحى الأول, لكن من باب التغابي, لتحقيق المراد وأخذ الناس غفلة .

 وخلاصة هذا المنحى: ينص على أنه هل يمكن ,أن يكون هذا الذي أسرف كل الإسراف ,وفعل مافعل من االمآسي ,يكون مقبولاً عندا لله ,ويكتب في يوم من الأيام, في ديوان الصالحين ؟؟ هذا أمر محال وغريب .

 ونقول لهم نحن :يمكن أن يكون ذلك كذلك ,ورحمة الله تعالى واسعة, ويكفينا رداً عليهم, قول الله تعالى:

 ( قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم ) ( الزمر :53)

 وفي الختام لا بد من إثبات الملاحظات اللآتية :

إن هذا الحكم الذي ذكرناه ,بشقيه الإيجابي والسلبي, لا ينطبق على الفنانين والفنانات, من التائبين والتائبات ,فحسب .وإن كان محور الحديث عنهم هنا ... الإ أن نفس الحكم هذا, تماماً بتمام -مع فروق يسيرة- يصدق على ظاهرة المفكرين, والأدباء والمثقفين والساسة, من التائبين والتائبات ، عرباً كانوا أم عجماً .

ذلك إن قسماً منهم شعر -على مايبدوا – أنه من أول يوم أعلن فيه توبته, أخذ إجازة سريعة, يتكلم بها عن الإسلام ,بكل مفرداته, من خلال أرضيته الثقافية ,أو العلمية, التي يقف عليها أو يستند إليها, وربما تكون واسعة .

وهذا من العجلة, والأصل في هذا أن يتفرغوا فترة, لأخذ العلم من مصادره ومراجعه وأهله ، حتى لا تقع الفتنة بالتفسير الجاهل ,والفتوى غير الصحيحة, ومن له اهتمام برصد هذه الظاهرة, يدرك تماماً مخاطر مثل هذا العمل ,من خلال نواتجه الفكرية الخطيرة ,وبحثه في محال التأصيل, ليخرج بنتائج يندى لها الجبين ،شغلت علماءنا فترة, ومازالت تتكرر .

 وكلما قلنا هناك ,بأن فرقأً كبيراً بين الواعظ والفقيه ,أوالمفوه المتكلم والعالم ، كذلك نقول هنا: بأن هناك فرقاً مهولاً, بين المثقف والعالم.

فليس كل مثقف عالماً ,ولاكل خطيب فقيهاً ,والأمثلة على هذا الأمر كثيرة, ولا مجال في هذه العجالة للتفصيل فيها ، لأنا هنا إنما نثبت الفكرة بمعومها ، تحذيراً وتنبيهاً .

الملاحظة الثانية : عندما نحذر من هذا الظاهرة .. ( ظاهرة الإفتاء بغير علم, على أصوله المعروفة ) لانتهم النوايا بحال من الأحوال ، لسببين :

  الأول : لأنه لا يعلم ما في النوايا إلا الله عزوجل, وإنما لكل امرئ مانوى. وعنون النووي رحمه الله في ( رياض الصالحين ) صــ 206 ، لهذا الموضوع فقال : ( باب إجراء أحكام الناس على الظاهر, وسرائرهم إلى الله تعالى ) .

وساق على هذه الحقيقة جملة من الأدلة, منها قوله تعالى ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم ) ( التوبة : من الآية 5)

وفي الحديث الصحيح, الذي رواه مسلم في صحيحه ، عن أبي عبد الله طارق بن أشيم ، رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من قال لا إله إلا الله ، وكفر بما يعبد من دون الله ، حرم ماله ودمه, وحسابه على الله تعالى).

الثاني : حسن الظن بالمسلم ,لأنا نهينا -من الناحية الشرعية- عن سوء الظن بالمسلم. قال تعالى : ( يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعد الظن إثم ) ( الحجرات : من الآية 12)

 وجاء في الحديث المتفق على صحته, من حديث أبي هريرة -رضى الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ,قال :)إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث).

ولكن هذا – أي حسن النية – ليس كافياً ليكون العمل صالحاً ,ومعلوم أن العلماء سلفاً وخلفاً, إجماعاً على أن العمل لا يكون صالحاً, إلا إذا توافر فيه شرطان:

الأول : النية : بأن يكون عمله هذا خالصاً لوجه الله تعالى ، ولا يريد من هذا دنيا يصيبها ، أوجاه يحصل عليه  أومال يغنمه ,أوسمعة يطير قلبه فرحاً بها .

الثاني : أن يكون العمل موافقاً للكتاب والسنة ، أي صوابية العمل, إنما تكون من خلال عرض هذا العمل على شرع الله تعالى ، فإن وافقه قبل وإلا رد .