شعارات التظاهرات

نظرة في تشكيلة العقل المصري

د. نعيم محمد عبد الغني

[email protected]

الصحيح في اللغة أنها تظاهرة وليست مظاهرة، والتظاهرات وسيلة من وسائل التعبير عن الرأي، وتكون فيها الشعارات التي تنقسم إلى جمل لها جرس موسيقي عال، يستهوي الآذان، ثم معنى لما يريد المتظاهرون توصيله، وهذه الشعارات تعد لونا من ألوان الكلام، ومظهرا من مظاهر تطور اللغة، وصاحب كل شعار ينبئ عن ثقافته، ويعرض عينة من فكره.

وفي التاريخ كانت التظاهرات قائمة موجودة، ولكنها لم تكن بالطريقة التي نشهدها الآن أو نعرفها في تاريخنا المعاصر على الأقل، وكان الشعراء والكتاب هم وقود هذه التظاهرات، يلهمونها بالشعر الذي يحرك المشاعر، فتأخذ موقفا ما، ولذا نجد أن هؤلاء الشعراء والكتاب يهاجمون في شعرهم، ولطالما أخذت العلاقة بين الشعراء والحكام شدا وجذبا، فعبد الملك بن مروان غضب مثلا من قصيدة عبيد الله بن قيس الرقيات عندما قال عن خصمه مصعب بن الزبير:

إنما مصعب شهاب من الله ... تجلت عن وجهه الظلماء

ملكه ملك عزة ليس فيه ... جبروت منه ولا كبرياء.

يتقي الله في الأمور وقد أفلح من كان همه الاتقاء

والتاريخ يعج بالأمثلة الكثيرة التي لا مجال لها الآن، حيث إني سأركز في ثورة 25 يناير 2011 التي فجرها شباب الإنترنت حيث نرى تطورا ملحوظا في وسائل التعبير، فالثورة لم تبدأ ببيانات، وإنما بدأت بمحادثات على الإنترنت، ومراسلات ابتكر فيها المراسلون طرقا لا رقابة عليها، فالكل يتكلم بحرية باسمه الحقيقي أو باسمه المستعار، والكل يتناقل النكات والطرائف، والرسوم الكاريكاتورية، والصور المركبة التي وضعت لها تعليقات ساخرة، وكل هذه من وسائل التعبير، ولكن نركز على الشعارات باعتبارها أقدم هذه الوسائل على الإطلاق، لنرى ما الذي طرأ عليها من تطور، وما الذي تغير في تشكيلة العقل المصري.

أولا: استخدام العامية وتراجع الفصحى، فقد جمعت خمسة وأربعين شعارا من أفواه المتظاهرين عبر وسائل الإعلام والإنترنت، فوجدت 43 شعارا بالعامية وشعاران بالفصحى، هما: (الشعب يريد إسقاط النظام) أو (الشعب يريد إسقاط الرئيس) والشعار الثاني التصرف في شعر أبي القاسم الشابي: (إذا الشعب يوما أراد الحياة..فلا بد أن يستجيب النظام) والبيت الأصلي فلا بد أن يستجيب القدر، ومن أمثلة هذه الشعارات

ثانيا:  هذه الشعارات طالبت بموضوعات محددة هي:

*الحرية مثل شعارهم: (يا حرية فينك فينك ..الحزب الوطني بيني وبينك)، ومثل: (شدوا حيلكم يا شباب الحرية ع الابواب)، ومثل: (تحيا مصر حرة مستقلة)، ومثل: (ارحل ارحل يا سرور..خلي الشعب يشوف النور).

*الحث على عدم الخوف: (علّي وعلّي..علّي الصوت...اللي هيهتف مش هيموت)، و(الشعب المصري جرى له إيه...واقف في البلكونة ليه)، ومثل: (قالوا علينا شعب جبان...كله أهوت في الميدان).

*محاربة الفساد، وخاصة بعد توقيف عدة وزراء ورجال أعمال للتحقيق في تهم فساد، فجاءت الشعارات تصب في إطار المطلب الأول لتنحي الرئيس، لتكون كمبررات لهذا المطلب، فبعد أن نشرت الصحف أن ثروة مبارك تتراواح بين 40 إلى 70 مليار، وأن بعض الوزراء لهم قضايا فساد، جاءت الشعارات على النحو الآتي: (يا مبارك يا طيار..جبت منين 70 مليار)، (مش عايزينه حاكم، عايزينه يتحاكم). ورفع شعارات مثل: (كفاية نهب).

*مهاجمة القمع والمطالبة بالثأر لمن ظلم، فرفعت شعارات مثل: (مش عاوزينك مش عاوزينك..دم اخواتي بيني وبينك)، وأحدهم كتب في علم مصر: (حسبي الله ونعم الوكيل)، وهي كلمة يقولها الظلوم دعاء على الظالم.

*مهاجمة الاستبداد، وبرز ذلك منذ أن جاءت حركة وأطلقت على نفسها كفاية، وتقصد كفاية حكم الرئيس مبارك، وقد ردد المتظاهرون شعار: (يا سوزان قولي للبيه..ربع قرن كفاية عليه)، وجاءت لافتة يبدو أنها من نجار حيث كتب فيها: (رابطة نجاري مصر يسألون الأسطى مبارك: ما نوع الغراء الذي تستخدمه؟)، وفي هذا إشارة لتمسك مبارك بالحكم، وأنه ملتصق به، فالغراء هي المادة اللاصقة بين الأخشاب، وتمتاز بقوة لصقها.

*إدانة أعمال البلطجة وقمع المظاهرات، وجاءت لذلك شعارات مثل: (يا للعار يا للعار..حسني بيضرب شعبه نار).

*رفض المصري التدخل في شؤون بلده، واتخذ من ذلك مبررا للمطالبة بتنحي النظام، حيث يتهم المتظاهرون النظام بالعمالة لأميركا وإسرائيل، وغذى هذا الاتهام التقارير التي أوردتها الفضائيات ووكالات الأنباء وتصريحات أميركية وإسرائيلية بالخوف من سقوط نظام مبارك، فجاءت شعارات مثل: (يا مبارك يا جبان ..يا عميل الأميركان)، ومثل: (يا مبارك يا صهيون ..الشعب المصري مش ملعون)

*الحديث عن المفاوضات بين النظام والمعارضة، لتهدئة المتظاهرين، فجاءت الشعارات من طبقات مثقفة وأساتذة جامعات من داخل التظاهرات تقول: (لا لأنصاف الحلول) ومثل: (لا تفاوض ..لا رحيل..إحنا عندنا البديل).

*عدم الاعتراف بشرعية النظام الحاكم، وجاءت شعارات لتهاجم الرئيس ومجلس الشعب والدستور، فالشعارات المهاجمة للرئيس منها: (ارحل ارحل يا مبارك..قل لي مين في الشعب اختارك).

ثالثا: أن الموسيقى فيها قد تخضع لقواعد تألفها الأذن، مثل: (هو مبارك عاوز إيه ..عاوز الشعب يبوس رجليه)، ولكن الموسيقى قد تختل قواعدها لعدم قدرة المتظاهرين عن التعبير عن فكرتهم بحس موسيقي مناسب، فمثلا عندما صدر قرار تعيين نائب رئيس الجمهورية الذي اشتهر بجولات تفاوضية للتقريب بين الفصائل الفلسطينية، والمفاوضات بين إسرائيل وأميركا، قالوا له: (ارحل ارحل يا اسلمان...مش عايزين خاين كمان) لكن بعضهم عدل من هذا الشعار بحس موسيقي أعلى وليس فيه سب، فقال: (ارحل ارحل يا اسلمان..مش عايزينك أنت كمان) فكانت الموسيقى أكثر سلاسة، ويلاحظ أنه حرف في الاسم، حي لم يقل: (سليمان) حتى لا تختل موسيقى الكلمة.

رابعا: أنها شعارات محلية، وخاصة باللهجة المصرية دون غيرها، مثل كلمة "البلطجية" التي لم أسمعها إلى في القاموس المصري.

خامسا: أن من الشعارات ما اقتبس من النصوص الدينية، مثل كتابة أحدهم على لافتة: (اخرج منها مذؤوما مدحورا) وهي آية قرآنية، وهذا قطعا يعبر عن ثقافة دينية لدى المتظاهر.

سادسا: الاهتمام العام بها،  فما جعل هذه الثورة مختلفة اشتراك مثقفين وكتاب فيها، والتحليلات السياسية المصاحبة لها في الشارع أو الإعلام.

سابعا: دخول كلمات عامية في نسيج الفصحى مثل كلمة "بلطجي" التي تشتهر بها العامية المصرية، فمثلا يقولون: (ثورتنا ثورة شعبية، ضد الزور والبلطجية)، ولا نستطيع إن ندرج هذا الشعار في نطاق الفصحى وإن كان قريبا منها؛ لأن أداءه بالفصحى يفقده موسيقاه، فالناس لن تقول: (ثَورتُنَا)، بل قالوا: (سورتْنَا) سورهْ شعبيهْ، مع فتح الياء لمن يتكلمون اللهجة القاهرية، وكسرها لأهل الريف خصوصا.

ثامنا: الوعي بمفردات الشعارات واختيار الألفاظ، فقد سمعت أحدهم يعدل شعار: (ثورتنا ثورة شبابية ضد الزور والحرامية) فقال بعد أن لحق بالثورة الشيوخ: (ثورتنا ثورة شعبية) فقد تطور موقفها، لتجمع كل الأطياف والأعمار.

تاسعا: البناء على شعارات سابقة، استفادوها من الذين كانت لهم خبرة في التظاهرات، مثل الإخوان المسلمين، الذين كانوا يهتفون في تظاهراتهم: (إحنا مين إحنا مين....إحنا إخوان مسلمين) فقالوا في هذه الثورة: (إحنا مين إحنا مين إحنا إحنا المصريين) ويلاحظ في هذا الأسلوب أنه استخدم أساليب التوكي التي تقابلها في الفصحى التي تصوغ العبارة كالتالي: (نحن من؟ نحن من؟ نحن نحن المصريين) فاستخدام التوكيد اللفظي في إعادة الاستفهام، ثم الإجابة بالتوكيد اللفظي بتكرار نحن التي تكررت في الجمة أربع مرات التي تبلغ عدد كلماتها سبع كلمات، استردادا للذاتية التي يبحثون عنها والتي ذابت في القمع الذي يحاربونه، والجوع الذي يقاتلونه، وتدل على الوحدة والاشتراك، والتماسك والتكاتف أيضا.

عاشرا: التعبير عن الفكرة الرئيسة بأكثر من وسيلة، فالمتظاهرون تصاعدت مطالبهم لتصل إلى تنحي رئيس الدولة، وبات عندهم مطلبا رئيسيا وأولا، غير مبالين بما سيحدث بعد ذلك، فهم يفكرون تفكيرا مرحليا، رغم أن بعض المتحدثين يتكلم عن النتائج السلبية في تنحي الرئيس في هذا التوقيت.

حادي عشر: ظهور العقليات الرياضية كاستخدام شعارات فيها عمليات حسابية مثل:

مسلم+ مسيحي = مصر

مبارك+ الحكومة= فساد

ثاني عشر: استخدام ثقافة المعاملات الحكومية، فمثلا كتب شعار (استمارة 6 يا ريس) وهي الاستمارة التي تعطى عندما يفصل الموظف من عمله، وفي هذا إشارة إلى أن الحاكم موظف عند الشعب الذي هو مصدر السلطات.

ثالث عشر: استخدام الثقافة الرياضية، حيث صور مبارك وهو يحمل قميصا رقمه 30 في إشارة إلى مدة حكمه، وأمامه حكم يرفع في وجهه الكرت الأحمر، ليخبره بأنه طرد من المباراة.

رابع عشر: استخدام ثقافة الكمبيوتر، فقد رفعت لوحة بها سلة المهملات، ومجلد مكتوب عليه مبارك، وإشارة إلى حذفه في هذه السلة.

خامس عشر: استخدام الفكاهة والسخرية في اللافتات المرفوعة، فأحدهم كتب: (ارحل الولية عاوزة تولد والولد مش عاوز يشوفك)، وقد رفعها شاب لا يتجاوز عمره الثلاثين، وفيها إشارة إلى أن الشباب لم يروا إلا حسني مبارك فقط، ويريدون لأبنائهم عهدا جديدا، يولد مع الثورة.

سادس عشر: الأهازيج التي تدل على الفرح، وذلك حدث بعد مغادرة مبارك السلطة، حيث كتب وائل غنيم مفجر قورة 25 يناير: مبروك لمصر..المجرم غادر القصر، مصر مصر حرة والحرامية برة، والأغنية الراقصة: (دلعوه دلعوه ..الشعب المصري طلعوه.

تلك كانت ملامح خاطفة أردت أن أسجلها للتاريخ، وهي لمحات تحتاج إلى دراسة أكثر تفصيلا، ورؤية أدق تحليلا، ولكني في غمرة الفرح بتفاؤل لواقع مصر القادم، والبكاء على حالها السابق، أردت أن أسجل هذه الفكرة، راجيا أن أكملها بحثا في المستقبل القريب إن شاء الله.