الكرامة استحقاق، يا عصابات السُرّاق
أ.د. ناصر أحمد سنه - كاتب وأكاديمي من مصر
"العمل استحقاق، يا عصابة السُرّاق".. كان هذا الشعار من بين الشعارات العديدة المعبرة التي رفعها الشباب والشابات، والشعب التونسي الأبيّ الشقيق في ثورته المباركة الرائدة. ثورته التي قهرت الباطل، وأصنامه، وإزاحات رأس الاستبداد، وبسبيلها للقضاء علي باقي أذنابه.
لكنّ شعبٍ الزيتونة اختارَ عنوان الكرامة وسلك سبيل الحرّية، فالحرية كرامة، والعمل كرامة، فدفع بلا تردد مستحقّاتهما، من أرواح ودماء أبنائه، وبناته وأطفاله ورجاله، في سبيل أمراً كان مقضياً:"وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا" (الإسراء: 70).
فعلي مدار التاريخ البشري.. شكلت "الحرية/ الكرامة".. معني ومفهوماً، قيمةً وسلوكاً أمراً "شيّب" المعنيين من فلاسفة ومُفكرين، واجتماعيين ومُصلحين وإستراتيجيين وغيرهم. فلقد كان موضوعاً نُـظّـر له نظريات، ووضعت له فلسفات، وخطت له سلوكيات واستراتيجيات، وكان شعاراً لثورات، وقامت عليه دعاوي واتهامات بين الأفراد والجماعات والدول والتكتلات.
لكن الإسلام جاء بالحرية والكرامة الحقيقية، وقررهما حقاً لبني الإنسان كحقهم في الحياة سواء بسواء. والحياة كمنحة عزيزة كريمة لا يتحقق عزتها وكرامتها إلا بالحرية الخالية من كل صور القهر والظلم والبغي والاستعباد لغير الله تعالي. ومن يأب العبودية لله تعالي فقد استـُعبد لغيره تعالي، وأستُذل له، وتعس في الدنيا والآخره: "تعس عبد الدينار والدرهم، والقطيفة والخـََـمِصَةِ: إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرضَ"(رواه البخاري). لذا كان وصف العبودية لله تعالي أرقي وصف للأنبياء والمرسلين ومن سار دربهم نهج سبيلهم:"سبحان الذي أسري بعبده ليلاً.."(الإسراء:1).
وهاهو خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلي الله عليه وسلم، يعلنها صريحة لعمه "أبي طالب" "وسيط التفاوض غير المباشر" بين قريش، ورسولنا الأكرم صلي الله عليه وسلم، لإثنائه عن دعوته الشريفة:"والله، يا عم! لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر، حتى يظهره الله، أو أهلك فيه، ما تركته)"(السيرة النبوية لابن هشام،ج1، ص:266). فالإسلام يرسخ فينا ألا نكون عبيدا لبشر أو لدنيا أو لشهوة أو لمال أو لمتاع أو لجاه، أو لولدن وأن تكون عبوديتنا لله وحده، وفي هذا قمة الحرية والتحرر والكرامة الذي جاهدت لتحقيقه البشرية عبر كل عصورها.
وكما حرم الإسلام كل صور الاعتداء علي الدين والنفس والعقل والعرض والمال، لينعم الناس بحريتهم الحقيقة في تعاملهم مع هذه "الكُليات الخمس". بل لقد ذهب البعض لاعتبار "الحرية" مقصداً سادساً من مقاصد شرعنا الحنيف بعد تلك المقاصد والكـُليات الخمس.
لقد جعل الإسلام دية القتل الخطأ إعتاق رقبة، وتحريرها من أسار العبودية والذل. فكما تسبب "القاتل" في حرمان المجتمع من فرد من أبنائه، بالقتل، فعليه تعويض المجتمع بإعطاء الحرية لمن كان "ميتاً.. عبداً رقيقاً"، فالرق موت ، والحرية حياة. كما جعل الأبواب مُشرعة للقضاء علي كل صور الرق والعبودية و الأسر، فجعل لها مصرفاً من مصارف الزكاة الثمانية.
ولقد ضرب السلف الصالح أروع الأمثال العملية علي قيمة الحرية والكرامة الإنسانية، فاهو الفاروق "عمر بن الخطاب" رضي الله عنه يطلقها صريحة، فيسطرها التاريخ بأحرف من نور:"متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً". فربما عاني "القبطي" أو غيره من أبناء عشيرته من سياط الرومان، لكنه لما علم أن عدالة الإسلام، وعدل خليفته "عمر" رضي الله عنه ذهب ليأخذ حقه (في حادثة السباق المشهورة)، ويقتص من ابن والي مصر "عمرو بن العاص" رضي الله عنه. وهنالك "ربيعي بن عامر" يؤكد لأكاسرة الشرق، وكذا لقياصرة الغرب في آن معاً رسالة الإسلام، ولُبها:"لقد ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلي عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلي سعتها، ومن جور الأديان إلي عدل الإسلام". فالإسلام جاء مُحررا للناس، مُقررا كرامتهم، لا فرق بين فرد وآخر بسبب من لون أو نسب أو عصب. جاء ليحرر العقل من عادات وتقاليد الذل والعبودية لغير الله تعالي، ويقضس علي كل مظاهر العنصرية البغيضة، والإذلال المهين.
والحرية والكرامة في الإسلام تتعدي المسلمين إلي غيرهم، فلهم، داخل المجتمع المسلم، حرياتهم وكرامتهم، وعدم التمييز في التعامل معهم. كما لهم، داخل المجتمع الإنساني، حق التعارف والاعتراف، المصاحبة بالمعروف، وفي المعروف، وللمعروف وفق "التقوي/ والعمل الصالح" الحارس الأساس للحريات والحقوق، والمقياس الذي يزن علاقات وتفاعلات الأسر والأقران والبشرية جمعاء، ويحل تلك المعضلة المتعلقة بشأنهم جميعاً. "وازع داخلي" يبغي المثوبة من الله تعالي، ومجالاً كسبياًً يتنافس فيه المتنافسون. فتلك هي الغاية هي من جعلهم مختلفين أجناسا وألوانا ولغاتا، متفرقين شعوبا وقبائل:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (الحجرات: 13).
والحرية في الإسلام منضبطة فكراً وتفكيراً وعملاً ومصالحاً، وليست هوي أو شهوة أو إضراراً أو اعتداء أو تعدياً علي ثوابت الأمة أو حني معتقدات الآخرين:"ولا تسُبوا الذين يَدعـُون من دون الله فيسُبوا الله عدواً بـِغير علمٍ.."(الأنعام:108). ،"ومعاني الاختلاف لا تكون في الشيء المختلف فيه، بل في الأنفس المختلفة عليه، فحكمك على شيء هو عقلك أنت فيه، والقرآن نفسه قد أثبت الله تعالى فيه أقوال من عابوه، وحاورهم حوارا موضوعياً ومنطقيا، ليدل بذلك على أن الحقيقة تحتاج إلى من ينكرها ويردها، كحاجتها إلى من يُقر بها ويقبلها، فهي بأحدهما تثبت وجودها، وبالآخر تثبت قدرتها على الوجود والاستمرار"( بتصرف من كلام "الرافعى": من وحي القلم، مشروع مكتبة الأسرة 2003م، ص:163ـ 165).
فيا من تنشدون الحرية الحقيقة، وكرامة الحياة، يا من تبحثون عن الرؤية الإيجابية والهوية الذاتية، وأنموذج تحرر النفس، فاعلة مؤثرة متأثرة، صالحة مُصلحة، والمجتمع البشري، ويا من تسعون لإيجاد التوازنات والوسطية في قيم الحياة.. الفردية والمجتمعية والإنسانية. يا من أعياكم العثور عن الأسس الحقة للتعارف والتواصل مع الذات، و(الآخر)، والأسلوب العلمي والعملي للخيارات السليمة للأفراد والمجتمعات.. اهتدوا بهدي الإسلام الذي يحقق كل ذلك وغيره، فهو المَعين الصافي للحرية والكرامة الحقيقية.
عود علي بدء:
يا أهلنا في تونس الخضراء.. شكرا لكم.
شكراً لكم أيها الأشاوس في تونس الزيتونة.
للأسف لم يكن الكثيرين ، قبل هذه الثورة المباركة يعرفون من مدن تونس سوي العاصمة تونس وبعض المدن كصفاقس وجربه.. لكن الكل الآن بوده، بعدما تمثلت رموزاً للثورة ـ لو زار مناطق وجهات كسيدي بوزيد وتالا والقصرين ونابل وغيرها من ولايات الوسط والغرب والشرق الأكثر حرماناً، والأكثر فقراً وقهرا وعدواناً.
شكرا لكم: لقد أذهبتم عن الجميع شعوراً باليأس والإحباط من نيل الشعوب لحريتها وكرامتها، وقهرها الظلم والاستعباد والاستبداد.
لا.. لا لم يعد مداداً مغشوشاً، ولم تعُد تلكم المواقع والمدونات الإلكترونية، والسيل عرم من المقالات والمطبوعات والأفكار والأشعار والآداب الخ. قليلة الجدوي، أو عديمة الفائدة.
لقد أثبتم أن "لا يأس مع الحياة، ولا حياة مع اليأس"، وإنه لتدافع الإرادات، :"...وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (البقرة:251). وفي النهاية تنتصر إرادة الشعوب الحية الأبية.
- ما أروعكم وأنتم تمشون رافعي رؤؤس الكرامة والعزة في كامل تراب تونس تنشدون قول شاعر تونس والعروبة، "شابها" الذي قضي في زهرة شبابه "ابو القاسم الشابي" أبياته التي ذهبت مثلاُ يردده طلاب وطالبات، وشباب وشابات، ورجال ونساء الوطن العربي بأسره، لكن لا يسمعها طغاته ومستبديه وظالميه وجلاديه:
إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر
ولا بــد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر
- لا.. ليس "مدادا مغشوشاً"، فسيظل للقلم، ولما يسطرون ـ في حضارتنا الراهنة التي تقوم علي العلم والمعرفة، وأن "المعرفة قوة، والقوة معرفة"ـ دورهما وأثرهما وتأثيرهما، وإلا لما أقسم بهما الله تعالي في مطلع سوره من سور القرآن الكريم تحمل ذات الاسم: "ن، وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ" (القلم: 1). سيظل المنهج جليا، بينما الأزمة في التطبيق:"ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (الروم:41).
- سيبقي القلم والعمل والكلمات والفكر والثقافة "دون غش أو شلل" في هذا "التدافع" بين أصحاب الحق والباطل، بين القلم والسيف، بين الفكر والقهر، بين الحرية والاستعباد، بين الإبداع والجمود، بين الاستقلال والتبعية، بين النهوض والإرتكاس، حتى وإن تعاقبت السنون والدهور إلي أن يقضي الله أمرا كان مفعولاً.
- شكراً لكم لقد أخذتم علي عاتقكم إعطاء درس الكرامة والحرية للآخرين. لقد انتزعتم كرامتكم وحرياتكم وتحرركم، لكم الآن حرية التحاور والتشاور والتشارك فيما يطرح من مناهج للإصلاح والتغيير والنهوض؟ لا التي تهبط عليكم فتحولكم (بسلبية كاملة كأحجار شطرنج) يمنه ويسرة بين مذاهب وتوجهات وأيدلوجيات لم تكن لتنبع من قناعاتكم وخياراتكم.
- لقد أثبتم أن الطريق ليس مسدوداً، والخطان يلتقيان بين "الفاعل، والقابل". أسهمتم، يا شعب تونس الحر، في التأكيد علي أن الناس أحرار، هكذا ولدتهم أمهاتهم، ولن تنهض شعوب إلا بحرية وكرامة، تناهض "تربية القهر" ، ومحاولات الاستعباد، وتكريس التبعية، واستغلال التخلف، لتثري أقوام علي حساب أخري.
- لقد برهنتم علي مزاوجة القول للفعل، وتكريس نماذج القدوة الحسنة، إذ لا حياة للشعوب والأجيال بدون قدوات ورموز:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (الصف:2-3).
لقد فندتم مزاعم البعض أن الشرق لا يقوم إلا بـ "طبائع الاستبداد"، ودعم المستبدين. لقد حققتم خياراتكم التي تريدون، وتطلعاتكم التي تأملون.
- لديكم العقول والكفاءات متوفرة، ولن تستنزف أو تهاجر بعد اليوم، والأفكار نيرة، والثروات لا تحصي، والسواعد كثيرة، والطاقات البشرية ليست كما أو عبئاً مهملاً بل ثروة ما أعظمها من ثروة، والاستثمار فيها انفع واجدي أنواع الاستثمار.
- كلكم الآن أطراف فاعلون في عملية النهوض والتأثير والتأثر من استنهاض الهمم، ووضوح الرؤى، تحدي البرامج، وتقويم النتائج، ونظافة اليد، وتحمل المشاق، والتجرد للشأن العام، والنهوض بالتبعات والمسئوليات.
ورفه سقف الهمم والهامات، وبث الأمل والآمال ، والحث علي أبداع الخيارات والتطلعات التي ستجد واقعاً معيشاً، فالشعوب ـ وإن ضعفت ـ لا تموت، وطالما هي حية، "فلا حياة مع اليأس ولا يأس مع الحياة".
- استعدتم وطنكم الذي سُلب، وهويتكم التي أضعفت، توحدكم ووحدتكم التي انتهكت، وثرواتكم التي نُهبت، ومقدساتكم التي استبيحت. وستظل ثورتكم المباركة، لعقود من الزمن، محلاً للدرس والتأمل العبرة والعظة، ومن قبل ومن بعد.. بحراً من الاندهاش..والأمل الواعد.
- شكراً لدمائكم الزكية، وتضحياتكم الجلية. تقبل الله شهدائكم، وشفي جرحاكم... "ولا نامت أعين الجبناء".