ألاَ بُعداً لـ (مبارك) كما بعدت عاد وثمود

محمد عبد الشافي القوصي

[email protected]

أعوذ بالله من (حسني مبارك)!

أعوذ بالله من شر هذا (الفرعون الرجيم) وشرره!

فبالرغم من كثرة الفراعنة الذين شهدتهم "مصر" إلاَّ أنَّ هذا "الفرعون الأخير" كان من أكابر مُجرميها، وأشدُّهم على الرحمن عِتيّأ!

لقد جاءته النذر، فكذَّب وعصى، ثم أدبر يسعى، فحشر فنادى، فقال: "سأضربُ بيدٍ من حديد"! بلْ قال: "أخشى على إسرائيل من صعود التيار الإسلامي"!

لقد عاث (اللامبارك) في الأرض فساداً، وأهلك الحرث والنسل .. ولمْ يؤمن يوماً واحداً بحق الرعية كأسلافه من الفراعنة المتألّهين، فأصابه ما أصابهم من الخزي والعار المبين!

 وصدق أمير الشعراء -شوقي- حينما قال:

جلال المُلْك أيام ويمضي

زمانُ الفرد يا فرعون ولّى

وأصبحت الرعاةُ بكل أرضٍ

 

ولا يمضي جلال الخالدينا

ودالتْ دولة المُتجبرينا

على حُكم الرعية نازلينا

 

   لقد استكبر هذا (الطاغية) في الأرض بغير الحق، واطمأنَّ إلى شياطين الإنس والجن التي كانت تحرس مُلْكه، وظنَّ أنه من الخالدين! فكشّر عن أنيابه، واستخفّ قومه، وأهان شعبه، وولغ في الدماء، وارتكب الموبقات .. ونَسِيَ الله!

فأتاه الله من حيث لا يحتسب، ونزع سلطانه، فأصبح عِبرةً للتاريخ، ومثل السوء!

*   *   *

أمَّا قبـل: فقد استشرى فساد (الديكتاتور) حتى أصاب المحيط العربي كله من أقصاه إلى أقصاه! لدرجة أن الناس -كل الناس- كانوا ينتظرون لحظة زواله بفارغٍ من الصبر!

وبالفعل فقد عَمَّتْ الفرحة جميع الأقطار بمجرد إعلان نبأ سقوطه المخزي والمدوي .. ولمْ تقف حدود الفرح عند العرب وحدهم، بلْ شاطرهم الغرب هذه الفرحة! فالصحف الغربية أشادت بثورة النيل التي أطاحت بالديكتاتور. وشبَّهت لحظة سقوط (اللا مبارك) بسقوط جدار برلين! فكتب "روبرت فيسك Robert Fisk" المحلل السياسي بجريدة الإندبندنت البريطانية The Independent  -الذي كان موجوداً بالقاهرة أثناء سقوط (الفرعون)- تحت عنوان "رحيل طاغية ونشوة شعب"، يقول: "فجأة انفجر الجميع بالغناء، والضحك، والبكاء. فجأة سجد الكثيرون على الأرض وبدأوا بتقبيلها. بدأ البعض بالرقص والبعض شكر الله على تخلصه من الطاغية. بدا المشهد وكأننا في عرس، وكأن كل رجل وامرأة أمامي تزوج لتوه. سيعرف هذا الحدث في التاريخ باسم ثورة 25 يناير، وهو اليوم الذي اندلعت فيه الثورة، وسيؤرخ له على أنه اليوم الذي هبَّ فيه شعب مصر".

وأضاف "فيسك" بأن العرب الذين يضطهدهم الغرب ويميز ضدهم ويكرههم الإسرائيليون الذين يرغبون ببقاء حكم "مبارك" بوصفهم متخلفين وجهلاء، هبُّوا ونفضوا عنهم خوفهم وطردوا الرجل الذي يحبه الغرب ويعتبره "زعيماً معتدلاً".

ليس هذا فحسب؛ فقد كتبت صحيفة "ذي صن The Sun  البريطانية " تقول: لا حاجة لأن تكون مصرياً لتبتهج اليوم. فالمشهد الرائع للسلطة الشعبية وهي تطيح الديكتاتور الفاسد يدفئ كل القلوب .. وأن مصر تحتاج الى قيادة نزيهة وديمقراطية".

أمَّا صحيفة "التايمز The Times" فرأت أن "سقوط مبارك يجلب الفرح والأمل والحرية الى مصر" وقالت: "إنها لحظة سقوط جدار برلين لهذا الجيل. فمصر والشرق الأوسط والسياسة في العالم العربي تغيرت الى الأبد".

وتحت عنوان "ثورة النيل" كتبت صحيفة "فايننشال تايمز The Financial
Times
" إنه "في مصر والعالم العربي لم يعد هناك سبب الآن للامتناع عن تطبيق مبادئ الديمقراطية".

وقال صحيفة "الجارديان Guardian ": "إنها لحظة تاريخية تعيد مصر الى قيادة العالم العربي"، معتبرة أن "المصريين لم يستعيدوا استقلالهم عن مبارك، بل برهنوا أيضاً على استقلالهم عن الولايات المتحدة وحلفائها".

وتحت عنوان " فجر مصر الجديد" علّقتْ صحيفة "الديلي تليجراف
the Daily Telegraph" في افتتاحيتها على رحيل الديكتاتور قائلة: "إن سقوط رئيس أقوى وأكبر دولة من حيث عدد السكان في العالم العربي يعتبر حدثاً مهماً جداً، لكن عواقبه على بلد كان يعيش في ظل نظام الطوارئ منذ عام 1981من الصعب فهمها".

وتقول الصحيفة: إن حقيقة الإطاحة بمستبد طال حكمه، في أعقاب الرحيل السريع نسبياً للرئيس التونسي "زين العابدين بن علي" تعني أن الذعر سيتنامى في عواصم المنطقة ومنها تل أبيب. وبحسب الصحيفة فإنَّ هناك آمالاً في مصر نفسها بأن تؤدي الإطاحة بالديكتاتور إلى تحول إلى الديمقراطية.

 كما رصدت مجلة "التايم TIME " الأمريكية قصة صعود وهبوط الرئيس المخلوع مبارك، الذي وصفته بالفرعون الأخير، فقالت المجلة: إن مبارك قد حكم مصر أكثر من أيّ شخص آخر منذ عهد "محمد علي باشا" الذى أقام النهضة الحديثة فى مصر، ورغم أن مبارك كان ابن مصر وولد قبل 83 عاماً فى دلتا النيل، إلاَّ أنه خلال العقود الثلاثة التى قضاها رئيساً، تخلَّتْ أرض الفراعنة عن مكانتها كقائدة للعالم العربى المعاصر، ورغم أن مصر ظلت أكبر الدول العربية من حيث الكثافة السكانية، إلاَّ أنَّ قوتها التاريخية فى إلهام الجماهير قد تقلصت. لكن المواطنين استطاعوا خلال أسبوعين استعادتها بعد أن تجمعوا يوماً بعد يوم، مطالبين برحيله.

وتمضى المجلة فى القول: إن مبارك أُطيحَ به من منصبه، بالرغم من أنه كان محتمياً بقانون الطوارئ الذي ضاق به المصريون ذرعاً. وبمرور السنوات، وتراكم الاعتداد بالذات، افترض مبارك أن دوره أكبر من ذلك، فتصور أنه الرجل الذى لا غنى عنه، ولكن لم يكن الأمر فقط مسألة تجسد أمة على الرغم من أن هذا أساس العملية الانتخابية، فخلال الأعوام الثمانية العشرة الأولى، ظل مبارك فى منصبه ليس بفضل الانتخابات، ولكن من خلال استفتاء لم يمنحه يوماً ما أقل من 94% من الأصوات، بفضل أجهزة القمع التي أوكل إليها مهمة عمليات التزوير  .."!

هكذا صورت الصحافة العالمية مشهد سقوط الديكتاتور المصري العنيد!

*   *   *

 سقط (الفرعون) ولمْ يجد بواكي له، حتى من حلفائه الذين ظل عميلاً لهم لأكثر من ربع قرن من الزمان! سوى الكيان الصهيوني الذي ظل خادماً وفياً له طوال فترة حكمه، وذلك بشهادة قادة إسرائيل أنفسهم! فقد ذكرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية حزن السفير الإسرائيلي  الأسبق بمصر تسفي مازائيل، الذي قال بالحرف الواحد: إننا انتهينا، وإنَّ تل أبيب بعد انهيار نظام مبارك باتت في أزمة إستراتيجية واسعة النطاق، وأصبحت وحيدة".

بلْ إنَّ التليفزيون الإسرائيلي اعتبر عهد مبارك بمثابة العصر الذهبي للدولة العبرية!

 فبمجرد سقوطه؛ اهتم التليفزيون الإسرائيلي بسرد تاريخ وحياة الرئيس المخلوع على مدار الـ30 عاما الماضية، معرباً عن تقديره واعتزازه بمجهوداته لتحقيق أمن إسرائيل، وتصديه للمعارضة. ودافعت القناة العاشرة بالتلفزيون الإسرائيلي عنه دفاعاً مستميتاً، ونوّهتْ إلى أن ما يحسب له أنه لمْ يلغِ اتفاقية السلام على الرغم من الضغوط المكثفة من جانب الدول العربية لإلغائها، كما كان شريكاً عام 1993 في مباحثات السلام السرية بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. وساند التلفاز الإسرائيلي موقفه طيلة سنوات حكمه ضد جماعة الإخوان المسلمين". 

*  *   *

أشهد أنَّ هذا (الفرعون) علا في الأرض، وجعل أهلها شِيَعاً وطوائف متناحرة، فاستولى هو وحاشيته على ثروات مصر، بينما ظلَّ سواد الشعب في فقر مُدقِع!

ففي الوقت الذي أفقر فيه الشعب، حققت أسرته ثروات بالمليارات، فلم يقدم كشف حساب عن التفويض الذى يحصل عليه لإجراء صفقات السلاح، وأنشأ نجله "جمال" شركات تحسب أصولها بمئات الملايين من الدولارات، حين بدأ نشاطه الاقتصادي بالمتاجرة فى ديون مصر وهى جريمة فساد دامغة! وتقدر الأموال التى نزحت من البلاد فى عهد (الديكتاتور) على أقل تقدير بـ 200 مليار دولار. وقد ثبت أنه في العام الأول من توليه الحكم؛ قام بتحويل 19 ألف كيلو بلاتين إلى سويسرا!

 وبمجرد سقوطه أعلنت جريدة "الجارديان Guardian" أن ثروة مبارك وعائلته تتجاوز 70 مليار دولار، أيْ ما يقرب من 400 مليار جنيه مصري!

ومما أكدَّ هذه الحقيقة، ذلك التقرير الذى نشرته جريدة "المستقبل العربى" الذى كشف أن ثروة نجله "جمال" تقدر بنحو بـ17 مليار دولار، موزعة على عدة مؤسسات مصرفية فى سويسرا وألمانيا والولايات المتحدة وبريطانيا، وأن ثروة "علاء" النجل الأكبر لمبارك داخل وخارج مصر بلغت 8 مليارات دولار، وأكدَّ التقرير ذاته أن ثروة زوجه "سوزان" تتراوح بين 3 و5 مليارات دولار.

هكذا أجلب (الطاغية) على مقدرات الشعب وتاريخه بخيله ورجله، فحوّل "وادي الرخاء" إلى خرابة، و"أرض الكنانة" إلى مغارة لصوص! وعاث في أرضها فساداً، وأهلك الحرث والنسل!

تَبَّتْ يدا (حسني مبارك) وتب، ما أغنى عنه ماله وما كسب! سيتجرع كئوس الذل، وسيطلب الموت ولا يأتيه! وسيرى وأسرته وحاشيته أياماً نحساتٍ كأيام الذين خلوا من قبلهم!

*  *   *

 لا ننسى أن كثيراً من المفكرين والكُتَّاب واجهوا (اللامبارك) في ظل سطوته وجبروته، وأهانوه بأقلامهم، وحرّضوا عليه بألسنتهم، وألقموه بالأحذية! لأنه جنى في حق مصر جناية عظمى! فألحق مصر بذيل الأُمم بكل معايير التنمية البشرية والاقتصادية، حتى أصبحت لا وزن لها بين دول وشعوب العالم! كما ارتكب من الجرائم طوال فترة حكمه ما يستحق به المحاكمة مرات ومرات. حسبه أنه متهم بانتهاك الدستور والقانون، واقترافه جرائم ضد الإنسانية! فقد فرّط فى الاستقلال الوطني وأضاع السيادة الوطنية، وجعل سياسة مصر الخارجية تابعة للاستراتيجية الأمريكية، وسياستها الاقتصادية تابعة لتوجيهات صندوق النقد الدولي. كما جعل التطبيع مع الصهاينة من ثوابت السياسة المصرية! بلْ تعاون مع الصهاينة لضرب غزة ومحاصرتها! وتعاون مع الأمريكان لضرب العراق، واحتلال أفغانستان!

*   *   *

جدير بالذكر؛ أنه سبق سقوط (الطاغية) إرهاصات كثيرة على قرب زواله، فهجاه أحد الشعراء- قائلاً: 

ارحل كـ"زين العابدين" وما نراه أضلّ منك

ارحل وحزبكَ في يديك

ارحل فمصر بشعبها وربوعها تدعو عليك

مصر التي كانت بذاك الشرق تاجا للعلاء وقد غدت قزما لديك

ارحل وابنكَ في يديك قبل طوفان يطيح

هذي نهايتك الحزينة هل بقى شيء لديك؟

وكتب شاعر آخر قصيدة بعنوان (فرعون وقومه) يقول فيها:

أنتَ المدانُ، ولا أُدِينكْ

هم (فرعنوكَ) فتاهَ طينُكْ

أذْلَلْتهمْ وهزمتهمْ ورأيتَ منهم ما يُعينُك

وجعلتَ من وادي الرخاءِ خرابةً فيهـــا عرينُك

وجعلتنا خلفَ الشعـوب فلمْ يَثُر شعـب سجينـُكْ

يا أيها الشعبُ الصبورُ، وبعضُ صبرك ما يشينُكْ

 انهض على ألم الجراحِ ومِنْ جراحكَ ما يزينُكْ

 وإذا طغى الفرعونُ فيكَ فقل لبأسكَ: حانَ حينُكْ 

أمّا بعـد: فقد مكر (الديكتاتور) مكراً، ومكر الله مكراً .. فانظر كيف كان عاقبة مكر(الديكتاتور)!

لقد أخزاه الله في الدنيا، ليكون لمن خلفه آية!

فقد خلعه شعبه، وأسقط نظامه المستبد ... فهل من مُدَّكِر؟!

ألاَ بُعداً لمبارك، كما بعدتْ عادٌ وثمود!!