صراع الشرعيات والشرق الأوسط الأمريكي الجديد
صراع الشرعيات والشرق الأوسط الأمريكي الجديد
د. عصام مرتجى- غزة
[email protected]
غريزة حب السيطرة على الآخرين هي غريزة إنسانية كانت ولا زالت
منشأ لأغلب النزاعات والصراعات البشرية سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات أو حتى
الحضارات.
فقد كانت القبائل تشن الحروب والغارات على بعضها البعض لتطغى
إحداها وتسود على الآخرين مجدا وشرفا. وكانت الدول ولا زالت في صراع مستمر للسيطرة
على شيء ما كالناس، الأرض الثروة، سواء باللين أو بالقوة.
ولم يقف الصراع عند هذا الحد، بل امتد ليشمل السيطرة على الفكر
والمنهج والثقافة الخاصة بالدول الأخرى، ووصلنا لما بات يُعرف بصدام أو صراع
الحضارات. وتلك هي سنة الله في خلقه ، فما جعل الله الناس على ملة واحدة ، ولو كان
كذلك لفقدت الحياة الدنيا معناها وهدفها :
{ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء
اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم }
من الآية 48 من سورة المائدة ( قرآن كريم).
فكل جماعة بشرية تجتمع وتتآلف في العيش مع بعضها البعض وفقا
لمفاهيم وقواعد تحكم سير حياتهم قد ارتضوها وآمنوا بها لتكون دستورا لحياتهم . وهذه
القواعد تكون مستمدة من ثقافة وحضارة ومعتقدات ارتضوها لهم شرعة ومنهاجا.
فهذه القواعد أو الشريعة أو الدستور يجب أن يكون مقبولا ترضى
عنه أفراد المجتمع، ويلبي احتياجاتهم وطموحهم الإنساني، ويحسن من ظروف حياتهم بما
يتوافق مع تطور الحياة والمجتمعات الأخرى، فلا يكونوا دونها.
يقول العالم النفساني - فرويد - " إن تصرفات البشر جميعا تصدر
من قاعدتين اثنتين.. الغريزة الجنسية والرغبة في العظمة. فالأولى رغبة للأفراد ،
والثانية رغبة إنسانية عامة، فهي للفرد ( أن يكون شيئا
مذكوراً) وكذلك للمجتمع أو الدولة (الظهور والسيادة على
الدول الأخرى).
فحاجة الإنسان البالغ في حياته هي:
الصحة الجيدة،
الغذاء ،النوم ، المال ، حرية المعتقد الديني، الارتواء الجنسي ، معاش لائق
لأبنائه، و أن يكون محترما، ذا شأن في مجتمعه (أن يكون
شيئا مذكورا) أو ما سماها فرويد " الرغبة في العظمة".
وهذه الرغبات ، هي منشأ الصراع بين أفراد المجتمع والدولة ،
وهي محور التغيير والتعديل والتبديل في الدساتير والقوانين.
وعندما تعجز الدولة أو مُشَرِّعِيها من تلبية رغبات المجتمع
وطموحه ، تصبح الدولة هشة وضعيفة وفريسة للدول الأخرى التي تطمح وتطمع لسيطرة فكرها
وثقافتها على هذا المجتمع الهش. وبذلك تنشأ فرق وطوائف وكيانات تنازع وتصارع
السلطة لتشرع ما تؤمن به وتفرضه على المجتمع ككل.
وهذا ما يحدث تماما في منطقتنا العربية اليوم. تشكيك في
الشرعية والمشرعين، وهذا يلقى صدى من المجتمع المتذمر، الفاقد لحاجاته ورغباته
وطموحه، وبالتالي تكتلات رافضة ، ثم نزاع، ثم صراع على الشرعيات.
وصراع الشرعيات هو من أعقد الصراعات وأخطرها، وإشعاله قد يستمر
بلا ضمانة من أحد متى سينطفئ.
فالكل يسعى لتطبيق ما يؤمن به ليصير قانونا وشريعة يلزم بها
الآخرين ، والتي قد تتعارض ورغباتهم وحاجاتهم ومعتقداتهم. فإذا صار الدستور هو نفسه
محل النزاع ومحل الصراع خارج مؤسسات الدولة الرسمية، تفسخ المجتمع وانهارت الدولة.
هذا الصراع نجده اليوم في العراق، لبنان، السودان، فلسطين،
اليمن ، تونس، مصر .... ولا زالت رقعته تمتد، فالعالم العربي خصب بنزاعاته وصراعاته
الدينية والمذهبية والطائفية والثقافية. وكلٌ يطمح في الظهور على الآخر، وكلٌ يحب
أن تكون العظمة والسيطرة له، وقد يلجأ البعض للتحالف مع الشيطان لينال رغبته وطموحه
في السيطرة.
لذلك نرى دولة شيوعية مثل جمهورية الصين الشعبية لا زالت
متماسكة ، (وهي الدولة الأكثر سكانًا في العالم مع أكثر من 1.3 مليار نسمة، وبها
أكثر من 22 مقاطعة على مساحة تفوق التسع ملايين كيلو متر مربع)، فيما نشهد اليوم
مشاريع التقسيم تغزو المنطقة العربية لتجزيء المجزأ وتفتيت المفتت، بدأت بتقسيم
السودان الذي لم يتجاوزا سكانه الأربعين مليون نسمة، وهناك ترويج لتقسيم العراق
ومصر ....ولا ضمانة لأحد بالبقاء على حاله. فمنطقة الشرق الأوسط لها ميزتها
التاريخية والحضارية والسياسية التي تجعلها هدفا لتتقاطع مصالح الدول الكبرى عليها.
ولذلك اليوم نجد أن منطقة الشرق الأوسط بدأت تدخل مرحلة متقدمة
من الفوضى الخلاقة، التي تسحب المنطقة للخضوع الكامل لسيطرة الدول الكبرى ماديا
وثقافيا وحضاريا، لتخلق شرق أوسط جديد .
هذه الفوضى التي يخلقها الصراع على الشرعيات جاءت مرسومة
بعناية وهادفة ، فهي تستهدف المنطقة العربية التي لها صبغة ثقافية ذات طابع إسلامي
وعربي ممتد منذ قرون، ولم تؤثر فيه الحروب ولا الانفتاح على الغرب أو الشرق، ولم
يغيره قيام دولة مغايرة كدولة إسرائيل التي لا زالت تشعر بالعزلة والخوف.
وهذا ما عبر النتنياهو عنه بقوله "أؤمن أن الزعزعة التي حدثت
في منطقتنا تؤكد مرة أخرى أن إسرائيل هي جزيرة مستقرة في وسط بحر "هائج" وسنواصل
العمل بكل ما في وسعنا لنضمن أمن إسرائيل ومصالحها الحيوية أمام التحديات
المرتقبة".
اليوم تأتي هذه الفوضى الخلاقة لتفكك الطابع القومي للمنطقة
العربية، ولذا لا تجد أمريكا أو دول الغرب الكبرى حرجا في أن تنسق و تبعث بمبعوثيها
واحدا تلو الآخر للجماعات المعارضة مهما كان فكرها ، وتدعم جماعات تطالب وتحارب
لقيام دول ذات طابع قومي مختلف ، أو ذات طابع ديني مختلف عن باقي المنطقة المحيطة،
.... وبذلك تصبح المنطقة ملائمة لوجود كيانات غير متجانسة أو متلاقية فكريا أو
قوميا أو دينيا ، مما يضمن خضوعها لهيمنة الدول الكبرى واستمرارية العالم الخاضع
للقطب الواحد.
هذه الفوضى "الخلاقة" الناتجة عن صراع الشرعيات إن استمرت
وتشعبت ستؤدي حتما إلى تقويض القومية العربية ، وهي الإرث الحضاري للمنطقة الذي
يمنع ويرفض وجود "إسرائيل" ، وستدفع الجيل الجديد الباحث عن رغباته في الحياة
لقبول الانفتاح اللامحدود لاستقبال حضارة وثقافة الدول الكبرى التي تستهدفه (علها
تأخذ بيده لما يطمح) ، وبالتالي مسح الصبغة الإسلامية عن المنطقة ....... وهو ما
يوفر البيئة الملائمة لبقاء واستمرارية "إسرائيل " في البقاء والحياة.
فالقوى الكبرى التي تحكم العالم، والمتمثلة بالولايات المتحدة
الأمريكية ، ما عاد يكفيها العلاقات الجيدة مع دول المنطقة العربية وولاء حكامها
فيما لا تزال الشعوب على نفس مشاعر العداء والغضب على أمريكا وربيبتها إسرائيل،
ولكنها تريد خضوع شعوب المنطقة لسياستها خضوعا كاملا، وهذا لا يتعارض مع قيام
دويلات وكيانات ذات طابع ديني وقومي ضيق ومحدود، يُرضِي طموح الطوائف والشيع في
المنطقة.
فحضارة الأمريكي لا يعنيها فكرك أو دينيك أو كيف تؤدي طقوسك ،
طالما أنك لا تتصارع مع مصالحها، ولكن يعنيها أن تبقى المنطقة ككل في الجيب
الأمريكي وضمن سياستها الكبرى المرسومة لضمان أمنها القومي.
ولذلك نرى أن الأمريكان لا يضرهم حاليا وجود بعض الحركات
الإسلامية في أنظمة الحكم الجديدة ، طالما كان ذلك يغرقها في نزاع الشرعيات وتلبية
حاجات المجتمع، ويشغلها عن السياسات الكبرى التي ترسمها أمريكا في المنطقة. وهذا ما
يعنيه الأمريكان بالشرق الأوسط الجديد.
ومن ذلك يتضح أن الفوضى الخلاقة التي تجتاح المنطقة هي بداية
التغيير لوجه المنطقة العربية، والتي بدأت بإسقاط الشرعية عن الأنظمة الدستورية
والجمهورية ، بدعوى الاستبداد و الفساد، و لن يكون صعبا عليها أن تسقط الشرعية عن
الأنظمة الملكية الوراثية التي لا زالت بنفس الطابع القومي والديني المرفوض أمريكيا
اليوم. ولن يكون ذلك صعبا على دولة تمسك مصالح المنطقة كلها بيدها، ولها قواعد
عسكرية على امتدادها، مستغلة فساد الأنظمة وحاجة الجيل الجديد للتغير ، والجيل
كالجديد كله يتم ترويضه وترغيبه عبر وسائل الاتصالات الحديثة.
ومن ذلك يتضح أن القومية العربية والصبغة الإسلامية للمنطقة هي
الهدف الرئيسي من تأجيج الصراع على الشرعيات والسلطات في المنطقة، وليس إرساء
لقواعد الديمقراطية والحرية كما يزعم البعض.
ولذا يجب اليقظة والحذر من استغلال طموحات شباب الجيل الجديد
ورغبات الحركات المعارضة و المطالبة بالتغيير، لتكون أداة في يد الفوضى الخلاقة
لشرق أوسط أمريكي جديد بدأت تتشكل معالمه. ويقع على عاتق الجميع مسؤولية حماية
المنطقة من هذه الفوضى، وهذا لن يكون إلا بخضوع الدول العربية والإسلامية لرغبات
وطموحات شعوبها بما يحفظها من الخضوع والانبطاح للدول الأخرى. وإلا ستسقط المنطقة
كلها في هذا المخطط الرهيب المرسوم لها ، وسيظل الرغيف يركض والفرد العربي يركض
خلفه بلا نهاية.