عوائد التوحُّش حينما تُؤَسْلَم!
رُؤى ثقافيّة 134
أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيْفي
-1- يعقد (ابن خلدون)(1) في مقدّمته فصلًا تحت عنوان «العرب إذا تغلَّبوا على الأوطان أسرع إليها الخراب»، معلِّلًا ذلك بقوله:
«السبب في ذلك أنهم أُمَّة وحشيَّة باستحكام عوائد التوحّش وأسبابه فيهم. فصار لهم خُلقًا وجِبِلَّةً، وكان عندهم ملذوذًا؛ لما فيه من الخروج عن رِبقة الحُكم، وعدم الانقياد للسياسة. وهذه الطبيعة منافية للعمران ومناقضة له. فغاية الأحوال العاديَّة كلّها عندهم الرحلة والتقلّب [كذا، ولعلها: التغلّب]، وذلك مناقض للسكن الذي به العمران ومنافٍ له. فالحَجَر، مثلًا، حاجتهم إليه لنَصْبه أثافيَ للقُدور؛ فينقلونه من المباني ويُخربونها عليه، ويعدّونه لذلك. والخشب أيضًا إنما حاجتهم إليه ليعمدوا به خيامهم ويتخذوا الأوتاد منه لبيوتهم؛ فيُخربون السقف عليه لذلك. فصارت طبيعة وجودهم منافية للبناء الذي هو أصل العمران. هذا في حالهم على العموم. وأيضًا فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس، وأن رِزقهم في ظِلال رماحهم، وليس عندهم في أخذ أموال الناس حَدٌّ ينتهون إليه، بل كلّما امتدّت أعينُهم إلى مالٍ أو متاعٍ أو ماعونٍ انتهبوه. فإذا تَمَّ اقتدارهم على ذلك بالتغلّب والمُلك، بطلت السياسة في حفظ أموال الناس، وخَرِبَ العمران. وأيضًا فلأنهم يكلفون [كذا، والصواب: يُتلفون] على أهل الأعمال من الصنائع والحِرف أعمالهم، لا يرون لها قيمةً ولا قسطًا من الأجر والثمن؛ والأعمال كما سنذكره هي أصل المكاسب وحقيقتها؛ فإذا فسدت الأعمال وصارت مجّانًا، ضعفت الآمال في المكاسب، وانقبضت الأيدي عن العمل؛ وابْدَعَرّ [كذا والصواب: ابْذَعَرّ] الساكن، وفسد العمران. وأيضًا فإنهم ليست لهم عناية بالأحكام وزجر الناس عن المفاسد ودفاع بعضهم عن بعض؛ إنما همتهم [كذا، والصواب: همّهم] ما يأخذونه من أموال الناس نهبًا أو مغرمًا، فإذا توصَّلوا إلى ذلك وحصلوا عليه، أعرضوا عمّا بعده من تسديد أحوالهم، والنظر في مصالحهم، وقهر بعضهم عن أغراض المفاسد. وربما فرضوا العقوبات في الأموال، حرصًا على تحصيل الفائدة والجباية والاستكثار منها، كما هو شأنهم. وذلك ليس بمُغْنٍ في دفع المفاسد وزجر المتعرِّض لها؛ بل يكون ذلك زائدًا فيها لاستسهال الغُرم في جانب حصول الغرض؛ فتبقى الرعايا في ملكتهم [لعلّها: مملكتهم] كأنها فوضى دون حكم. والفوضى مهلكة للبشر مفسدة للعمران، بما ذكرناه من أن وجود المُلك خاصّة طبيعيَّة للإنسان لا يستقيم وجودهم واجتماعهم إلَّا بها.... وأيضًا فهم متنافسون في الرئاسة، وقَلَّ أن يسلِّم أحدٌ منهم الأمر لغيره، ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته، إلَّا في الأقلّ، وعلى كُره من أجل الحياء؛ فيتعدّد الحُكَّام منهم والأمراء، وتختلف الأيدي على الرعيَّة في الجباية والأحكام، فيَفسد العمران وينتقض. قال الأعرابي الوافد على (عبد الملك)، لمَّا سأله عن (الحَجَّاج)، وأراد الثناء عليه عنده بحُسن السياسة والعمران، فقال: «تركته يظلم وحده!» وانظر إلى ما ملكوه وتغلّبوا عليه من الأوطان، من لدن الخليقة، كيف تقوَّض عمرانه، وأقفر ساكنه، وبُدِّلَت الأرض فيه غير الأرض: فـ(اليَمَن) قرارهم خراب إلَّا قليلًا من الأمصار؛ و(عراق العرب) كذلك قد خَرِب عمرانه الذي كان (للفُرس) أجمع؛ و(الشام) لهذا العهد كذلك؛ و(أفريقية) و(المغرب) لمَّا جاز إليهما (بنو هلال) و(بنو سليم) منذ أول المائة الخامسة وتمرّسوا بها لثلاثمائة وخمسين من السنين قد لَحِقَ بها وعادت بسائطه خرابًا كلّها، بعد أن كان ما بين (السودان) و(البحر الرومي) كلّه عُمرانًا، تشهد بذلك آثار العمران فيه من المعالم وتماثيل البناء وشواهد القرى والمداثر [كذا، ولعلّ الصواب: المَدَر، أو المدائن].»
ولعمري، إن من المكابرة إنكار ما قاله ابن خلدون هاهنا، ونحن نشهد آيات ما يقوله اليوم، وكأنه يعلّق على أحوال العالم العربيّ الراهنة. على أن مِن الناس مَن يتَّخِذ ممَّا أورده تكئةً عنصريَّة للطعن في العرب. وتراه يلهج بمقولة ابن خلدون تلك، ويردِّدها، ويصفِّق لها فؤاده في معارض الحِجاج أو غير الحِجاج، ما تعلّق الأمر بالعرب وخصومهم. والتعصّب يُعمي ويُصِمّ، فترى بوصلته تتجه أبدًا حيثما اتّجه الهوى. ويفوت على كثير من هؤلاء، جهلًا- ولا علاج لمن غضّ الطرف عمدًا لهوى في نفسه- أن مفهوم «العرب» لدى ابن خلدون إنما يعني: «الأعراب»، البُداة، المجبولين على حياة التوحُّش، وأعراف الصحراء، بسلبها ونهبها، وترحّلها.(2) ولذا أشار إلى بني هلال وبني سليم. ومن يتتبّع كلامه عن هؤلاء وأوصافهم يُدرك ما يعني، وأنه إنما يقصد الصحراوييّن من البدو، أو البَرْبَر. والبَرْبَر هم البدو الساكنون مضارب البَرّ. وهؤلاء معروفة حالهم، وقد عرفهم العرب منذ الجاهليَّة، وعبر عصور الإسلام. وذمَّ (القرآن الكريم) إيمان الأعراب، ووصف نفاقهم وجهلهم وجاهليَّتهم، غير أنه سمّاهم «الأعراب»، لا «العرب». وأعراب البادية في جزيرة العرب ما زالوا إلى يومنا هذا يسمُّون «البدوَ»: «العربَ». ولعل هذا وراثة عن استعمال مُغرِق في القِدَم، كانت كلمة «العرب» تعني «البدو» خاصَّةً؛ لغلبة البداوة على ذلك العِرق. فابن خلدون حين يتحدّث عن «العرب» في مثل ذلك السياق لا يقصد الجنس العربي برُمَّته، بل البدو خاصّة. بدليل أن (اليَمَن)، التي ذكر خرابها على أيدي العرب، لم يدخلها العرب على عمران غير العرب فأخربوه، كما قد يُقال عن (العراق) و(الشام). ومن ثَمَّ لا يصح إسقاط قوله على العرب عامّة. أمّا لِمَ لَم يستعمل كلمة «بدو» أو «أعراب» بدل «العرب»، فتلكم هي لغة بيئته في شمال أفريقيا، هنالك كان اصطلاح العرب يُطلَق على البدو، كما رأينا ذلك في الاستعمال الشعبي إلى اليوم في جزيرة العرب، وكما كان أرباب الحواضر، في مصر أو الشام، يسمّون البدو بـ«العرب»، وظلّوا إلى وقتٍ قريب يسمّونهم كذلك. وإلّا فقد شاد العرب- بوصفهم جنسًا بشريًّا- حضارات عريقة في اليَمَن والعراق والشام منذ فجر التاريخ، شواهد عمرانها، وآثار تحضّرها ما زالت قائمة، وظلّت منابع اقتباسٍ وإلهامٍ لأُمم أخرى.
وقد أعقب ابن خلدون فصله السابق بفصل «في أن العرب لا يحصل لهم المُلك إلّا بصبغة دينيَّة من نُبوّة أو ولاية أو أثر عظيم من الدِّين على الجملة». والحقّ أن مُصاب العرب والمسلمين يتبدَّى في أسلمة ما وصفه ابن خلدون في الفصل المتعلّق بالعرب/ الأعراب، بإضفاء الصبغة الدِّينيَّة على تلك العوائد والأعراف والتقاليد. وذلك ما نشهده اليوم من الأعمال الوحشيَّة باسم الإسلام، كما في أفعال أصحاب الرايات السُّود، الذين سمّوا أنفسهم بالدولة الإسلاميَّة في العراق والشام. فهؤلاء إنما ألبسوا ما وصفه ابن خلدون في الفصل الأوّل ما وصفه في الفصل الآخر من عباءات دينيَّة، ثمّ ركبوا رؤوسهم للفتك بخلق الله. فمثَّلوا واحدًا من أقبح النماذج التاريخيَّة للخوارج، الذين ظلّ نهجهم، كما وصفنا، إلباس التوحّش الأعرابي عباءات دينيّة سوداء، ومن ثمَّ الانطلاق في الناس قتلًا وسبيًا ونهبًا وسلبًا، باسم الجهاد والله أكبر!
-2-
ومِن الناس كذلك مَن يدَّعي الانتساب إلى عِرق، وليس منه، أو إلى دِين وليس فيه، أو إلى طائفة ولا تعنيه في شيء، لكنه يوظّف دعوى انتمائه تك لمآرب سياسيَّة. كبعض الأمازيغ الأدعياء لانتماءهم إلى هذا العِرق الكريم، وما هم منه، ولكن لإثارة الفِتن والنعرات العنصريَّة في مغرب الوطن العربي. أو بعض الفُرس المدّعين انتمائهم إلى الطائفة الشيعيَّة، وما هم من هذا في قبيل ولا دبير- بدليل تخلّقهم بغير آداب الإسلام، بل جهلهم الفاضح بالقرآن، وازدرائهم للعرب والعربيّة- وإنما يتظاهرون بذلك الانتماء ويتباكون في سبيله لإثارة الفِتن والنعرات العنصريَّة في مشرق الوطن العربي، لأجل ثارات تاريخيّة لا تخفى. ولئن كان للأقليّات حقّ المطالبة بحقوقها، والاعتزاز بما تظنّه هويّاتها، فإنه ليس من حقّها الغلوّ في ذلك حتى تصل بها ردود أفعالها الذهنيَّة والثقافيَّة على ما تراه تهميشًا لجماعتها وطمسًا لهويَّتها، إلى ممارسة ما هي تشكو منه، وبأبشع أساليب الدعاية والترويج، المتنافية مع الأعراف الأخلاقيَّة والحقوقيَّة، من طمس التاريخ، والتشكيك في الهويَّات، وحوك المؤامرات، والتحالف مع أعداء شركائهم في الوطن، ومن ثَمَّ خيانة الأمانة في الالتزام بعَقد المواطنة الصالحة والتعايش السلمي، وقبول التعدُّد، بعيدًا عن إثارة الثارات، وخطابات الاستعداء، والاستقواء بالخارج، وادّعاء حقوق تاريخيَّة، تنهض على إقصاء الآخر ثقافةً وهويَّةً وأرضًا، والنضال العنصري ضدّ الأغلبيَّة من أبناء هذا البلد أو ذاك، بحُجَّة مستنبطة من ماضٍ سحيقٍ مظنون! وأيُّ نضال أحمق من نضالِ مَن يسعى إلى إعادة عجلة التاريخ إلى ما قبل آلاف السنين؟! تلك حماقة (إسرائيل) الشهيرة، التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ، وحماقة مَن مهَّد لها وناصرها، وحماقة مَن اتَّخذوا من تلك الحماقة سابقة يقتدون بها ويحذون حذوها ويحلمون باستنساخها! .
(1) (2005)، مقدّمة ابن خلدون، تح. عبدالسلام الشدّادي (الدار البيضاء: المركز الوطني للبحث العلمي والتقني)، 1: 247ــ 249.
(2) على أن الجزيرة لم تكن قديمًا بتصحّرها اليوم، حتى قُبيل الإسلام، بدليل الثروة النباتيَّة والحيوانيَّة والطبيعيَّة التي صوّرها لنا الشِّعر الجاهلي. (انظر كتابي: (1999)، شِعر ابن مُقْبِل: قَلَق الخَضْرَمة بين الجاهليِّ والإسلاميِّ: دراسة تحليليَّـة نقديَّـة، (جازان: النادي الأدبي)، 1: 239- 477). أمّا في تاريخها الأقدم، فقد دلّت الآثار على انها كانت مليئة بالبحيرات، والأنهار، والحيوانات، التي لا ذِكر لهما في تاريخ الجزيرة المعروف، ومنها تلك التي لا تعيش إلّا في أجواء باردة وفي بيئات نباتيَّة كثيفة. فحسب تقرير نُشر في مجلّة السياحة والآثار السعوديَّة («ترحال»، رجب 1435هـ، ع53، ص ص10- 13) كشف (مؤتمر الجزيرة العربيَّة الخضراء)، الذي عُقد في (جامعة أكسفورد) البريطانيَّة، حول مشروع (الهيئة العامّة للسياحة والآثار في السعوديَّة)- الذي أطلقته 2012 في هذا الصدد، ويستمر إلى 2017- عن أكثر من مئة بحيرة كانت في شمال الجزيرة ووسطها وجنوبها، وعن عدد هائل من الأنهار، وآثار حيوانيَّة لافتة، تؤكِّد اختلافًا جذريًّا لأوضاع الجزيرة، مناخيًّا وبيئيًّا، عمّا تشهده اليوم وحسب تاريخها المعهود. والإنسان ابن بيئته، تصحُّرًا، وتريُّــفًا، توحُّشًا، وتمدُّنًا.|| أ.د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي.