انتحار المثقفين
شاكر فريد حسن
المثقفون على مر العصور والأزمان كانوا وسيظلون رمز وشعلة الحياة الثقافية والفكرية والسياسية،وعنوانها الحقيقي وإبداعها المتجدد . إنهم نبض الشعب ووقود الأمة وشرفها ،وسر وجودها،ولهيب معاركها الوطنية وهباتها الكفاحية وثوراتها الماجدة.
فهم أصحاب المواقف الثورية الجذرية والفكر المستنير المتقد الحر الذي ينحاز لقضايا الإنسان المقهور المسلوب الإرادة ، ويشاركون شعوبهم المضطهدة آلامها وآمالها وأوجاعها وتطلعاتها وهواجسها للتخلص من نير الظلم والطغيان والإستبداد، وذلك بصياغة نص الحرية والعدالة والإنعتاق ومواجهة العسف والقهر وسياسة الجلاد ، ورسم معالم الطريق المخضب بالدم، الذي يؤدي إلى الخلاص.
وفي اوقات المحن والصعاب والأزمات والتحولات الثورية العاصفة، جرت العادة أن تتطلع المجتمعات إلى دور إنقاذي للمثقفين العضويين ، كنوع من الإعتراف بدورهم الطليعي والريادي ووظيفتهم الخاصة في إعادة تشكل وبناء الوعي النقدي وتقديم الأفكار الجاهزة ، التي يفترض انهم الأقدر على بنائها وتشكيلها ، وكذلك الأقدر على نقد الواقع الرديء المهترئ ، والمساهمة في إصلاح المجتمع والسياسة وتطويرهما ، ومقاومة الراهن ، وإحداث التحول الديمقراطي المنشود ، وغرس الحقائق في وعي الناس ونقلها من الأذهان والعقول إلى ضمير العمل والتطبيق.
لكن في المقابل هناك فئة أخرى من المثقفين الإنتهازيين الذين يتغيرون ويتبدلون ويغيرون جلودهم كالحرباء وفق ما تقتضيه الحاجة والظروف الموضوعية والحالات الخاصة ، فيسقطون كأوراق الخريف ويتراجعون عن مواقفهم التي طالما آمنو بها ، ويبيعون أنفسهم للشيطان الرجيم في سوق النخاسة مقابل حفنة من المال والدولارات الخضراء ، أو مقابل منصب رفيع يدر عليهم الكثير.
فقبل فترة وجيزة عين الكاتب والناقد الفلسطيني والمثقف "العضوي "و"النقدي" فيصل دراج على ملاك وزارة الثقافة في السلطة الفلسطينية كمستشار ثقافي بمرتبة مدير عام على ان يبقى متنقلاً بين دمشق وعمان مع حرية مواصلة عمله في مجلة "الكرمل". وهذا الدراج كان قد أصدر في العام 1969 كتاباً عن "بؤس الثقافة في المؤسسة الفلسطينية" وجّه فيه النقد اللاذع للمؤسسة الثقافية الفلسطينية بإعتبارها مؤسسة غيرثورية بما فيها الكفاية ، ناسياً أو متناسياً إنه كان من أشد الرافضين والمناهضين والمنتقدين لإتفاقات اوسلو ولسلطة رام اللـه ، وها هو يرتمي في أحضان هذه السلطة.فأين الإستقامة والنقاء الثوري والمبدأ العقائدي والأخلاق الثورية ، التي طالما تغنى بها الدراج، ونادى فيها في كتاباته ومداخلاته، التي لا تحصى ولا تعد؟!!.
واليوم ، وفي الوقت التي ينتفض فيه الشعب المصري ضد النظام الفرعوني المصري القمعي الفاسد ، وينزل مثقفو مصر إلى الشوارع والميادين مع الجماهير الشعبية الغاضبة في ميدان التحرير وشبرا والسويس والمهندسين ، للمطالبة بتنحي حسني مبارك عن السطة، في هذا الوقت العصيب تأتي موافقة جابر عصفور على تسلم وزارة الثقافة في النظام المصري الذي يترنح ويحتضر ويلفظ أنفاسه الأخيرة.
وجابر عصفور هذا هو مثقف مصري كبير ، كان واحداً من تلك الكوكبة المثقفة المضيئة الساطعة التي وصلت إلى القاهرة ، مع أمل دنقل ويحيى الطاهر وغيرهم الكثير ، محملين بفورة الغضب الثوري الساطع ومشاعل التغيير والثورة .اتصف بالحس النقدي ،وكنا قرأنا له الكثير عن "زمن الرواية"وعن دور المثقف، وعن التنوير وحقوق الإنسان وحرية الشعوب وضرورة مقاومة الظلم والكفاح في سبيل العدل والإنعتاق.
إن قبول جابر عصفور تولي منصب وزير الثقافة في نظام قمعي فاسد أحلّ دم الشعب ، هو إهانة للثقافة العربية التنويرية وللمثقفين النقديين العرب، وضربة قوية وموجعة في صدر وصميم الإبداع الملتزم ، ولفكرة المثقف، وفكرة الحرية .
إن جابر عصفور بهذا السقوط المريع والسلوك المشين المعادي للإرادة الشعبية قد أضاع البوصلة ، وأضاع الموقف الأخلاقي ، فانتحر وفقد ريادته ومكانته الأدبية وإحترامه بين زملائه ومجايليه ، الذين يتمسكون بمواقفهم ويتنسكون في محراب الفكر الثوري والثقافة الحقيقية ، التي تملأ الشوارع والحاراات وتهز الأزقة والميادين.
وما من خيار امام المثقفين المصريين في إزاء التحديات الراهنة سوى مقاطعة جابر عصفور وتعريته وكشف الاعيبه ، والمضي قدماً مع الجماهير المصرية الغاضبة والمنتفضة حتى إسقاط نظام حسني مبارك وزمرته .