شكراً للمخابرات المصرية
محمد فاروق الإمام
ليست هذه هي المرة الأولى التي تكشف المخابرات المصرية ما عجزت عن كشفه المخابرات السورية التي لا هم لها إلا المواطن السوري وتتبع همساته ولفتاته وحركاته وحتى نجواه.. كشفت المخابرات المصرية مشكورة عن العميل النووي السوري الذي كان يسرب المعلومات السرية والحساسة عن الصناعة النووية السورية للموساد الإسرائيلي عن طريق العميل المصري (طارق عبد الرزاق حسين) الذي أوقعته المخابرات المصرية في شراكها وتم القبض عليه مؤخراً في مصر.
لم يكن (صالح النجم) – كما كان يسميه الموساد - المسؤول عن الملف النووي السوري هو الجاسوس الأول الذي كشفت عنه المخابرات المصرية وقدمت اسمه للمخابرات السورية التي سارعت بالقبض عليه وأعدمته بعد تحقيقات سريعة وغامضة لم يكشف اللثام عنها كما هي العادة التي دأبت عليها المخابرات السورية من تعتيم متعمد عن مثل هذه المعلومات.
وقد كشفت اعترافات الجاسوس المعتقل في مصر عن أن عقيداً في المخابرات العسكرية السورية، كان مسؤولاً عن القضايا النووية، زود الموساد بمعلومات مفصلة عن الملف النووي السوري، ويعتقد أن هذه المعلومات كانت سبباً في قصف موقع الكبر في دير الزور عام 2007.
وأماطت صحيفتا "اليوم السابع" و"المصري اليوم" المصريتان اللثام، عن اعترافات الجاسوس المصري الذي أعلن عن اعتقاله في مصر الأسبوع الماضي والتى جاءت فى 350 صفحة، أن العميل السورى كان يطلق عليه اسم (صالح النجم)، ويعمل عقيداً فى المخابرات العسكرية السورية والمسؤول الأول عن الملف النووى السورى، وسعت إسرائيل لتجنيده منذ 13 عاماً ولم تسنح لها الفرصة إلا وقت تلقيه العلاج فى أحد المستشفيات
بباريس، حيث توطدت العلاقة بينه وأحد عملاء الموساد، وبدأت قصة تجنيده بعد اللعب على نقاط ضعفه من عشقه للمال والنساء.
وكشف طارق أن ضباط الموساد كلفوه بالاتصال بالعميل السوري، وأنه التقى به عدة مرات كما نقل إليه تكليفات وأموالاً وهدايا. وقال حسين: إنهما كانا يتقابلان في أماكن مختلفة في سورية وحصل منه على معلومات تتعلق بمكان تخصيب اليورانيوم وأماكن دفن النفايات النووية ومعدل التخصيب وأرسلها إلى ضابط الموساد الذي كان مسؤولاً عنه. وأضاف حسين أنّ السوري كان يستلم توجيهاته من الموساد من خط هاتفي مباشر مفتوح مع الموساد ولا أحد يمكنه أن يتصل عليه. وذكر الجاسوس طارق عبد الرازق حسين فى 12 صفحة من
اعترافاته ما يتعلق بما يُفترض أنه المفاعل النووى قرب دير الزور (شرق سورية)، الذى دمره الطيران الإسرائيلي عام 2007، حيث أكد أنه حصل على معلومات مهمة من العميل السوري تتمثل في تفاصيل دقيقة عن كيفية بناء وعمل المفاعل النووي السوري.
وأضاف طارق أنه بمجرد إرسال المعلومات عبر جهازه المشفر إلى تل أبيب، أرسل الموساد بعد ساعات قليلة خبيراً نووياً إسرائيلياً، وجلس معه 9 ساعات متواصلة يستعلم منه عن التفاصيل الدقيقة بشأن المعلومات التى حصل عليها من العميل السورى، وهى المعلومات التى كان لها دور كبير فى اختراق إسرائيل للمفاعل وتدميره عام 2007.
وأوضح طارق فى اعترافاته أن العميل السوري حصل على ما بين 750 ألفاً ومليون ونصف المليون دولار مقابل تلك المعلومات، مشيراً إلى أنه من شدة حرص الموساد على سرية العلاقة بينه وبين العميل السورى، سلموه هاتفا محمولا ذي طبيعة خاصة لا يستقبل أو يجرى مكالمات إلا لشخص واحد فقط.
وذكرت "المصري اليوم" أنها (علمت من مصادرها أن المسؤولين في المخابرات المصرية نقلوا تلك التفاصيل إلى السوريين وأمدوهم بالمعلومات التي أدلى بها حسين). وأضافت (أن سلطات الأمن السورية ألقت القبض على الشخص السوري وحاكمته وقضت بإعدامه، وتَمّ تنفيذ حكم الإعدام فعلاً).
وكانت صحيفة الشروق المصرية المستقلة قد ذكرت في وقت سابق (أن المتهم المصري قدم للمحققين المصريين "نسخة من التقارير التي تسلمها من خبير كيميائي سوري يعمل في جهاز أمني حساس حول البرنامج النووي السوري وكيفية دفن النفايات). وأوضحت الصحيفة (أنه طبقا لأقوال المتهم المصري في التحقيقات فإن الخبير الكيميائي السوري ظل يمارس الجاسوسية لمدة 13 عاما وتم إعدامه الشهر الماضي).
وحول اسم الخبير الكيماوي الذي تم إعدامه، نقل موقع (كلنا شركاء) عن خبير أمني مواكب لعملية التحقيقات (أن المعني هو مدير معهد الكيمياء التابع لمركز الدراسات والبحوث العلمية الدكتور أيمن الهبل). ومعلوم أن معهد الكيمياء يعمل تحت إدارة مكتب القائد العام للجيش والقوات المسلحة في سورية.
وذكرت صحيفة 'المصري اليوم' ان الاعترافات التي ادلى بها طارق عبدالرازق حسين في التحقيقات كشفت عن اختراق الموساد
للملف النووي السوري، وأن المعلومات التي نقلها عن الضابط السوري ربما ساعدت إسرائيل على تنفيذ هجومها على موقع الكبر عام 2007.
وكشف حسين الذي أعلن عن القاء القبض عليه الأسبوع الماضي أن ضباط الموساد كلفوه بالاتصال بالعميل السوري،
الذي سمي 'صالح النجم' وأنه التقى به عدة مرات كما نقل اليه تكليفات وأموالاً وهدايا. وتابع ان الشخص السوري يعمل مسؤولا في المخابرات العسكرية عن الملف النووي، وأنه كان يعمل مع الموساد منذ سنوات طويلة، وأمدهم بكل تفصيل عن الملف
النووي السوري.
كما قلت ليس صالح نجم هو الجاسوس الأول الذي كشفت عنه المخابرات المصرية وزودت نظيرتها المخابرات السورية بملف كامل عن أعماله وتحركاته، ففي عام 1965 كشفت المخابرات المصرية عن الجاسوس (كوهين) وقدمت لنظيرتها السورية ملف كامل عن هذا الجاسوس الخطير الذي كان الطفل المدلل عند الطبقة الحاكمة في سورية، وقد حظي بالاهتمام والرعاية عندها والتقدير لدرجة أنه أصبح في مقدمة الصفوف الأولى لقيادة حزب البعث الحاكم، ويشغل مناصب عليا فيه.
لا أقول هذا الكلام متجنياً على أحد، ولكنها الحقيقة التي شاهدتها بأم عيني وسمعتها بأذني، ففي فجر يوم الثامن عشر من أيار عام 1965 هاج سجن المزة وماج، وكنت أحد نزلائه، حيث أيقظنا على عجل جلاوذة السجن وجلاديه، وأنزلونا إلى ساحة السجن الرئيسية وصفونا على شكل نصف دائرة وكنا بالمئات، ثم جيء برجل قد لف جسده بقماش أبيض وكتب على لوحة علقت في عنقه قرار الحكم بإعدامه، وعند تفحصى لملامح الرجل تذكرته جيداً، إنه (كامل أمين ثابت) الذي شاهدته في مرتفعات الجولان، حيث كنت أؤدي الخدمة العسكرية الإلزامية في نقطة (تل زعورة) في القطاع الشمالي من الجولان.
أيقظني من دهشتي صوت مدير السجن وهو يقول موجهاً كلامه لنا نحن المعتقلين بلا جرم ارتكبناه: ستكون هذه نهايتكم يا خون ويا عملاء إسرائيل!!
وسيق الرجل وعدنا إلى مهاجع وغرف وزنازين السجن تحت ضرب العصي والسياط والكرابيج والسب والشتم دون أن تسلم الذات الإلهية والنبي الكريم والإسلام من هذه المسبات والشتائم، وعرفنا فيما بعد ان كوهين قد أعدم.
لابد من أن أعود بذاكرتي إلى اليوم الذي شاهدت فيه كامل أمين ثابت (كوهين)، وكان هذا اليوم أحد أيام صيف عام 1964 عندما زار الفريق علي علي عامر (قائد الجيوش العربية) الجولان التي كانت الجبهة السورية المقابلة للأراضي الفلسطينية المحتلة (إسرائيل)، وكانت زيارته إلى النقطة التي كنت أؤدي الخدمة فيها وهي نقطة (تل زعورة) في القطاع الشمالي من مرتفعات الجولان المنيعة، وكان بصحبته عدد كبير من القادة العسكريين والرفاق البعثيين، وكان من بينهم العقيد صلاح جديد رئيس الأركان والرفيق كامل أمين ثابت (كوهين)، وقد وقف قريباً مني (حوالي متر تقريباً) بحيث كنت أرى بوضوح وأسمع حتى الهمسات، وكان جديد وكامل أمين ثابت متلازمان ويتبادلان الناظور الحربي لمشاهدة المستعمرات الإسرائيلية التي كانت عبارة عن خمائل من الخضرة والماء والأبنية الحديثة والمزارع المنسقة والبديعة والملاعب، حيث كنا نشاهد الإسرائيليين يؤدون التمارين واللعب، وكان يشير كامل أمين ثابت بتهكم إلى هذه المستعمرات ويقول لجديد: فليبنوا ويقيموا وينشؤوا ما يحلو لهم فالنتيجة هذه المستعمرات كلها ستكون لنا!!
وأخذت الصور التذكارية لقائد الجيوش العربية ومرافقيه من الضباط والرفاق البعثيين وكان في مقدمتهم كامل أمين ثابت (كوهين). وغادر الوفد النقطة بعدها.
وذهبت الصور إلى المخابرات المصرية التي تعرفت على إيلي كوهين (كامل أمين ثابت) الجاسوس الإسرائيلي الذي سبق وقبض عليه في مصر ثم أطلق سراحه وتمكن من الفرار إلى فلسطين المحتلة. وتم إبلاغ السلطات السورية بحقيقة هذا الجاسوس وتم القبض عليه من قبل المخابرات السورية وحوكم محاكمة سريعة وأعدم، وما يثبت روايتي ما جاء في تقرارير الجاسوس المصري رفعت الجمال الشهير بـ(رأفت الهجان) وجاء في تقريره أنه:
(شاهد – يقصد كوهين - مرة في سهرة عائلية حضرها مسؤولون في الموساد وعرفوني به أنه رجل أعمال إسرائيلي في أمريكا ويغدق على إسرائيل بالتبرعات المالية.. ولم يكن هناك أى مجال للشك في الصديق اليهودي الغني، وكنت على علاقة صداقة مع طبيبة شابه من أصل مغربي اسمها (ليلى) وفي زيارة لها بمنزلها شاهدت صورة صديقنا اليهودي الغني مع امرأة جميلة وطفلين فسألتها من هذا؟ قالت إنه ايلي كوهين زوج شقيقتي ناديا وهو باحث في
وزارة الدفاع وموفد للعمل في بعض السفارات الإسرائيلية في الخارج، .. لم تغب المعلومة عن ذهني كما أنها لم تكن على قدر كبير من الأهمية العاجلة، وفي أكتوبر/تشرين أول عام 1964 كنت في رحلة عمل للاتفاق على أفواج سياحية في روما وفق تعلمات المخابرات المصرية وفي الشركة السياحية وجدت بعض المجلات والصحف ووقعت عيناي على صورة إيلي كوهين فقرأت المكتوب أسفل الصورة، (الفريق أول على عامر والوفد المرافق له بصحبة القادة العسكريين في سورية والعضو القيادي لحزب البعث العربي الإشتراكي كامل أمين ثابت)
وكان كامل هذا هو إيلي كوهين الذي سهرت معه في إسرائيل وتجمعت الخيوط في عقلي فحصلت على نسخة من هذه الجريدة اللبنانية من محل بيع الصحف بالفندق وفي المساء التقيت مع (قلب الأسد) محمد نسيم رجل المهام الصعبة في المخابرات المصرية وسألته هل يسمح لي أن أعمل خارج نطاق إسرائيل؟
فنظر لي بعيون ثاقبة..
- ماذا ؟
- قلت: خارج إسرائيل.
- قال: أوضح.
- قلت: كامل أمين ثابت أحد قيادات حزب البعث السوري هو إيلي كوهين الإسرائيلي مزروع في سورية وأخشى أن يتولى هناك منصباً كبيراً.
- قال: ما هي أدلتك؟
- قلت: هذه الصورة ولقائي معه في تل أبيب ثم أن صديقة لي اعترفت انه يعمل في جيش الدفاع.
ابتسم قلب الأسد وأوهمني أنه يعرف هذه المعلومة فأصبت بإحباط شديد ثم اقترب من
النافذة وعاد فجأة واقترب مني وقال..
- لو صدقت توقعاتك يا رفعت لسجلنا هذا بإسمك ضمن الأعمال النادرة في ملفات
المخابرات المصرية....).
وعقب هذا اللقاء طار رجال المخابرات المصرية شرقاً وغرباً للتأكد من المعلومة وفي مكتب مدير المخابرات في ذلك الوقت السيد صلاح نصر تجمعت الحقائق وقابل مدير المخابرات الرئيس جمال عبد الناصر ثم طار في نفس الليلة بطائرة خاصة الى دمشق حاملاً ملفاً ضخماً وخاصاً الى الرئيس السوري أمين حافظ. وتم القبض على إيلي كوهين وسط دهشة الجميع وأعدم هناك في 18 مايو/أيار 1965.
نعم من حق المخابرات المصرية علينا ان نقدم لهم الشكر والتقدير على ما قدموه لسورية من خدمات هي محل تقدير وامتنان من الشعب السوري، وكم كنا نتمنى لو أن أجهزة الأمن المتعددة عندنا في سورية هي من اكتشف هذا العميل الكيمائي الجديد الذي كان يسرح ويمرح لأكثر من ثلاثة عشر عاماً في ملفات التصنيع العسكرية السورية وفي مقدمتها (النووية) ويقدمها هدية إلى العدو الصهيوني لقاء بعض الفتات من المال وزجاجات الخمر والليالي الحمراء.
نتمنى على أجهزة الأمن السورية المتعددة أن تعطي بعض اهتمامها لحماية أمن الوطن وملاحقة العملاء الحقيقيين الذين ينتشرون في سورية كالفطر، ويرفعوا أيديهم عن ملاحقة همسات المواطنين وحركاتهم، ويكفوا عن التدخل في أدق تفاصيل حياتهم الخاصة وشؤون حياتهم المعيشية والتضييق على تحركاتهم وتجمعاتهم التي هي من أبسط حقوق الإنسان التي يجب أن لا يحاسب عليها، التي كفلها لهم الدستور والقانون والشرعة الدولية.