لغة حرق الجسد
مخلص برزق
إنها لغة جديدة لم تصدر بعد أي كتب أو قواميس للتعريف بها وبمفرداتها، ولم تفلح أي من مراكز الدراسات والبحوث في التنبؤ بها وبالنتائج المترتبة عليها، وما نقلته لنا الفضائيات مؤخراً كان كافياً للتعرف على الكثير من أسرارها وآثارها، وهو ما يمكن توثيقه لتسطير مجلدات عنها، ولعلنا لا نبالغ إن قلنا أن البوعزيزي أضحى مفردة مهمة من مفرداتها ومكون رئيس من مكوناتها.
هي لغة صادمة لم يسبق لشعوبنا التخاطب بها أو التعاطي معها، ما جعل ردة الفعل عليها عنيفة إلى الدرجة التي هاجت معها كل المفردات الثورية في غضبة لم نشهد لها مثيلاً داخل بلد يصنف عربياً على أنه هادئ نسبياً.
لغة أعادت الروح لأبي القاسم الشابي يهدر وسط الجماهير الغاضبة بأبياته النارية عن إرادة الحياة للشعوب الحية الحرة، ويتقدم الجموع في سيدي بوزيد ليخرج منها النيران المضطرمة في قلوبٍ أشعلت جذوتها ألسنة اللهب التي أحرقت جسد الشاب محمد البوعزيزي. نيران بدأت بجسده الغض، ولمّا تنطفئ بعد، وهي التي أحرقت في طريقها عرشاً تحصّن بأعتى المؤسسات الأمنية البوليسية في المنطقة.
نيران وقف نظام الطاغية عاجزاً حيالها محاولاً اتقاءها بإراقة الدماء غزيرة علّها تطفئ أوارها، وما درى بأن الدم في كيمياء ثورات الشعوب سائل شديد الاشتعال وعامل مساعد ومحفز على الاحتراق!!
ولنا هنا أن نتوقف ملياً عند أسرار ما بات يطلق عليه اسم "ثورة الياسمين" والتي عجز الكثير من الكتاب والمراقبين والمحللين السياسيين عن فهمها وتفسير العوامل التي جعلتها تنجح في تحقيق ما عجزت عنه ثورات شعوب كثيرة قدمت الكثير علها تحصل على معشار ما جاءت به ثورة الياسمين دون جدوى.
ولأن الخواتيم تنسب إلى البدايات، فإن بشاعة اللغة التي استخدمها البوعزيزي أدت إلى دخول عامل جديد أضيف إلى عوامل القهر والظلم والجوع والبطالة التي حرّكت الجموع، إنه عامل حب الحياة والسعي للوقوف بحزم وإصرار أمام إمكانية تكرار ذلك المشهد المروع والحدث التراجيدي بكل أبعاده..
فأمة، يُحذرها دينها من النار وعذاب النار ويدلها على كيفية اتقائها واجتناب كل الطرق المؤدية إليها، أمة يقدس دينها الروح الإنسانية ويرفع قدرها إلى أعلى حد بما يجعل هدم الكعبة أهون عند الله تعالى من إراقة دم مسلم، أمة تأتيها الأوامر والنواهي من ربها ترغيباً وترهيباً بجنة عالية أو نار لاهبة، أمة كهذه لا يمكن أن تستسيغ لغة حرق الجسد احتجاجاً على طاغية لا يعبأ بموت الآلاف كالذباب في سبيل البقاء على كرسي الرئاسة.
ولماذا يتجرع الشعب غصة احتراق أبنائه وفلذات كبده، ولا يحترق ذاك الذي أحرق قلوباً وأفئدة على حالها وأحوال أبنائها داخل وخارج البلاد، وأحال تونس الخضراء جهنم حمراء على كل مسلمٍ أبيٍّ شريف بمصادرته كل الحقوق المدنية والشرعية والإنسانية لشعب حر أبي، حتى بلغ مبلغاً لم يبلغه أحد مثله فعطّل فريضة الحج بحجة أنفلونزا الخنازير! ومنع الحجاب وحرّم ما أحل الله وأحل ما حرمه، فضلاً عن مصادرة الحريات وقمع الأحرار وتكميم الأفواه، وإشاعة جو أمني طاغ يسود فيه قانون الغاب لصالح مافيات بن علي، ويزج فيه بالصفوة في غياهب السجون، ويشرد بالباقين في أصقاع الأرض، ويتخلص من معارضيه بالتعذيب الهمجي حتى الموت، ولا غرابة في أن يسجل التاريخ عليه أن أول شهيد سقط في مظاهرات مؤيدة لغزة إبان حرب الفرقان كان على أيدي أجهزته المجرمة..
وهل يستحق مثل ذلك الطاغية أن يحرق أبناؤنا أجسادهم "ليغور" هو وأمثاله عن وجوهنا وينقشعوا عن تاريخنا؟ وهل سيتحرك العالم إن احترق الأبناء واشتعلت بأجسادهم النار؟ هل تحرك ذلك العالم المأفون عندما شويت أجساد أطفال غزة بقنابل الفوسفور؟هل تحرك عندما ألقيت أطنان القنابل الأميركية على رؤوس الأبرياء في العراق وأفغانستان؟
كل ذلك كان دافعاً كي تصل ثورة الياسمين إلى مداها حتى لا تتكرر مأساة البوعزيزي مرة أخرى، وهو ما يجب أن تعيه بقية الشعوب المسحوقة ممن بدأنا نشاهد باستهجان واشمئزاز واستغراب كبير محاولات حمقاء لمحاكاة فعل البوعزيزي صادرة عن مجموعة من الشباب في الجزائر ومصر وموريتانيا، ما يجعلنا نؤكد بأن هذه لغة مرفوضة شرعاً وعقلاً وذوقاً، وهي لن تنشر الياسمين في ربوع تلك البلاد لأن الشعب التونسي إنما فجّر ثورته المباركة كي لا يكون هناك بوعزيزي آخر!! فالفضل الأول والأخير لمن انتفض لذلك الغرض وليس لمن استخدم تلك اللغة البشعة المحرمة.. وإلى أن نجيب على تساؤل الشاعر:
وتركتني في التيه أسأل حائراً هل كان حقاً أن نموت لننتمي؟
فإننا نرسلها في كل الربوع صرخة حاسمة لا تتلجلج: إننا نرفض لغة حرق الجسد رفضاً قاطعاً ويكفينا بوعزيزي واحد.