مصر تسقط أوجاعها على أعتاب التحرير
مصر تسقط أوجاعها على أعتاب التحرير
علاء سعد حسن حميده
باحث مصري مقيم بالسعودية
في روايتي الأخيرة ( بنات وايت نايت ) التي كنت قد أتممت ثلثها عشية ( 25 يناير ) حاولت أن أرصد، وكما هو واضح من عنوانها عدد معين من الظواهر الخطيرة الدخيلة على المجتمع المصري والتي كادت أن تقوده بسرعة مطردة إلى هاوية سحيقة من الضياع والتلاشي، محاولا التعمق في التشخيص مشيرا إلى الأسباب والنتائج والتداعيات، وقد برزت أمامي مظاهر عدة في غاية الخطورة كانت كلها أعراض لا أمراض وهي ظواهر لا يمكن أن تتجاوزها العين المجردة..
كانت مصر تعاني من أوجاع حقيقية، وأمراض شيخوخة مميتة، ليس أشدها على الإطلاق احتقان طائفي متأجج، وتعصب للذات، والعنف في التعبير، وتحرش جنسي بدأ يأخذ سلوكا اعتياديا في كل تجمع شبابي، وألوان من الاحتجاج والعنف المتبادل والتخريب ظهر في صورة ميليشيات جماهير رياضية، أضف إلى ذلك حالة من غياب حقيقي لإدراك الذات، وتقزيم القضايا، واختزال مصر في منتخب شحاته وتريكة وشيكابالا، واختصار مشاكلها في مشكلات الأندية وصفقات انتقال ميدو وجدو وحسني عبد ربه!!
وغيرها من المظاهر الحادة على خلفية من السلبية المتناهية تجاه القضايا المصيرية، وسيادة الفردية والأنا ولا مبالاة غير مسبوقة، كل ذلك مركبا على ما اعتادته الشخصية المصرية من فهلوة وعدم الانتماء، وتفكك مجتمعي مريع.
فإذا بمصر تستيقظ على زلزال ثورة 25 يناير، وقد أسقطت كل أوجاعها دفعة واحدة كأن تلك الأوجاع لم تكن، مصر لم تتعافَ ولم تشفَ من أمراضها، وإنما أسقطتها كأنها لم تكن، وعادت مصر القوية الفتية الشابة بين عشية وضحاها، فإذا بها مصر المثمرة المشمسة المقمرة الوردية، كذلك يحي الله تعالى الأرض بعد موتها سبحانه!
لم يكن يمر تجمع مصري في السنوات الأخيرة منذ عرض الفيلم ( إياه ) في وسط القاهرة، دون حدوث تحرش جنسي، أبسطه خدش الحياء بالألفاظ البذيئة الجارحة، فإذا ببنات مصر بالآلاف في ميدان التحرير بحجابها ونقابها وسفورها وبنطالها وجيبها، لم يتعرض لهن أحد بكلمة واحدة مؤذية!
ويوم الأحد أقيم قداس النصارى في حضن الشباب المسلم، وشباب النصارى يوقظون المسلمين فجرا لأداء الصلاة!!
أين ذهب الاحتقان الطائفي الحاد الذي بلغ ذروته قبل خمسة وعشرين يوما فقط من اندلاع الثورة؟
تلاشى .. ذاب في حب مصر!
شباب مصر الذي كان يتقاتل ويقذف الحافلات والمنشآت بالحجارة والشماريخ الحارقة في ميليشيات تحمل اسم الألتراس أصبح اليوم شبابا مصريا فقط..
سقطت كل التقسيمات، فلا أهلي ولا زمالك، ولا أحزاب فلا وفد ولا تجمع ولا اخوان.. كلنا مصر ومصر فوق الجميع.. مصر أولا وقبل كل شيء.
إن التجربة المصرية في ميدان التحرير ومعظم ميادين مصر في مختلف محافظاتها تجربة تاريخية فريدة وعبقرية، جاء التحول فيها في الشخصية المصرية تغيرا مذهلا يذكرنا بسوابق ذكرها لنا القرآن الكريم، وهو يحكي عن التبدل الكامل الذي أصاب سحرة فرعون بصورة جماعية، عندما قدموا إلى يوم الزينة يواجهون موسى عليه السلام طامعين في أجر الدنيا ورضا الفرعون، فإذا بهم يسجدون إيمانا لله وتسليما برسالة موسى عليه السلام، ثم يرحبون بالموت في سبيل الإيمان، ويهتفون في وجه الطاغية {قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا }طه72
لقد كنت دائما أتساءل عن سر هذا التحول العبقري اللحظي في مكونات شخصية السحرة، وأبحث في ذلك عن دلالات الإعجاز، حتى تكرر المشهد في ميدان التحرير، وانتفض شباب مصر انتفاضته الكبرى، لا على حكامه فحسب، بل الانتفاضة الحقيقية كانت على ذاته، ليخرج لنا شخصية عبقرية فريدة، تحولت من النقيض إلى النقيض!!
وإذا بي أتذكر نداء أستاذنا إحسان عبد القدوس ( نحن في حاجة إلى ثورة ).. نعم لقد كانت مصر في حاجة حقيقية وماسة إلى ثورة، ليس من أهم أهدافها رحيل الحاكم أو بقاءه، ولا تعديل الدستور ولا حل مجلسي الشعب والشورى، وإنما ثورة على الذات المصرية تخرج للوجود هذا المصري الجديد ماردا عملاقا شامخا متألقا، ومصر جديدة عبقرية ورائدة، وصدق وعد الله تعالى : {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ }الأنبياء18
{ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ }الرعد17