سنن الله في التغيير
سنن الله في التغيير
د . فوّاز القاسم / سوريا
قال تعالى في كتابه العظيم : بسم الله الرحمن الرحيم
(( إنّ الله لا يغيّر ما بقوم ، حتى يغيّروا ما بأنفسهم )) صدق الله العظيم
إن من يقرأ القرآن العظيم ، ويرزقه الله نعمة التذوّق والفهم لآياته ، يجد نوعين من السنن الربّانية التي تحكم هذا الكون ...
فهناك : السنن و النواميس الكونية : وهي التي تنظم عمل الجزء الأبكم من الكون ، كالأرض والشمس والنجوم والكواكب وغيرها …
وهناك : السنن و النواميس الشرعية : وهي التي تنظم حياة الإنسان في هذا الكون من حيث إيمانه وعلاقته بربه ، أو علاقته مع بني جنسه ، أو مع المخلوقات الأخرى في هذا الكون من حوله ، وهكذا ...
ولو رحنا نتأمل هذه السنن أو النواميس أو القوانين الشرعية التي تنظم علاقات الإنسان في هذا الكون ، لوجدناها لا تقل أهمية وصرامة عن السنن والنواميس والقوانين الكونية ...
فكما أن حركة الشمس والأرض والنجوم والكواكب ، ومن ورائها تقلّب الفصول ، وتعاقب الليل والنهار ، وجريان الرياح ، ونزول الأمطار ، وتناول الغذاء ، وشرب الماء ، وتنفس الهواء ، وغيرها ، تخضع لقوانين صارمة لا تتخلف …
فكذلك حركة الإنسان على ظهر هذا الكوكب ، وعلاقاته الحضرية والاجتماعية تخضع لقوانين مماثلة ، في وحدة قانون رائعة ، تدلّ على وحدة الخالق الأكيدة …
ومن هذه القوانين التي لا تتخلف ، قوانين : بناء الأمم وانهيارها .. وقوانين : صعود الدول وسقوطها ... وقوانين : وحدة الشعوب وتشرذمها ... وقوانين : الإصلاح والتغيير في الأمة التي بدأت اليوم تباشيرها ، وعشرات القوانين غيرها ...
فالأمة ، أية أمة ، لكي تنهض لا بد لها من شروط محددة وقوانين ثابتة لا تتخلّف …
والأمة ، أية أمة ، لكي تحافظ على نهضتها لا بد لها من التقيّد الصارم بهذه الشروط والقوانين ...
وعلى كل من ينشد الإصلاح والتغيير في هذه الأمة أن يقرأ التاريخ جيداً ، ويفهمه بعمق ، ويلتزم بقوانينه ونواميسه ، التي تحكم الأحداث والظواهر التاريخية وتوجّهها لأن أي خروج على هذه القوانين ، هو كالخروج على قوانين أكل الطعام وشرب الماء وتنفس الهواء ...
والذين يتقنون ( فقه ) هذه القوانين وتطبيقها ، هم الذين يستحقون الحياة من وجهة نظر التاريخ ..
وهذا يعني : بأن الأمة التي يتولى زمام أمورها ( فقهاء ) بحيث يفقهون قوانين بناء الأمم وانهيارها ، وصعود الدول وسقوطها ، ووحدة الشعوب وتشرذمها ، وإصلاح المجتمعات وإفسادها ، وعشرات القوانين غيرها ...
ثم _ وهذا هو الأهم _ يحسنون تطبيق هذه القوانين واستثمارها ، فإنهم يقودون أممهم إلى النهوض والتقدم لا محالة....
أما الأمة التي يتولى زمام أمورها ( خطباء أغبياء ) يحسنون مجرّد التلاعب بالألفاظ لإلهاب المشاعر والعواطف فحسب ، فإنها تظل تتلهى بالأماني التي يحركها أولئك الخطباء ، حتى إذا جابهت التحديات الحقيقية فإنهم لا ( يفقهون ) ما يصنعون ، وآل أمرهم إلى التخبط والفشل الذريع ، وأحلوا أقوامهم وأوطانهم دار البوار ...!!!
ولو تتبعنا تاريخ الإسلام الحقيقي ، الذي تمثل واقعا في سيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، وخلفائه الراشدين رضوان الله عليهم ، لوجدنا هذه الحقائق قد تجلت في أبهى صورها ...
فلقد تغلب ( فقه ) الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، على ( خطابة ) أبي جهل وأعوانه من المشركين في ملحمة بدر الخالدة ، وانتهى كل منهما بجماعته إلى المصير الذي يعرفه التاريخ...
وحين حلل القرآن الكريم نتائج تلك المنازلة الفاصلة بينهما ، ذكر أن كل واحد من المؤمنين ( أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ) يعادل عشرة من المشركين ( أتباع أبي جهل ) ، وذكر العلة : (( بأنهم قومٌ لا يفقهون )) الأنفال ( 65) وهو يعني المشركين .
أي لا يفقهون قوانين : تكوين الأمم والجماعات ، ولا قوانين : تعبئة المقدرات ، ولا قوانين : بناء الحضارات ، ولا قوانين : صناعة الحياة ، ولا قوانين : النصر أو الهزيمة ...إلخ من القوانين !!!
وإن مما تتفتت الأكباد أسفاً له ، أن ( يفقه ) الأعداء هذه القوانين في عصرنا الراهن ، فيطبقوها ، ويحصلون على نتائجها ، قوة وتمكينا وانتصاراً ، بينما تغفل أمتنا عنها ، وتكون النتيجة كالذي نرى من الذل والهوان والانكسار ...!
فلقد طبق الكيان الصهيوني في مواجهته مع العرب والمسلمين منذ عام ( 1967 ) وحتى هذه اللحظة جانباً من ستراتيجية الرسول صلى الله عليه وسلم ، فأوجد لشعبه مثلاً أعلى يضحي من أجله ، ثم وحّد صفوفه ، وأحسن إعداده ، وأتقن الانتفاع بمقدّراته ، وأحسن الإستفادة من جغرافية المواجهة ، وقوانين التعبئة ، وعشرات ( القوانين ) غيرها ...
بينما طبق العرب في المقابل ( ارتجالية ) أبي جهل ، وخطبه الرنّانة ، التي قالوا فيها :( والله لا نرجع ، حتى نرد تل أبيب ، فنقيم فيها ثلاثاً ، نذبح الجزور ، ونشرب الخمر وتعزف علينا القيان ، وتغنينا أم كلثوم ، ونقذف إسرائيل في البحر ...!!! )
والتقى الجمعان ، وكانت النتيجة كما نعرفها جميعاً ... انتصار ( الفقه ) و ( فهم القوانين ) و ( تطبيق السنن ) على ( الغباء ) و ( الغوغائية ) و ( الخطابة ) ...!!!
* نعود إلى الآية الكريمة التي تشترط لحصول التغيير في واقع الأمة ، تغييراً في وعيها وفهمها وأخلاقها ... وهذا المعنى نفسه أشار إليه أحد الفلاسفة الأمريكيين ، فقال : "يحسب الناس أن الثورة تأتي بالتغيير، لكن العكس هو الصحيح ، فالتغيير هو الذي يأتي بالثورة : أي أن تغيير النفوس ، والثقافة ، والسياسية ، والمعايير الأخلاقية ، هو الذي يأتي بالثورة التي تعطي الحريّة والعدل والمساواة ).
* وأنا أرى أنه قد حدث تغيير هائل على مستوى الأمة ، ألخّصه في النقاط الهامّة التالية :
* الوعي والفهم الجمعي في الأمة :
* الوعي والفهم من أهم عوامل التغيير ، حتى أن فقهاء الأمة قدموه على العمل .
لقد كان الوعي في الأمة سابقاً مقصوراً على النخب وأهل الثقافة والاطلاع فقط ، وعلى رأسهم أبناء الحركات الإسلامية ، الذين كانوا يعيشون همَّ الدين والدعوة ، والهمَّ العام للأمة .
مصداقاً لنبوءة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، الذي خاطب أصحابه يوماً فقال: (( إنكم اليوم على بيّنة من الأمر ، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتجاهدون في سبيل الله ، ثم تظهر فيكم سكرتان : سكرة العيش ، وسكرة الجهل ، ثم تظهر فيكم سكرة حبّ الدنيا ..فإذا كنتم كذلك : لم تأمروا بالمعروف ، ولم تنهوا عن المنكر ، ولم تجاهدوا في سبيل الله ، القائمون يومئذ بالكتاب والسنّة في السرّ والعلن ، كالسابقين الأولين )) .
ثم جاءت الثورة الإعلامية والمعلوماتية والتقنية فنقلت الوعي الجمعي للأمة وخاصة جيل الشباب إلى مستويات تقدّمت فيها حتى على النخب المثقفة نفسها (الثورات الالكترونية ).
ومن الإنصاف أن أقول : بأن قناة الجزيرة وحدها ، كانت قد نقلت الوعي العام الجمعي للأمة قرناً كاملاً إلى الأمام ، ومن لا يشكر الناس ، لا يشكر الله ، فألف شكر للجزيرة .
* الشجاعة والبطولة والتضحية الجمعيّة في الأمة :
البطولة هي عملة نادرة بين البشر، ولقد صدق الرئيس البوسني الأسبق علي عزت بيغوفيتش إذ كتب في كتابه "هروبي إلى الحرية" يقول " لم يُغنِّ الشعب البوسني للذكاء، وإنما غنَّى للشجاعة... لأنها الأكثر ندرة .
وكذلك فقد كانت البطولة والشجاعة والتضحية مقتصرة على أصحاب العقائد والمباديء ، وعلى رأسهم الإسلاميين ( لقد كان الإسلاميون وما زالوا عبر التاريخ هم أكثر الناس شجاعة وتضحية ، ولقد سطروا في القرن الماضي وحده قصصاً نادرة في البطولة والاستشهاد ، سواء في حركات التحرر الوطني ضد الاستعمار في منتصف القرن الماضي ، أو في فلسطين منذ بداية الاحتلال وحتى الآن ، ثم في العراق وأفغانستان ، وصولاً إلى حركات التحرر المشتعلة الآن ضد الظلم والاستبداد الداخلي ).
ثم تحولت الشجاعة والبطولة والقدرة على التضحية إلى ظاهرة عامة ، وثقافة جمعية في الأمة ، حتى صرنا نرى طوابير الإستشهاديين في العراق وفلسطين وأفغانستان من أجل عقائدهم وأوطانهم ، ثم رأينا الشعب كله والأمة كلها تنزل إلى الشوارع في تونس ومصر واليمن والأردن وغيرها من البلاد العربية ، وهي مستعدّة للتضحية حدّ الشهادة ، من أجل عقيدتها وأوطانها ، بل من أجل حقوقها وكرامتها ، وهذه كذلك نقلة هائلة في الأمة على طريق التغيير ...!!!
* العمل الجمعي ( الهمّ العام في الأمة ) :
كانت النخب الإسلامية كما ذكرنا هي وحدها في ميدان الصراع مع مجاميع الأمن في بلدانها ، فكان لها الشرف في البطولات ومقارعة الظلم يوم كانت جماهير الشعب تنظر من بعيد إلى الصراع الدائر وكأنه لا يعنيها ، ولقد كان أولئك الشرفاء والأحرار والعظماء الذين لم تُغير خاماتِهم الأصيلة والمعطاءة انتهاكاتُ الأشرار لحقوقهم ، وعبثُ سماسرةِ الأوطان بمصائرهم ، هم من جسدوا أحلام التغيير.
إنهم المقاومون من فلسطين إلى العراق ولبنان ومصر وتونس والجزائر واليمن وغيرها من البلدان العربية ، الذين تصدوا بعقولهم وصدورهم لتزوير الواقع المعاش، ولطغيان الظلم والغباء ، ولكل الذين تاجروا بكرامتهم ، وزيفوا التاريخ والحقائق، مظهرين الهزائم على أنها إنجازات ، والخيانات على أنها انتصارات ..
وبعطائهم ودمائهم راكموا للتحولات الإيجابية في حياة شعوبهم في معارك مقاومة الظلم وانتزاع حق تقرير المصير.
هذه النخب الإسلامية ومعها مجموعة من النخب السياسية والنقابية والحقوقية والثقافية هي التي خطت الطريق ، واختلطت اليوم بشباب الانترنيت ..
ونزل الجميع إلى أرض الميدان ، لينتفضوا لكرامتهم ، ويقولوا كفى للظلم واستباحة الكرامات ، مشرعين صدورهم للرصاص الحي ، ومستعدّين جميعاً لدفع ضريبة الحريّة والكرامة مهما غلا ثمنها ، حتى لو وصلت حدّ الشهادة ، وهذه نقلة أخرى هائلة في الأمة على طريق التغيير ..!!!
ومما لا شك فيه أن مشاركة الجميع في الثورة السلمية للتغيير ، هو أكبر ضمان لنجاحها ، وقلة تكلفتها ، ونضج ثمرتها ، وعدم سرقتها أو انحرافها .
* هذا التحوّل الجمعي الهائل على مستوى الأمة هو الذي غيّر موازين القوى (وهو المقصود في قوله تعالى : إنّ الله لا يغيّر ما بقوم : من ظلم وجور وفقر وقهر وتعسّف ، حتى يغيّروا ما بأنفسهم : من خوف وجبن وجهل وحب للدنيا والتي سماها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلّم سكرات العيش والجهل وحبّ الدنيا ).
* وهذه التي ذكرناها هي بالضبط أركان نجاح الثورات كما رآها المفكر السوري العظيم عبد الرحمن الكواكبي .
الذي لخّص عوامل نجاح الثورات -أو "قواعد رفع الاستبداد" كما سماها- في ثلاثة أمور:
أولها- عموم الإحساس بالقهر والغبن لدى عامة الشعب، "فالأمة التي لا يشعر كلها أو أغلبها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية" حسب تعبيره ، وهذا يطابق ما أسميناه بالفهم العام أو الوعي الجمعي للأمة .
ثانيها- الالتزام بمنهج النضال المدني في مقارعة المستبدين ( وهذا الذي أسميناه بالعمل الجمعي أيضاً )، "فالاستبداد لا يقاوم بالشدة، وإنما يُقاوَم باللين والتدرج". وكم يتمنى المستبدون لو تحولت الثورات إلى عنف أهوج، من أجل نزع الشرعية عن غاياتها النبيلة (ولذلك يستميت اليوم أعوان الطغاة والمستفيدون منهم في إدخال عنصر العنف والبلطجية لتشويه الثورة ).
* بينما يحرص المثقفون الواعون في الأمة على الطابع السلمي الحضاري للتغيير
( حتى الآن لم يقتل شرطي واحد أو رجل أمن واحد في كل من تونس ومصر ، بل جميع الضحايا هم من الشعب الأعزل المثقف الواعي ).
ثالثها- إعداد البديل السياسي ( المنبثق من الحرية والعدل والمساواة والشورى )، والتوافق على قواعد لتداول السلطة قبل البدء بالثورة، إذ "يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يُستبدَل به الاستبداد" وهذا الذي نسميه اليوم بعملية :
* قطف ثمار الثورة ، والوصول إلى نهاياتها (تعاون الشعب مع نخبه الواعية والمثقفة لقطف ثمار الثورة ):
ولقد كتب الفقيه السياسي الفرنسي ألكسيس دو توكفيل منذ 150 عاما ( إن الثورة مثل الرواية، أهم وأصعب ما فيها هو نهايتها ).
وأنا أقول لا يجوز أن تقبل شعوبنا بعد اليوم ترقيعا للثورة أو التفافا عليها ، أو أن ترضى بما دون تفكيك بنية الاستبداد ( أكّد الغنوشي في جميع مقابلاته على ضرورة تفكيك ما أسماها بمنظومة الاستبداد ، ولا يكفي سقوط الطاغية فقط ).
* من مظاهر قطف ثمار الثورة :
* وضع الرموز السياسية والأمنية وأفراد العائلة الحاكمة ومن نهب وانتهك حقوق الشعب تحت الإقامة الجبرية لإحالتهم للمحاكمة واسترداد الحقوق والتعويض على الممتلكات.
* كذلك حل الحكومة والمجلس النيابي والحزب الحاكم، وتشكيل حكومة إنقاذ وطني في سبيل إعادة الانتخابات النيابية، بعد تعديل الدستور ، وتغيير بعض القوانين بما فيها قانون الإرهاب.
* أيضاً رفع حالة الطوارئ و تطبيق العفو التشريعي العام و الإفراج عن المعتقلين السياسيين و ضمان حرية التعبير والرأي والتنظيم وتكوين الأحزاب والجمعيات.
* وإلغاء القيود على الصحافة ووسائل الإعلام والمطبوعات .
* واحترام التعددية دون تمييز بين الفئات الاجتماعية.
* والمحاسبة على هدر المال العام وتلقي الرشاوى.
* وإصلاح المؤسسات التربوية والقضائية والأجهزة الأمنية .
* والقضاء على البطالة وإيجاد فرص عمل للشباب مع تحديد حد أدنى مناسب للأجور
* وتوفير شروط العودة الكريمة للذين هجّروا عن أوطانهم قسراً ، ليساهموا في بنائه وتطويره .
هذه هي الأهداف النهائية للثورة الناجحة ، والتي يجب أن تتضافر جهود الأمة التي فجّرت الثورة بجميع مكوّناتها للوصول إليها وترسيخها والمحافظة عليها وعولمتها...