مآزق القِيَم الحضاريّة

أ. د. عبد الله الفَيْفي

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيْفي

[email protected]

هذا المختبر الثقافيّ الدالّ على استنكافنا من النقد، تحدّثتُ من قبل عن حالتين تتعلّقان بالأدب العامّي والتراث الشعبيّ، وهنا حالةٌ ثالثةٌ لا تقل دلالة على ذاك: تتمثّل في ردّات الفعل على ما كتبتُه عن تفشِّي المضامين الجنسيّة الفاضحة في الرواية العربيّة، بلا مسوّغات فنيّة تُذكر، مع امتهان كرامة المرأة في تلك الروايات، وتصويرها بأحطّ الحالات والصور، وإنْ باسم تحريرها وكشف المسكوت عنه من حقوقها. وهي ظاهرة "استفراغٍ" روائيّة، غير خافٍ أنها أصبحت سعوديّة بامتياز، تلعب فيها عوامل النفعيّة، والأيديولوجيّا، والتنفيس عن مكبوتات غائرة، وحراك السوق الشرائيّ السعوديّ، المليء جينيًّا وجيبيًّا، المتعطّش حريّةً وبوحًا، فما أن انفتح القمقم حتى فاحت الروائح! يقابلها كذلك في بعض الروايات استحياء مضامين غيبيّة، وخرافيّات، وشذوذات فكريّة، بحافز لفت الأنظار المحلّيّة وغير المحلّيّة، وإثارة الزوابع الإعلاميّة، وتسوّل الأضواء، دونما وعيٍ ثقافيٍّ، ولا استشعار أمانةٍ قيميّةٍ، ولا مسؤوليّة أخلاقيّة. فهبّت عواصف العقلية نفسها- خرافيّة وليبرالية، أو حتى "ليبرالية-دينيّة"، (أي: على مذهب أحمد القبّانجي!)(1)- في الحالات الثلاث الآنف ذكرها.. هبّت من جحورها، في حملات "مكارثيّة"، محاولةً إطلاق النار على مَن تجرّأ وأقضّ مضاجعها الهانئة بكلماته الناقدة، من حيث هي- ثقافيًّا وتربويًّا- لم تَعْتَدْ إلاّ المداعبات المخمليّة، والمجاملات الكاذبة، والمنافقات السخيّة. وهي تُبدي ردّات فعلها بخطابات شخصانيّة تثير الشفقة حقًّا، لا تخلو أحيانًا من نزعات "شوفينيّة"، وإنْ كان الخفّاش الثائر نكرةً مقنَّعًا بمعرّفٍ "إنترنتّي". ولا بأس، فإنما تبدو تلك الحالات كواشف عن أمراض ثقافيّة، والداخل في هذه الحقول الملغومة لا بدّ أن يوطّن نفسه على انبعاجها بين يديه في أيّ لحظة، بل إن ذلك من دوالّ مشروعيّة بحثه ودرسه؛ إذ لو كان الجسد سليمًا ما نكأتْه الكلماتُ، فتهيّج ذلك التهيّج المرضيّ وتحسّس ذلك التحسّس "الأرتكاريّ". وفي كلّ حالةٍ من تلك الحالات لا تقف- كدارس أو متابع، ومهما كنت متقبّلاً لردّات الفعل المحتملة- على طرحٍ موضوعيٍّ يمكن أن يندرج في إطار الرأي والحوار والمناقشة المفيدة، ولكنه يأتي عجيجًا عاطفيًّا، دفاعيًّا تارةً، هجوميًّا تارةً، شخصيًّا غالبًا، يفتقر إلى الحدّ الأدنى من آداب الحوار واللياقة وقبول الرأي الآخر، بل الحدّ الأدنى من منطق العقل، حتى من بعض من كان يدّعي الثقافة وصداقة الحوار والمودّة في القربى الثقافيّة.  لماذا؟ لأن الأيديولوجيا ببساطة لا ترحم، ولا تفرّق بين قريب وبعيد، ولا عدوٍّ وصديق، بل إن أعدى أعداء الإنسان في هذا المضمار أهله وذووه، حينما يصادم مسلّماتهم ونهج قطيعهم. وهذا يعني أن خلافاتنا هي في جوهرها نتيجة تباين ذهنيّ تربويّ، لا نتيجة اختلافات فكريّة أو مذهبيّة أو استدلاليّة؛ خلافنا وصراعنا- بل إن شئت حروبنا العربيّة والإسلاميّة- هي نتاج (أزمة عقلٍ) و(مآزق قِيَمٍ حضاريّة).

ولأجل ذلك يستوي على هذا الصعيد العامّيّ والمتعلّم، والإنسان البسيط ومن يدّعي الثقافة؛ لأنهم جميعًا لدى خلافٍ ما في الرأي سُكارَى بما شربوه من طحالب البئر نفسها. بل لقد قلتُ ذات مرة: إن المتعلّم أشرس خصومةً، وأقلّ أدبًا لدى الاختلاف، من غير المتعلّم؛ لأن سلاح المتعلّم سلاحٌ تاريخيّ، ما زال يذخره في رأسه وأعصابه منذ أيّام العرب الأولى ونقائضهم المجيدة، فيما غير المتعلّم أقرب غالبًا إلى الحكمة الفطريّة والنُّبل الإنسانيّ النقيّ من ملوّثات الأفكار المعلّبة. ولا أمل إذن في إصلاح السويّة في الحراك الثقافيّ العربيّ ما لم تتغيّر أساليبنا التربويّة جذريًّا، ولن يحدث ذلك الإصلاح ما دامت تربيتنا أصلاً ذات منطلقات إرثيّة، منحازة، ولا عقلانيّة. وما الخلاف على المستوى السياسيّ والثقافيّ والاقتصاديّ، وفي كلّ شأن من شؤون الأُمّة العربيّة، إلاّ حصيلة تُربتنا الفاسدة تلك، وحصاد سنين من زراعة كلّ صبّارٍ ضارٍّ، وعدم تهذيب ما هو من زرعنا نافع مثمر. وهي وضعيّة يمكن أن تستقرئها في تراتب المستويات في واقعنا العربيّ، فرديًّا واجتماعيًّا وقُطريًّا. وسيظلّ ذلك كلّه عامل تعطيلٍ لأيّ خطوةٍ إلى الأمام، بل سيظلّ عامل جرٍّ إلى الوراء، لنبقى في ذيل الأُمم الأخرى، وتبعًا لها، نقتات على الأحلام والخيالات وأقاصيص ألف ليلة وليلة؛ للتعويض النفسيّ والجمعيّ عن الانسحاق الحضاريّ الذي نعيشه ونُصنّعه بأيدينا قبل أن يَصنعه بنا الآخرون.

إن "العقل نعمة"، كما هي المقولة الدارجة. وكذا عدّه بعض الفلاسفة المشرقيّين أوّل المخلوقات، وسمّوه "العقل الفعّال"، وربطوا به فكرة "الوحي". ومهما يكن من شيء، فإن عدم الإيمان بالعقل هو كفرٌ بالحقّ. صحيح أن "العقل [قد] لا يعقل"، كما يذهب إلى ذلك (علي حرب)(2)، وشواهد ذلك كثيرة عبر المسيرة البشريّة، غير أن إنكار وجود العقل، أو التشكيك في قائميّته، ومرجعيّته، هو خطابٌ عَدَميّ، محبَط يائس. وسَيْدُوْدَةُ هذا الخطاب انهزامٌ فكريّ، أشدّ خطورة على الإنسان من سَيْدُوْدَةِ الممارسات اللاعقلانيّة. فالعقل موجود دائمًا، وحاكميّته تحاصرنا، لكن الأهواء والمصالح ما انفكّت تسعى بكلّ حيلةٍ للفكاك من سطوته. وهو صراع أزليّ أبديّ بين (العقل) و(الهوى)، كالصراع الأزليّ الأبديّ بين (الحقّ) و(الباطل). بل إن صراع العقل والهوى أهون من صراع الحق والباطل؛ لأن في المفهومين الأخيرَين تختلف الأنظارُ بحسب الثقافات والأحوال، أمّا مؤشِّرات العقل فمستقرّة غالبًا بين أسوياء البشَر. وهي قواسم مشتركة بينهم، مهما وقع بينهم في ما سواها الاختلاف. وما تراجع فيلسوف كـ(هابرماس)- حارس العقلانيّة والحداثة والتنوير، كما ينعته (حرب)- عن القول بلغة اليقين، والجَزْم، ومن ثَمَّ الاعتراف بأزمة الحداثة التنويريّة، والعلمانيّة، التي تحوّلت إلى دغمائيّة لاهوتيّة أصوليّة-- كما تجلّت في موقف فرنسا وغيرها من لباس المرأة المسلمة، على سبيل المثال-- ما هذه المراجعة لتصديق الممارسة التطبيقيّة بطاعنةٍ في صدق النظريّة، ولا بتراجعٍ عن عقلانيّة إلى لاعقلانيّة، بل هي إعادة نظرٍ عقلانيّة في الأسباب الكامنة وراء مخالفة السلوك للعقل! إنها إعادة تعقّل في مخرجات العقل واستجابات الإنسان إليها، لتشخيص بيت الداء في هذه المفارقة! إذ "ما آفة النظريّات إلاّ تطبيقاتها"؛ لأن المطبِّق بَشَرٌ في النهاية؛ ليس عقلاً خالصًا، بل هو جهاز قيميّ معقّد، تعصف نزوعاته بعقل الفرد والجماعة؛ حتى ليصبح القابض على العقل النظريّ كالقابض على الجمر. ولَكَم يُصدم المرء في أصحاب المبادئ النظريّة لدى التطبيق، ولاسيما لدى تعلّق الأمر بذوات أنفسهم! غير أن هذا لا ينبغي أن يُسقِط مشروعيّة التمسّك بالمبدأ العقلانيّ، والإصرار على السعي إليه. وما المسيرة البَشَريّة إلاّ مجاهدةٌ مستمرّةٌ للوصول إلى كمالٍ منشود في هذا المضمار. وعلى الرغم من الثقوب اللاعقلانيّة السوداء التي مرّت بها رحلة الإنسان في الوجود وتمرّ بها، فقد ظلّ العقل يُثبت غَلَبَتَه في نهاية كلّ شوطٍ، وظلّت حضارة الإنسان وسائر أحواله في تطوّر مطّرد وتحسّن متّصل، نتيجة الاعتصام بالعقل، والعودة إليه، وتحكيمه، وإعماله، وجعله فيصلاً فيما اختُلف فيه. وما تجاهل هذا كلّه إلاّ ضربٌ من العَدَميّة في الرؤية، والكُفر البواح بهذا السراج الإلاهي، الذي لولاه لما بقي في قبضة الذهن من معنى لشيءٍ أبدًا!

                

(1) السيّد آية الله، كما يلقّبونه أحيانًا، الأمين العام لتيار "الإسلام الليبرالي" في العراق، صاحب نظريّة قرائيّة عقلانيّة، تحاول أن تكون تجديديّة، وضدّ الطائفيّة، وهذا ممتاز في خطابه، غير أنه يفضي في النهاية إلى عبثيّة فكريّة، من حيث يختلط لديه الحابل بالنابل: الإيمان بالكفر، والعقل باللاعقل، والعِلْم بالخرافة، والشيوعيّة بإسلامه الحداثيّ المبتكر، والعمامة بالتجّرد- ومن غير الواضح ما علاقة الجبّة والعمامة السوداء بالحداثة أو الليبراليّة؟! سوى التمسك بالشكليّة الدِّينيّة التي يعيبها على رجال الدِّين ويرتديها! إنه يأخذ من كل دِين ومذهب بطرف؛ فيظهر بتركيب متناقض، لا يتسق به منطق ولا منهاج. لكنه في كلّ الأحوال لا يُخفي إنكار ما جاء به النصّ القرآنيّ، عن: البعث، والمعاد، والجنة، والنار، ولا يستحي من السخريّة العلنيّة من القرآن، بلاغةً، ووصف قصصه بالأساطير، مستنسخًا ما قاله قديمًا ابن الراوندي، داعيًا- وإن ضمنيًّا- إلى نبوّته هو، العرفانيّة القبانجيّة الجديدة، ودينها الليبراليّ، مبشّرًا بـ"الإسلام الحداثيّ" في مقابل "الإسلام الأصوليّ"، حسب محاضرته التي استضافها مجلس (محمد بن زايد) الرمضاني مؤخّرًا في الإمارات! إنه يأخذ بفهمٍ باطنيٍّ تأويليٍّ ينسف الإسلام من جذوره. وكان بإمكانه أن يُعلن شكّه، أو عدم إيمانه، بشجاعةٍ، كما فعل القصيميّ، مثلاً. إلاّ أنه يريد أن يُبقي من الدِّين جانبه العاطفيّ والشكلاني (فقط)، الذي لا يحتاج إلى دِين أصلاً ولا إلى نبوّة ولا كتاب ولا رسالة! وتلك ثقافة التقيّة، والغنوصيّة، التي تعمل بالترقيع ولمّ المتنافرات في تأويلٍ هلاميّ! ومن مفارقاته الكثيرة أنه يأخذ على الشيعة سبّ الصحابة، فيما هو يهزأ بعقيدة المسلمين كلّهم، وبنصوص قرآنهم، ناسبًا إليه "التناقض" والتخريف، شاكًّا في مصدره أصلاً؛ فهو بذاك لا يقدّس القرآن، ولا يحترم الشريعة ولا المؤمنين! واصفًا العرب وصحابة الرسول بالهمج، أو "الدبش"- حسب لفظه- فجاء القرآن على قدر عقولهم، كما يردّد! وهذا بخلاف الحقيقة؛ فقومٌ جادلوا الله ورسوله ليسوا همجًا ولا بتلك السذاجة المتوهّمة، ولقد أشار القرآن غير مرّة إلى جدليّاتهم المريرة وضرورة تفنيد احتجاجاتهم. ولكن أيّ عدوانٍ على النبيّ وصحابته ومشاعر المسلمين أكبر ممّا تزعم، أيها القبّانجي؟! إن القبّانجي نموذج ثقافيّ على قطاع من الفكر العربيّ اليوم، متطرّف في شطحه المضادّ، فيما يتمتع بتلفيقيّته المضطربة العجيبة، مدّعيًا إمكانيّة جمع الإيمان والكفر، والماء والنار في وعاء واحد، كثمرة من ثمرات الفوضى الخلاّقة في العراق الراهن! هذا غيض من فيض، وليس ما ذُكر استنتاجًا أو تجنيًا على الرجل- معاذ الله!- بل هو تسجيل لبعض ما يطرحه هو علنًا ويباهي به.. ومن أراد المزيد، فليقوقل!

(2) انظر: مقاله "اللامعقول يجتاح حياتنا- الاستهلاك يأكل الاحتياط"، مجلة "المجلّة"، العدد1509، 11- 17/ 1/ 2009، ص87.